منتدى الشواجرة
منتدى الشواجرة
منتدى الشواجرة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى الشواجرة


 
الرئيسيةبوابتيأحدث الصوردخولالتسجيل

 

 رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا )

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
القديس

avatar


نقاط التميز
عدد المواضيع : 36
نقــــــــاط : 62
تاريخ التسجيل : 08/02/2010

رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا ) Empty
مُساهمةموضوع: رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا )   رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا ) Icon_minitimeالخميس فبراير 11, 2010 7:35 pm





اولاد حارتنا
النص الكامل لرائعة نجيب محفوظ .. أولاد حارتنا
بعد 35 عاما من غيابها عن الشعب المصرى
***
التفاحة الحلال :
لماذا هذه الرواية بالتحديد: لأنها واسطة العقد فى أعمال الكاتب المصرى العربى العالمى نجي محفوظ التى خصتها لجنة
نوبل بالتحية فى بيانها بفوز نجي محفوظ بجائزتها عام 1988 . وهى الدرة التى صارت "التفاحة المحرمة" التى استمتع بها
العالم آله، ماعدا المصريين ، منذ أوصى تقرير سرى أعدته لجنة الأزهر -تتكون من الشيخ محمد الغزالى والشيخ أحمد
الشرباصى والشيخ محمد أبو زهرة - بمصادرتا ووقف نشر حلقاتها فى "الأهرام" عام 1959 ن لتصبح - من تلك اللحظة
"محور صراع" خفى حينا ومعلن حينا ، بين قوى الوراء وقوى الأمام.
ولماذا هذه الرواية الآن ؟
لأن مبدعها الأصيل يرقد حاليا فى مستشفى هيئة الشرطة مصابا بمطوة فى رقبته ، صنعة بها شقى من الأشقياء الذين
قال لهم فقهاء الحاآمية أن "أولاد حارتنا" رواية ملحدة وصاحبها ملحد لابد من استتابته أو قتله .
الآن " لأننا نهديها له على سريره لعينيه المضببتين بالمياه البيضاء لذراعه اليمنى التى تعانى (بعد أن خطت أحلى
الصفحات فى سجل الأدب البديع) ضمورًا وضعفا لشرايينه التى لتلتئم بصعوبة ثلاثة وثمانين عاما.
ولماذا الأهالى ؟
لأنها آانت وستظل دوما جريدة الاستنارة والتقدم ومنبرًا فى طلعية المنابر التى تقاوم فقه الجنازير والحلكة وهى الجريدة
التى تجل قممنا الفكرية السامقة -حتى لو اختلفت بعض الآراء فى بعض القضايا.
ولأنها أردت أن يعرف الشعب آله أن اتهاز الرواية بالإلحاد اتهام زائف ومغرض لاينطبق على نص يجسد دراما حرآة البشر
جميعا فى أثواب مجازية ورؤى رمزية، أبعد ما تكون عن المضاهاة الحرفية بين التاريخ الدينى والتاريخ الرمزى لمسيرة القيم
الكبرى الثلاث : الحق ، والعدل، والحرية.
الأهالى : لأنها تؤآد أن الإبداع جدير بحرية المبدعين وتؤآد أن "الدين لله والوطن للجميع".
تبقى آلمة أخيرة حول ضجة مثارة بشأن النشر الآن .. وفى صحيفة .. إنها مغالمرة / ولكنها ليست مقامرة.
مغامرة لأن هذه هى المرة الأولى فى تاريخ الصحافة فى العالم التى تقوم فيها صحيفة بنشر نص روائى آامل دفعة واحدة
وفى الحجم العادى للصحيفة .
ولكن هذا العمل يستحق هذه المغمرة المحسوبة فإذا لم تغامر دفاعا عن نجيب محفوظ فمن أجل من نغامر؟
لقد حجبوا "أولاد حارتنا" دون وجه حق عن القارئ المصرى ، فمن الذى جعل هؤلاء "الحاجبين" أوصياء على الناس فى
الأرض؟ ومن الذى أعطاهم سلطة الفصل والقرار فى شئون الأدب والنقد؟
ومن الذى يستطيع أيا آان وزنه وحجمه أن يصادر حقنا فى أن نقرأ عملاً أدبيًا قرأه العالم آله، وتشقى فينا أن هذا العمل
"مصادر بليل" فى بيته؟
هل هذا يجوز ؟
لأنه غير جائز قانونًا وشرعًا ، فإننا قد تحملنا المسئولية آاملة فى الدفاع المشروع عن حق المصرى فى أن يعرف فى أن
يقرأ ويحكم دون وصاية من أحد ودون هوى أو زيغ أو افتئات أتاح لصبية أن ينصبوا أنفسهم أمراء إفتاء، ورجال أدعاء ، وقضاة
حكم ، بالتكفير، والقتل.
يقول نجيب محفوظ :
" إن الذين حاولوا قتلى فسروا لرواية حسب هواهم الشخصى ثم قرروا طبقا لهذا التفسير إننى مرتد يجب إباحة دمه دون
محاآمة".
وحتى لا يهدر عقل مصر ولا يستباح ، وحتى نحمى نجيب محفوظ بالأعمال لا بالأقوال، وحتى لا يتكرر مثل هذا العدوان،
فإننا نقدم "أولاد حارتنا" هدية نجيب محفوظ إلى تاريخنا الأدبى، نهديها إليها وإلى الملايين.
دره منه ، إليه :
بعد هذا، هل نحتاج إلى أن نؤآد إننا لا نسطوا على حق ، ولا نتجاهل حقوق ملكية، ولا نسعى إلى "الاستيلاء" على
حقوق نحترمها واتفاقات لانعلمها.
ولا نحتاج إلى أن نقول : إننا ندافع عن نجيب محفوظ بنشرنا هذه الرواية الدرة، ولكننا نقول بأعلى صوت وأوضحه إننا نكسر
قيودًا لا تجوز على الفكر، إحتراما منا لحرية الفكر والإبداع.
ولو خطر فى بالنا لحظة أن عملنا هذا يححمل أدنى إساءة لكاتبنا الكبير لما سمحنا لأنفسنا بالفكر مجرد التفكير فيه ومن
غير الجائز سياسيا ومهنيا وعلى أى مستوى أن نرمى بأننا نسلك سلوك الناشرين فى بيروت. لسنا آذلك، لم تكن ولن
تكون، ولكننا آنا وسنظل آتيبة مدافعية عن حرية الرآى وعن حق الإبداع، ولذلك وجدنا من الواجب وطنيا ومهنيا وفكريا
وسياسيا أن نقدم "أولاد حارتنا" الآن وليس غدا. دون إهدار لحق أو اعتداء على عقد لأننا أولا وقبل آل شئ لا نبغى ربحا
ولا نريد آسبا، ولكننا رأينا أن "نجيب مصر" قد آتب، ومن حق مصر أن تقرأ،، ويكفى ماضاع من سنوات.
ويا "هرم مصر الرابع" فى عصرنا ، لا نسألك المغفرة للذين طعنوك، ولا للذين حرضوا عليك، ولكننا نسألك المغفرة لأننا
اجترأنا عليك وتحملنا مسئولةي أن نطبع هذه الدرة ونقدمها بملاليم لا نبغى ربحا ولا نستهدف آسبا. ونحن نعتبرها ميراثا
حيا للعقل العربى وللثقافة العربةي، نملكه جميعا وندافع عنه وها نحن نؤآد رسالتك وننقل إلى المصريين آلمتك. تحية
منك إليهم ومنهم إليك .
وسلمت لنا
ولمصر
وسلمت مصر دائما .
Page 1
اولاد حارتنا .txt
افتتاحية
"الناس تحملوا البغى فى جلد ، ولاذوا بالصبر واستمسكو بالأمل، وآانوا آلما أضر بهم العسف قالوا: لابد للظلم من آخر ،
ولليل من نهار، ولنرين فى حارتنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب".
هذا حكاية حارتنا ، أو حكايات حارتنا وهو الأصدق ، لم أشهد من واقعها إلا طوره الأخير الذى عاصرته، ولكنى سجلتها
جميعا آما يرويها الرواة وما أآثرهم جميع أبناء حارتنا يروون هذه الحكايات، يرويها آل آما يسمعها فى قهوة حية أو آما
نقلت إليه خلال الأجيال، ولا سند لى فيما آتبت إلا هذه المصادر، وما أآثر المناسبات التى تدعو إلى ترديد الحكايات ، آلما
ضاق أحد بحاله، أو ناء بظلم أو سوء معاملة أشار إلى البيت الكبير على رأس الحارة من ناصيتها المتصلة بالصحراء، وقال
فى حسرة هذا بيت جدنا، جميعنا من صله، ونحن مستحقوا أوقافه، فلماذا نجوع وآيف نظام؟ ثم يأخذ فى قص القصص
والاستشهاد بسير أدهم وجبل ورفاعة وقاسم من أولاد حارتنا الأمجاد، وجدنا هذا لغز من الألغاز عمرّ فوق ما يطمع إنسان
أو يتصور حتى ضرب المثل بطول عمره، واعتزل فى بيته لكبره منذ عهد بعيد، فلم يره منذ أعتزاله أحد، وقصة اعتزاله وآبره
مما يحير العقول، ولعل الخيال أو الاغراض قد اشترآت فى إنشائها على أى حال آان يدعى الجبلاوى وباسمه سميت
حارتنا، وهو صاحب أوقافها وآل قائم فوق أرضها والأحكار المحيطة بها فى الخلاء سمعت مرة رجلاً يتحدث عنه فيقول: "هو
أصل حارتنا، وحارتنا أص مصر أم الدنيا، عاش فيها وحده وهى خلاء خراب، ثم امتلكها بقوة ساعده ومنزلته عند الوالى، آان
رجلاً لايجود الزمان بمثله، وفتوة تهاب الوحوش ذآره" وسمعت آخر يقول عنه: "آان فتوة حقًا، ولكنه لم يكن آالفتوات
الآخرين، فلم يفرض على أحد أتاوة، ولم يستكبر فى الأرض ، وآان بالضعفاء رحيما" . ثم جاء زمان فتناولته قلة من الناس
بكلام لا يليق بقدره ومكانته، وهكذا حال الدنيا. وآنت ومازلت أجد الحديث عنه شائقًا لايمل، وآم جعلنى ذلك إلى الطواف
ببيته الكبير لعلى أفوز بنظرة منه ولكن دون جدوى وآم وقفت أمام بابه الضخم أرنو إلى التمساح المحنط المرآب أعلاه،
وآم جلست فى صحراء المقطم غير بعيد من سوره الكبير فلا أرى إلا رءوس أشجار التوت والجميز والنخيل تكتنف البيت،
ونوافذه مغلقة لا تنم على أى أثر لحياة. أليس من المحزن أن يكون لنا جدّ مثل هذا الجدّ دون أن نراه أو يرانا؟ أليس من
الغريب أن يختفى هو فى هذا البيت الكبير المغلق وأن نعيش نحن فى التراب؟ وإذا تساءلت عما صار به وبنا إلى هذا
الحال سمعت من فورك القصص، وترددت على أذنيك أسماء أدهم وجبل ورفاعة وقاسم، ولن تظفر بما يبل الصدر أو يريح
العقل، قلت إن أحدًا لم يره منذ اعتزاله ، ولم يكن هذا بذى بال عند أآثر الناس فلم يهتموا منذ بادئ الأمر إلا بأوقافه
وبشروطه العشرة التى آثر القيل والقال عنها، ومن هنا ولد النزاع فى حارتنا منذ ولدت، ومضى خطره يستفحل بتعاقب
الأجيال حتى اليوم والغد، ولذلك فيس أدعى إلى السخرية المريرة من الإشارة إلى صلة القربى التى تجمع بين أبناء حارتنا
. آنا ومازلنا أسرة واحدة لم يدخلها غريب، وآل فرد فى حارتنا يعرف سكانها جميعًا نسءً ورجالاً ومع ذلك فلم تعرف حارة
حدة الخصام آما عرفناها، ولا فرق بين أبنائها النزاع آما فرق بيننا، ونظير آل ساع إلى الخير تجد عشرة فتوات يلوحون
بالنبابيت ويدعون إلى القتال حتى اعتاد الناس أن يشتروا السلامة بالإتاوة، والأمن بالخضوع والمهانة، ولاحقتهم العقوبات
الصارمة لأدنى هفوة فى القول أو فى الفعل بل للخاطرة تخطر فيشى بها الوجه وأعجب شئ أن الناس فى الحارات
القريبة منا آالعطوف وآفر الزغارى والدراسة والحسينية يحسدوننا على أوقاف حارتنا ورجالنا الأشداء، فيقولون حارة منيعة
وأوقاف تدر الخيرات فتوات لايغلبون، آل هذا حق، ولكنهم لايعلمون أننا بتنا من الفقر آالمتسولين، نعيش فى القاذورات بين
الذباب والقمل، نقنع بالفتات، ونسعى بأجساد شبه عارية، وهؤلاء الفتوات يرونهم وهم يتبخترون فوق صدورنا فيأخذهم
الإعجاب، ولكنهم ينسون أنهم إنما يتبخترون فوق صدورنا، ولا عزاء لنا إلا أن نتطلع إلى البيت الكبير ونقول فى حزن وحسرة
"هنا يقيم الجبلاوى" صاحب الأوقاف، وهو الجد ونحن الأحفاد.
شهدت :
العهد الأخير من حياة حارتنا وعاصرت الأحدات التى دفع بها إلى الوجود "عرفة" ابن حارتنا البار. وإلى أحد أصحاب عرفة
يرجع الفضل فى تسجيل حكايات حارتنا على يدة، إذ قال لى يوما: " إإنك من القلة التى تعرف الكتابة، فلماذا لا تكتب
حكايات حارتنا؟ إنها تروى بغير نظام، وتخضع لأهواء الرواة وتحزباتهم، ومن المفيد أن تسجل بأمانة فى وحدة متكاملة
ليحسن الانتفاع بها، وسوف أمدك بما لا تعلم من الأخبار والأسرار". ونشطت إلى تنفيذ الفكرة اقتناعا بوجاهتها من ناحية،
وحبًا فيمن اقترحها من ناحية أخرى, وآنت أول ن اتخذ من الكتابة حرفة فى حارتنا على رغم ما جره ذلك على من تحقير
وسخرية، وآانت مهمتى أن أآتب العرائض والشكاوى للمظلومين وأصحاب الحاجات. وعلى آثرة المتظلمين الذين
يقصدوننى فإن عملى لم يستطع أن يرفعنى عن المستوى العام للمتسولين فى حارتنا، إلى ما اطلعنى عليه من أسرار
الناس وأحزانهم حتى ضيق صدرى وأشجن قلبى، ولكن مهلاً، فإننى لا أآتب عن نفسى ولا عن متاعبى، وما أهون
متاعبى إذا قيست بمتاعب حارتنا ، حارتنا العجيبة ذات الأحداث العجيبة، آيف وجدت؟ وماذا آان من أمرها ؟ ومن هم أولاد
حارتنا ؟
نجيب محفوظ
أدهم
(1)
آان مكان حارتنا خلاء، فهو امتداد لصراء المقطم الذى يربض فى الأفق، ولم يكن بالخلاء من قائم إلا البيت الكبير الذى
شيده الجبلاوى آأنما ليتحدى به الخوف والوحشة وقطاع الطرق، آان سوره الكبير العالى يتحلق مساحة واسعة نصفها
الغربى حديقة، والشرقى مسكن مكون من أدوار ثلاثة، ويوما دعا الواقف أبناءه إلى مجلسه بالبهو التحتانى المتصل
بسلاملك الحديقة وجاء الأبناء جميعا، إدريس ، وعباس ، وروضوان وجليل وأدهم ، فى جلابيبهم الحريرية فوقفوا بين يديه
وهم من إجلاله لا يكادون ينظرون نحوه إلا خلسه، وأمرهم بالجلوس فجلسوا على المقاعد من حوله ، وراح يتفحصهم
هنية بعينيه النافذتين آأعين الصقر، ثم قام متجهًا نحو باب السلاملك، ووقف وسط الباب الكبير ينظر إلى الحديقة المترامية
التى تزحمها أشجار التوت والجميز والنخيل ، وتعترش فى جنباتها الحناء والياسمين، وتثب فوق عصونها مزقزقة العصافير.
Page 2
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
القديس

avatar


نقاط التميز
عدد المواضيع : 36
نقــــــــاط : 62
تاريخ التسجيل : 08/02/2010

رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا ) Empty
مُساهمةموضوع: رد: رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا )   رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا ) Icon_minitimeالخميس فبراير 11, 2010 7:36 pm

ضجت الحديقة بالحياة والغناء على حين ساد الصمت بالبهو وخيل إلى الأخوة أن فتوة الخلاء قد نسيهم، وهو يبدو بطولة
وعرضه خلقا فوق الآدميين آأنما من آوآب هبط وتبادولا نظرات متسالة، إن هذا شأنه إذا قرر أمرًا ذا خطر، وما يقلقهم إلا
أنه جبار فى البيت آما هو جبار فى الخلاء وأنهم حياله لا شئ. التفت الرجل نحوهم دون أن يبرح مكانه وقال بصوت خشن
عميق تردد بقوة فى أنحاء البهو الذى توارت جدرانه العالية وراء ستائر وطنافس.
- أرى من المستحسن أن يقوم غيره بإدارة الوقف.. وتفحص وجوههم رمة أخرى، ولكن لم تنم وجوههم على شئ لم تكن
إدارة الوقف مما يغرى قومًا استحبوا الفراغ والدعة وعربدة الشباب، فضلا عن هذا فإدريس الأخر الأآبر هو المرشح الطبيعى
للمنصب، فلم يعد أحد منهم يتساءل عما عنالك، وقال إدريس لنفسه: " يا له من عبء ، هذه الأفكار لا حصر لها، وهؤلاء
المستأجرين المناآيد" أما الجبلاوى فاستطرد قائلا :
- وقد وقع اختيارى على أخيكم أدهم ليدير الوقف تحت إشرافى.
عكست الوجوه وقع مفاجأة غير متوقعة، فتبودلت النظرات فى سرعة وانفعال، إلا أدهم فقد غض بصره حياءً وارتباآًا ،
وولاهم الجبلاوى ظهره وهو يقول فى عدم اآتراث:
- لهذا دعوتكم .
تفجر الغضب فى باطن إدريس فبدا آالثمل من شدة مقاومته ونظر إليه إخوته بحرج، ودارى آل منهم -عدا أدهم طبعا-
غضبه لكرامته باحتجاجه الصامت على تخطى إدريس، الذى آان تخطيًا مضاعفا لهم، أما إدريس فقال بصوت هادئ آانما
يخرج من جسم آخر:
- ولكن يا أبى .
قاطعه الأب ببرود وهو يلتفت نحوهم :
- ولكن ؟
فغضوا الأبصار حذرًا من أن يقرأ ما فى نفوسهم ، إلا إدريس فقد قال بإصرار :
- ولكننى الأخ الأآبر .
فقال الجبلاوى مستاء :
- أظن أننى أعلم ذلك ، فأنا الذى انجبتك .
فقال إدريس وحرارة غضبه أخذة فى الارتفاع :
- للأخ الأآبر حقوق لا تهضم إلا لسبب .
فحدجه الرجل بنظرة طويلة آأنما يمنحه فرصة طيبة لتدبر أمره وقال :
- أوآد لكم إنى راعيت فى اخيتارى مصلحة الجميع .
تلقى إدريس اللطمة بصبر ينفد إنه يعلم آما يضيق أبوه بالمعارضه، وإن عليه أن يتوقع لطمات أشد إذا تمادى فيها، ولكن
الغضب لم يدع له فرصة لتدبر العواقب، فأندفع خطوات حتى آاد يلاصق أدهم، وانتفخ آالديك المزهو ليعلن للأبصار فوارق
الحجم واللون والبهاء بينه وبين أخيه، وانطلق الكلام من فيه آما ينطلق نثار الريق عند العطس بغير ضابط :
- إنى وأشقائى أبناء هانم من خيرة النساء، أما هذا فإبن جارية سوداء.
شحب وجه أدهم الأسمر دون أن تند عنه حرآة، على حين لوح الجبلاوى بيده قائلا بنبرات الوعيد :
- تأدب يا إدريس .
ولكن إدريس آانت تعصف به عواصف الغضب المجنونة فهتف :
- وهو أصغرنا أيضا، فدلنى على سبب يرجحنى به إلا أن يكون زماننا زمان الخدم والعبيد؟
- اقطع لسانك رحمة بنفسك يا جاهل .
- إن قطع رأسى أحب إلىّ من الهوان .
ورفع رضوان رأسه نحو أبيه وقال برقة باسمة :
- نحن جميعا أبناؤك، ومن حقنا أن نحزن إذا افتقدنا رضاك عنا. والأمر لك على أى حال.. وغاية مرامنا أن نعرف السبب .
وعدل الجبلاوى عن إدريس إلى رضوان، مروضا غضبه لغاية فى نفسه ، فقال :
- أدهم على دراية بطباع المستأجرين ويعرف أآثرهم باسمائهم، ثم إنه على علم بالكتابة والحساب.
وعجب إدريس من قول أبيه آما عجب أخوته، متى آانت معرفة الأوشاب ميزة يفضل من أجلها إنسان، ودخول الكتاب أهون
ميزة أخرى؟ وهل آانت أم أدهم تدفع به إلى الكتاب لولا يأسها من فلاحه فى دنيا الفتوة. وتسأل إدريس متهكما :
- اتكفى هذه الأسباب لتبرير ما يراد بى من مذلة؟
فأشار الجبلاوى نحوه بضحر وقال :
- هذه إرادتى ، وما عليك إلا السمع والطاعة.
والتفت الرجل التفاتة حادة صوب أشقاء إدريس وهو يسأل ؟
- ما قولكم ؟
فلم يحتمل عباس نظرة أبيه، وقال وهو وأجم :
- سمعًا وطاعة .
وسرعان ما قال جليل وهو يفض طرفه :
- أمرك يا أبى .
وقال رضوان وهو يزدرد ريقه الجاف .
- على العين والرأس .
عند ذلك ضحك إدريس ضحكة غضب تقلصت إلى أساريره حتى قبحت وجهه وهتف :
- يا جبناء .. ما توقعت منكم إلا الهزيمة المزرية، وبالجبن يتحكم فيكم ابن الجارية السوداء.
فصاح الجبلاوى مقاطعا عن عينين تتطاير منهما النذر :
Page 3
اولاد حارتنا .txt
- إدريس !
ولكن الغشب آان قد اقتلع جذور عقله فصاح بدوره :
- ما أهون الأبوة عليك ، خلقت فتوة جبارًا فلم تعرف إلا أن تكون فتوة جبارًا، ونحن أبناءك تعاملنا آما تعامل ضحاياك
العديدين.
اقترب الجبلاوى خطوتين فى بطء آالتوثب، وقال بصوت منخفض وقد أنذرت أساريره المتقبضة بالشر:
- اقطع لسانك .
ولكن إدريس واصل صياحه قائلا :
- لن ترعينى ، أنت تعلم أننى لا أرتعب، وأنك إذا أردت ان ترفع ابن الجارية على فلن أسمعك لحن السمع والطاعة.
- ألا تدرك عاقبة التحدى يا ملعون ؟
- الملعون حقا هو ابن الجارية .
فعلت نبرات الرجل واخشوشنت وهو يقول :
- إنها زوجتى يا عربيد، فتأدب وإلا سوت بك الأرض.. وفزع الأخوة وأولهم أدهم لداريتهم ببطش أبيهم الجبار ، ولكن إدريس
آان قد بلغ من الغضب درجة لم يعد يدرك معها خطرًا آأنه مجنون يهاجم نارًا مندلعة، فصاح :
- إنك تبغضنى ، لم أآن اعلم هذا، ولكنك تبغضنى دون ريب، لعل الجارية هى التى بغضتنا إليك، سيد الخلاء وصاحب
الأوقاف والفتوة الرهيب، ولكن جارية استطاعت أن تعبث بك، وغدًا يتحدث عنك الناس بكل عجيبة يا سيد الخلاء.
- قلت لك اقطع لسانك يا ملعون .
- لا تسبنى من أجل أدهم طوب الأرض يأبى ذلك ويلعنه ، وقراراك الغريب سيجعلنا أحدوثة الأحياء والحوارى .
فصاح الجبلاوى بصوت صك الأسماع فى الحديقة والحريم .
- أغرب بعيدا عن وجهى .
- هذا بيتى، فيه أمى ، وهى سيدته دون منازع .
- لن ترى فيه بعد اليوم وإلى الأبد .
واآفهر الوجه الكبير حتى حاآى لونه النيل فى احتدام فيضانه، وتحرك صاحبه آالبنيان مكورًا قبضة من صوان، وأيقن الجميع
أن إدريس قد انتهى، ما هو إلا مأساة جديدة من المآسى التى يشهدها هذا البيت صامتا. آم من سيدة مصونة تحولت
بكلمة إلى متسولة تعيسة. وآم من رجل غادره بعد خدمة طويلة مترنحا يمل على ظهره العارى أثار سياط حملت أطرافها
بالرصاص والدم يطفح من فيه وأنفه والرعاية التى تحوط الجميع عند الرضا لا تشفع لأحد وإن عز جانبه عند الغضب لهذا
أيقن الجميع إن أدريس قد انتهى حتى إدريس بكرى الواقف ومثيله فى القوة والجمال قد انتهى . وتقدم الجبلاوى خطوتين
أخريين وهو يقول :
- لا أنت أبنى ولا أنا أبوك، ولا هذا البيت بيتك، ولا أم لك فيه ولا أخر ولا تابع، أمامك الأرض الواسعة فاذهب مصحوبًا بغضبى
ولعنتى وستعلمك الأيام حقيقة قدرك وأنت تهيم على وجهك محروما من عطفى ورعايتى.
فضرب إدريس البساط الفارسى بقدمه وصاح :
- هذا بيتى ولن أغادره .
فأنقض عليه الأب قبل أن يتقيه، وقبض على منكبه بقبضة آالمعصرة، ودفعه أمامه والآخر يتراجع مقهقرًا ، فعبرا باب
السلاملك وهبطا السلم وإدريس يتعثر ثم اخترق به ممرًا تكتنفه شجيرات الورد والحناء مفروشا بالياسمين حتى البوابة
الكبيرة فدفعه خارجا وأغلق الباب وصاح بصوت سمعه آل من يقيم فى البيت .
- الهلاك لمن يسمح له بالعودة أو يعينه عليها .
ورفع رأسه صوب نوافذ الحريم المغلقة وصاح مرة أخرى :
- وطالقة ثلاثا من تجترئ على هذا .
( 2 )
منذ ذلك اليوم الكئيب وأدهم يذهب آل صباح إلى إدارة الوقف فى المنظرة الواقعة إلى يمن باب البيت الكبير، وعمل بهمة
فى تحصيل أجور الأحكار وتوزيع أنصبة المستحقين وتقديم الحساب إلى أبيه، وأبدى فى معاملة المستأجرين لباقة
وسياسة ، فرضوا عنه على رغم ما عرف عنهم من مشاآسة وفظاظة, وآانت شروط الواقف سرًا لايدرى به أحدًا سوى
الأب، فبعث اخيار أهم للإدراة الخوف أن يكون هذا مقدمة لايثاره فى الوصية، والحق أنه لم يبد من الأب قبل ذلك اليوم ما
ينم عن التحيز فى معاملته لأبنائه، وعاش الأخوة فى وئام وانسجام بفضل مهابة الأب وعدالته، حتى إدريس -على قوته
وجماله وأسرافة أحيانا فى اللهو- لم يسئ قبل ذلك اليوم إلى أحد من أخوته، آان شابا آريما حلو المعشر حائزا الود
والإعجاب ، ولعل الأشقاء الأربعة آانوا يضمرون لأدهم شيئا من افحساس بالفارق بينهم وبينه، ولكن أحدًا منهم لم يعلن
هذا ولا اشتم منه فى آلمة أو إشارة أو سلوك، ولعل أدهم آان أشد غحساسا منهم بهذا الفارق، ولعله قارن آثيرًا بين
لونهم المضئ ولونه الأسمر، بين قوتهم ورقته، بين سمو أمهم ووضاعة أمه، ولعله عانى من ذلك أسى مكتوما والمأ دفينا،
ولكن جو البيت المعبق بشذى الرياحين الخاضع لقوة الأب وحكمته ، لم يسمح لشعور سيئ بالاستقرار فى نفسه ،
فنشأ صافى القلب والعقل.
وقال أدهم لأمه قبيل ذهابه إلى إدارة الوقف :
- بارآينى يا أمى ن فما هذا العمل الذى عهد به إلى غلا امتحان شديد لى ولك .
فقالت الأم بضراعة :
- ليكن التوفيق ظلك يا بنى، أنت ولد طيب والعقبى للطيبين.
ومضى أدهم إلى المنظرة ترمقه العيون من السلاملك والحديقة من وراء النوافذ، وجلس على مقعد ناظر الوقف وبدأ عمله
، وآان عمله أخطر نشاط إنسانى يزاول فى تلك البقعة الصحراوية ما بين المقطم شرقا والقاهرة القديمة غربا ، واتخذ
Page 4
اولاد حارتنا .txt
أدهم من الأمانة شعارصا وسجل آل مليم فى الدفتر لأول مرة فى تاريخ الوقف، وآان يسلم أخوته رواتبهم فى أدب
ينسيهم مرارة الحنق ثم يقصد أباء بحصيلة الأموال وسأله أبوه يوما:
- آيف تجد العمل يا أدهم ؟
فقال أدهم بخشوع :
- ما دمت قد عهدت به إلى فهو أعظم ما فى حياتى.
فشاعت فى الوجه العظيم البشاشة، إذ أنه على جبروته آان يستخفه طرب الثناء، وآان أدهم يحب مجلسه، وإذا جلس
إليه اختلس منه نظرات الإعجاب والحب، وآم آان يسعده أن يتابع أحاديثه وهو يروى -له ولأخوته- حكايات الزمان الأول ،
ومغامرات الفتوة والشبابا إذ هو ينطلق فى تلك البقاع ملوحا بنبوته المخيف غازيا آل موضع تطأه قدماه وبعد طرد إدريس
ظل عباس ورضوان وجليل على عادتهم من الاجتماع فوق سطح البيت، يأآلون ويشربون ويقامرون، أما أدهم فلم يكن
يطيب له الجلوس إ لا فى الحديقة، آان عاشقا للحديقة منذ درج، وآان عاشقا للناى، ولازمته تلك العادة بعد اضطلاعه
بشئون الوقف، وإن لم تعد تستأثر بجل وقته، فكان إذا فرغ من عمله فى الوقف افترش سجادة على حافة جدول، واسند
ظهره إلى جذع نخلة أو جميزة، أو استلقى تحت عريشة الياسمين، وراح يرنو إلى العصافير وما أآثر العصافير أو يتابع اليمام
وما أحلى اليمام، ثم ينفخ فى الناى محاآيا الزقزقة والهديل والتغريد ، وما أبدع المحاآاة، أو يمد الطرف نحو السماء خلال
الغصون وما اجمل السماء، ومرّ به أخوه رضوان وهو على تلك الحال فرمقه بنظرة ساخرة وقال:
- ما أضيغ الوقت الذى تنفقه فى إدارة الوقف!
فقال أدهم باسما :
- لولا إشفاقى من إغضاب أبى لشكوت.
- فلنحمد نحن المولى على الفراغ .
فقال أدهم ببساطة :
- هنيئًا لكم .
فسأله رضوان وهو يدارى الامتعاض بالابتسام .
- أتود أن تعود مثلنا ؟
- خير ما تمضى الحياة فى الحديقة والناى ؟
فقال رضوان بمرارة :
- آان إدريس يود أن يعمل .
فغض أدهم بصره وهو يقول :
- لم يكن عند إدريس وقت للعمل ولاعتبارات أخرى غضب ، أما السعادة الحقة ففى هذه الحديقة تجدها.
- ولما ذهب رضوان قال أدهم لنفسه: "الحديقة وسكانها المغردون، والماء ، والسماء، ونفسى النشوى هذه هى الحياة
الحقة آأننى أجد فى البحث عن شئ ما هذا الشئ؟ الناى احيانا يكاد يجيب ولكن السؤال يظل بلا جواب، لو تكلمت هذه
العصفورة بلغتى لشفت قلبى باليقين وللنجوم الزاهرة حديث آذلك ، اما تحصيل الإيجار فنشاز بين الأنغام".
- ووقف أدهم يوما ينظر إلى ظله الملقى على الممشى بين الورود، فإذا بظل جديد يمتد من ظله وأشياء بقدوم شخص
من المنعطف خلفه، بدأ الظل الجديد آأنما يخرج من موضع ضلوعه. والتفت وراءه فرأى فتاة سمراء وهى تهم بالتراجع
عندما اآتشفت وجوده فأشار بالوقوف فوقفت وتفحصها مليا ثم سألها برقة.
- من انت ؟
فأجابت بصوت ملعثم :
- أميمة.
إنه يذآر الاسم ، فهو لجارية ، قريبة لأمه، وآما آانت امه قبل أن يتزوج منها أبوه .
ومال إلى محدثتها أآثر فسألها :
- ماذا جاء بك إلى الحديقة ؟
فأجابت مسبلة الجفنين :
- حسبتها خالية .
- - لكن ذلك محرم عليكن .
فقالت بصوت لم يكد يسمع :
- أخطأت يا سيدى .
وتراجعت حتى توارت وراء المنعطف، ثم ترامى إلى أذنيه وقع أقدامها المسرعة، وإذا به يغمغم متأثرًا "ما أملحك!" وشعر
بأنه لم يكن قط أدخل فى خلائق الحديقة منه فى هذه اللحظة ، وإن الورد والياسمين والقرنفل والعصافير واليماما ونفسه
نغمة واحدة وقال لنفسه: "أميمة مليحة" حتى شفتاها الغليظتان مليحتان، وجميع أخوتى متزوجون عدا إدريس المتكبر،
وما أشبه لونها بلونى، وما اجمل منظر ظلها وهو مفروض فى ظلى آأنه جزء من جسدى المضطرب بالرغبات ولن يسخر
أبى من اختيارى وإلا فكيف جاز له أن يتزوج من أمى؟
( 3 )
رجع أدهم إلى إدارة الوقف بقلب مفعم بجمال غامض آالعبير وحاول آثيرا أن يراجع حساب اليوم، ولكنه لم ير فى صفحة
عقله إلا السمراء، ولم يكن عجيبا أن يرى أميمة اليوم لأول مرة فالحريم فى هذا البيت آالأعضاء الباطنية يعرفها صاحبها
على نحو ويعيض بفضلها ولكنه لايراها، واستسلم أدهم إلى تيار أفكاره الوردية حتى انتزع منه على صوت مرعد قريب
آأنما انفجر فى المنظرة نفسها وهو يصيح :
- أنا هنا ، فى الخلاء يا جبلاوى، العن الكل، اللعنة على رؤوسكم نساءً ورجالاً، واتحدى من لم تعجبه آلماتى ، سامعنى يا
Page 5
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
القديس

avatar


نقاط التميز
عدد المواضيع : 36
نقــــــــاط : 62
تاريخ التسجيل : 08/02/2010

رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا ) Empty
مُساهمةموضوع: رد: رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا )   رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا ) Icon_minitimeالخميس فبراير 11, 2010 7:37 pm

جبلاوى؟
وهتف أدهم "إدريس" وغادر المنظرة إلى الحديقة فرأى أخاه رضوان متجها نحوه فى اضطراب ظاهر ، وبادره قائلا :
- إدريس سكران، رأيته من النافذة مختل التوازن من السكر، أى فضائح تخبئ الأقدار لأسرتنا؟
فقال أدهم وهو يغضى ألمًا :
- قلبى يتقطع أسفا يا أخى .
- وما العمل ؟ إن آارثة تهددنا .
- ألا ترى يا اخى أنه يجب علينا أن نحدث أبانا فى الأمر ؟
فقطب رضوان قائلا :
- أبوك لا يراجع فى أمر، وحال إدريس هذه لا شك ضاعفت من غضبه عليه.
فغمغم أدهم فى آآبة :
- ما آان أغنانا عن هذه الأحزان .
- نعم ، النساء يبكين فى الحريم ، عباس وجليل معتكفان من الكدر ، وأبونا وحده فى حجرته لا يجرؤ أحد على الاقتراب
منه، فتساءل أدهم فى قلق وهو يشعر بأن ملابسات الحديث تدفعه إلى مأزق .
- ألا ترى أنه ينبغى أن نعمل شيئا؟
- يبدون أن آل واحد منا يود أن يلوذ بالسلامة، ولايهدد السلامة مثل طلبها بأى ثمن، غير أنى لن اجازف بمرآزى ولو
انطبقت السماء على الأرض، أما آرامة أسرتنا فتتمرغ الساعة فى التراب فى ثوب إدريس .
لماذا قصدتنى إذن؟ بين يوم وليلة انقلب أدهم غراب بين ينعق وتنهد قائلا :
- إنى برىء من آل هذا ، ولكن لن تطيب لى الحياة إن سكت .
فقال رضوان وهو يهم بالذهاب .
- لديك من الأسباب ما يوجب عليك العمل !
ومضى راجعا ولبث أدهم وحده وأذناه ترددان هذه العبارة "لديك من الأسباب.." نعم إنه المتهم دون ذنب جناه آالقلة التى
تسقط على رأس لأن الريح أطاحب بها، وآلما أسف أحد على إدريس لعن أدهم، واتجه أدهم نحو الباب ففتحه فى رفق
ومرق منه . رأى إدريس غير بعيد يترنح ردائرًا حول نفسه، يقلب عينين زائغتين، وقد تشعث رأسه وانحسر جيب جلبابه عن
شعر صدره، ولا عثرت عيناه على أدهم توثب للانقضاض آأنه قطة لمحت فأرًا، ولكن أعجزه السكر، فمال نحو الأرض وملا
قبضته ترابًا ورمى به أدهم فأصاب صدره وانتثر على عباءته وناداه أدهم برقة :
- أخى
فزمجر إدريس وهو يترنح .
- خرس يا آلب يا بن الكلب، لا أنت أخى ولا أبوك أبى، ولأدآن هذا البيت فوق رءوسكم.
فقال أدهم متوددًا :
- بل أنت أآرم هذا البيت وأنبله .
فقهقه إريس من فيه دون قلبه وصاح :
- لماذا جئت يا ابن الجارية؟ عد إلى أمك وأنزلها إلى بدروم الخدمز
فقال أدهم دون أن تتغير مودته :
- لا تستسلم للغضب ، ولا توصد الأبواب فى وجه الساعين لخيرك.
فلوح إدريس بيده ثائرًا وصاح :
- ملعون البيت الذى لا يطمئن فيه إلا الجبناء الذين يغمسون اللقمة فى ذل الخنوع، ويعبدون مذلهم، لن أعود إلى بيت أنت
فيه رئيس، فقل لأبيك إننى أعيش فى الخلاء الذى جاء منه، وإننى عدت قطاع طريق آما آان وعربيدا أثيما معتديا آما
يكون وسيشيرون إلى فى آل مكان أعيث فيه فسادا ويقولون "ابن الجبلاوى" بذلك أمرغم فى التراب يا من تظنون
أنفسكم سادة وأنتم لصوص .
وتوسل أدهم قائلا :
- أخى أفق، حاسب نفسك على آل آلمة توجب اللوم، ليس الطريق مسدودا فى وجهك إلا أن تسده بيدك، وإنى أعدك
بأن يعود آل شئ طيب إلى أصله .
فخطا إدريس نحوه بصعوبة آأن ريحًا ترجعه وقال :
- بأى قوة تعدنى يا ابن الجارية؟
فقال وهو يرمقه بحذر :
- بقوة الأخوة .
- الأخوة قذفت بها فى أول مرحاض صادفنى .
فقال أدهم متألما :
- ما سمعت منك من قبل إلا الجميل .
- طغيان أبيك أنطقنى بالحق .
- لا أحب أن يراك الناس على هذه الحال .
فأرسل إدريس ضحكة معربدة وصاح :
- وسيروننى على أسوأ منها آل يوم ، العار والفضيحة والجريمة ستحل بكم على يدى، طردنى أبوك دون حياء فليتحمل
العواقب.
ورمى بنفسه نحو أدهم فتنحى هذا عن موقفه دون تردد، فكاد إدريس يهوى على الأرض لولا أن استند إلى الجدرار، ولبث
يلهث حانقا، وينظر فى الأرض مفتشا عن حجر، فتراجع أدهم بخفة إلى الباب ودخل وأغرورقت عيناه من الحزن، وآان صياح
Page 6
اولاد حارتنا .txt
إدريس مازال صاخبا، وحانت منه التفاتة نحو السلاملك فلمح أباه خلال الباب وهو يعبر البهو فمضى نحوه وهو لا يدرى،
متغلبا على خوفه بحزنه ، ونظر إليه الجبلاوى بعينين لا تفصحان عن شئ ، وآا يقف بقامته المديدة ومنكبيه العريضين
أمام صورة محراب نقشت على جدار البهو خلفه، وأحنى أدهم رأسه قائلا :
- السلام عليكم .
فتفحصه الجبلاوى بنظرة عميقة ثم قال بصوت نفذ إلى أعماق قلبه .
- صرح بما جئت من أجله .
فقال أدهم بصوت مهموس :
- أبى ، إن أخى إدريس ..
فقاطعه الأب بصوت آضربة الفأس فى الحجر :
- لا تذآر اسمه أمامى ..
ثم وهو يمضى إلى الداخل :
- اذهب إلى عملك .
( 4 )
توالى مشرق الشمس ومغيبها على هذه البقعة الخلاء وإدريس يتردى فى مهاوى الشقاوة فى آل يوم يسجل فى آتابه
حماقة جديدة آان يدور حول البيت ليقذفه فأقذع الشتائم أو يجلس على آثب من الباب عاريا آما ولدته أمه آأنما يتشمس
وهو يترنم بأفحس الأغانى. وآان يتجول فى الأحياء القريبة فى خيلاء الفتوات يتحدى آل عابر ينظرات هجومية ويتحرش
بكل من يعترض سبيله، والناس يتحاشونه آاظمين، وهم يتهامسون "ابن الجبلاوى) ولم يحمل لغذائه هما، فكان يمد يده
بكل بساطة إلى الطعام حيث وجده فى مطعم أو على عربة، فيأآل حتى يكتظ ثم يمضى دون شكر من ناحية أو محاسبة
من الآخرين، وإذا تاقت نفسه إلى العربدة مال إلى أول حانة تصادفه ، فتقدم إليه البوظة حتى يسكر، ثم ينطلق لسانه
آالنافورة بأسرار أسرته وأعاجيبها وتقاليدها السخيفة وجنبها المهين، منوها بثورته على أبيه جبار هذه الأحياء جميعا ، ثم
يدخل فى قافية ليغرق فى الضحك، ويغنى إذا لزم الحال ويرقص وتتناهى مسرته إذا ختمت السهرة بمعرآة، ثم يذهب
مشيعا بالتحيات، وفى آل مكان اشتهر بهذه السيرة فتحاشاه الناس ما استطاعوا، ولكنهم سلموا بأمره آأنه مصيبة من
مصائب الدهر، ونال الأسرة من ذلك ما نالها من الغم والكرب وغلب الحزن أم إدريس فشلت واحتضرت، وجاء الجبلاوى
ليودعها فأشارت نحو بيدها السليمة محتجة وفاضت روحها فى أسى وغضب وخيم الحزن على الأسرة آخيوط العنكبوت،
فتوالت سمر الأخوة فوق السطح، وسكت ناى أدهم فى الحديقة.
ويما تفجر الأب عن ثورة جديدة آانت ضحيتها تلك المرة امرأة إذا تعالى صوته الجهيز وهو يلعن نرجس الخادمة ويطردها من
البيت، وعلم فى نفس اليوم أن أعرا الحمل ظهرت على المرأة فقررت حتى أقرت بأن إدريس اعتدى عليها قبل طرده،
وغادرت نرجس البيت وهى تصوت وتلطم خديها، وهامت على وجهها سحابة النهار حتى عثر عليها إدريس فألحقها برآابه
دون ترحيب، ودون جفاء ، آذلك إذا لم تكن تخلو من نفع عند الحاجة.
على أن آل مصيبة وإن جلت لابد يوما أن تُؤلف، لذلك أخذت الحياة تعود إلى مجراها المألوف فى البيت الكبير آما يعود
السكان إلى ديارهم عقب زلزال أآرههم على الفرار منها. عاد رضوان وعباس وجليل إلى ندوة السطح آما عاد أدهم إلى
سهرة الحديقة يناجى الناى فيناجيه، ووحد أميمة تضئ خواطره وتدفئ مشاعره وصورة ظلها المعانق لظله ترتسم بوضوح
فى مخيلته، فقصد مجلس أمه فى حجرتها حيث آانت تطرز شالاً ، فأفضى إليها بذات نفسه إلى أن قال :
- إن أميمة يا أمى قريبتك ..
فابتسمت أمه ابتسامة باهتة دلت على أن فرحة الخير لم تستطع التغلب على عناء مرضها وقالت :
- نعم يا أدهم ، إنها فتاة طيبة ، تصلح لك آما تصلح لها وستسعدك بمشيئة المولى.
ولما رأت تورد البهجة فى وجنتيه استدرآت قائلة :
- لا ينبغى أن تدللها يا بنى حتى لا تفسد حياتك ، وسأخاطب أباك فى الأمر لعلى أنعم برؤية ذريتك قبل أن يدرآنى
الموت.
وعندما دعاه الجبلاوى إلى مقابلته وجده يبتسم ابتسامة لطيفة حتى قال لنفسه : "لا شئ يعادل شدة أبى إلا رحمته".
وقال الأب :
- ها أنت تطلب زوجة يا أدهم ، ما أسرع الزمن، وهذا البيت يحتقر المساآين ، ولكنك باختيار أميمية، تكرم أمك، لعلك
تنجب ذرية صالحة ، لقد ضاع إدريس ، وعباس ، وجليل عقيمان ورضوان لم يعش له ولد حتى اليوم، وجميعهم لم يرثوا
عنى إلا آبريائى، فاملأ هذا البيت بذريتك وإلا ذهب عمرى هباءً.
وآانت زفة أدهم التى لم يشهد لها الحى نظيرا من قبل وحتى اليوم يجرى ذآرها مجرى الأمثال فى حارتنا. تدلت ليلتذاك
الكلوبات من غصون الأشجار ومن فوق السور حتى بدا البيت بحيرة من نور وسط الخلاء المظلم، وأقيم سرادق فوق
السطح للمغنين والمغنيات وامتدت موائد الطعام والشراب فى البهو والحديقة والخلاء المتصل بمدخل البيت الكبير. وبدأت
زفة أدهم من أقصى الجمالية عقب منتصف الليل سار فيها آل من يحب الجبلاوى أو يخافه حتى انتظم الجميع، وخطر
أدهم فى جلبا حريرى لاسة مزرآشة بين عباس وجليل، أما رضوان فسار فى المقدمة، وعلى الميني وعلى اليسار
حاملوا الشموع والورود، وتقدم الموآب مجموعة ضخمة من المنشدين والراقصين، وتعالى الغناء ، وتبعته تأوهات المطربات
وتحيات المعجبين بالجبلاوى وأدهم، حتى استيقظ الحى ودوت الزغاريد وسار الموآب من الجمالية فالعطوف ثم آفر
الزغارى والمبيضة، ينهال عليه الترحيب حتى من الفتوات، وحطب من حطب ، ورقص من رقص، ووزعت الحانات البوظة
مجانا ، فسكر حتى الغلمان، وتهاوت الجوز من جميع الغرز فى طريق الموآب هدية للمحتفلين فعبق الجو بحسن آيف
والهندى.
وفجأة لاح إدريس آما انشقت عنه الظلمة فى أخر الطريق لاح عن المنعطف المفضى إلى الخلاء على ضوء الكلوبات التى
Page 7
اولاد حارتنا .txt
تتقدم الموآب فتوقف حاملوا الكلوبات عن السير وانتشر التهامس باسم إدريس ولمحته أعين المنشدين فاعترض الخوف
حناجرهم فكفت عن الغناء وراء الراقصون فجمدت أوساطهم وسرعان ما سكتت المزامير، وخرست الطبول، وغاضت
الضحكات وتساءل آثيرون عم يفعلون، فهم إن استكانوا لم يأمنوا الأذى وإن ضربوا لم يضربوا إلا ابن الجبلاوى ، ولوح إدريس
بنبوته وهو يصيح:
- لمن الزفة يا حثالة الجبناء ؟
فساد الصمت واشرأبت الأعناق نحو أدهم وإخوته، وعاد إدريس يتساءل:
- متى آنتم لابن الجارية أو لأبيه أصدقاء؟
عند ذاك تقدم رضوان خطوات وهتف قائلا :
- أخى من الحكمة أن تدع الزفة تمر.
فصاح إدريس مقطبا :
- أنت أخر من يتكلم يا رضوان، أنت أخ خائن وابن جبان، وذليل يشترى رغد العيش بالكرامة والأخوة.
فقال رضوان بإشفاق :
- لا شأن للناس باختافاتنا ..
ففقهقه إدريس قائلا :
- الناس يعلمون بخريكم ، ولولا جبنهم العريق ما وجدت هذه الزفة زامرًا أو منشدًا .
فقال رضوان بعزم ثابت :
- أبوك عهد إلينا باخيك ، ولا بد أن نحفظه .
فعاد إدريس يقهقه وهو يتساءل :
- أريت أنك تدافع عن نفسك لا عن ابن الجارية؟
- أين رشادك يا أخى؟ بالحكمة وحدها تعود إلى بيتك .
إنك آاذب ، وأنت تعلم أنك آاذب ..
فقال رضوان فى حزن :
- لن ألومك فيما يخصنى ، ولكن دع الزفة تمر بسلام.
فكان جوابه أن انقض على الموآب الكثور الهائح، وأخذ نبوته يرتفع ويهوى فتتحطم الكلوبات وتتصدع الطبول وتبعثر الورود ،
وراح الناس يولون مذعورين آالرمال أمام العاصفة ، وتكاتف رضوان وعباس وجليل أمام أدهم فتضاعف غضب إدريس.
- يا أنذال ، تدافعون عمن تكرهون خوفا على الطعام والشراب ..
وهجم عليهم .. فتلقوا ضرباته بنبابيتهم دون أن يردوا عليها وهم يتراجعون، وإذا به يرمى بنفه فجأة بينهم فيثور سبيلا إلى
موقف أدهم فعلا الصوت فى النوافذ، وهتف أدهم وهو يتحفز للدفاع عن نفسه.
- إدريس ، لست عدوًا لك فارجع إلى عقلك .
ورفع إدريس نبوته، وهنا صاح صائح "الجبلاوى" وصاح رضوان مخاطبا إدريس :
- أبوك قادم .
فوثب إدريس إلى جانب اطلريق والتفت إلى الوراء فرأى الجبلاوى قادما وسط هالة من الخدم يحملون المشاعل وعض
إدريس على أسنانه ثم هتف ساخرًا :
- سأهبك عماا قريب حفيدا من الزنا تقر به عينك.
واندفع نحو الجمالية والناس توسع له على الجانبين حتى ابتلعته الظلمة وبلغ الأب موقف الإخوة وهو يتظاهر بهدوء تحت
الآف الأعين المحدقة فيه، ثم قال بلهجة أمرة.
- ليعد آل شئ إلى أصله .
ورجع حملة الكلوبات إلى مواقعهم، ودقت الطبول، وعزفت المزامير، ثم غنى المنشدون، ورقص الراقصون، واستأنفت الزفة
مسيرها.
وسهر البيت الكبير حتى الصباح فى طرب وشراب وغناء، وعندما دخل أدهم حجرته المطلة على خلاء المقطم وجد أميمية
واقفة إلى جانب المرأة والنقاب الأبيض مايزال يغطى وجهها . آان مخمورًا مسطولا لا تكاد تحمله قدماه، فاقترب منها وهو
يبذل جهدًا شديدًا ليتمالك أعصابه، ورفع النقاب عن وجهها الذى طالعه فى أحسن رواء، وهوى برأسه حتى لثم شفتيها
المكتنزتين، ثم قال بلسان مخمور:
- لتهن الهموم جميعا مادمت حسن الختام.
واتجه نحو الفراش يستقيم خطوة ويترنح خطوة، حتى استلقى على عرض السرير باللاسة والمرآوب، وآانت أميمة تنظر
إلى صورته المنعكسة على المرأة وهى تبتسم فى إشفاق وحنان.
( 5 )
وجد أدهم فى أميمة سعادة لم يعرفها من قبل، ولبساطته أعلن عن سعادته بأقواله وأحواله حتى تندر به إخوته، وعند
ختام آل صلاة آان يبسط يديه هاتفا: "الحمد لصاحب المنن، على رضى أبى الحمد لله على حب زوجتى ، الحمد له على
المنن المنزلة التى أحطى بها دون من هم أجدر منى بها، الحمد له على الحديقة الغناء والناى الرفيق، الحمد له". وقالت
آل امرأة من نساء البيت الكبير إن أميمة زوجة واعية، فهى ترعى زوجها آأنه أنها، وتوادد حماته وتخدمها حتى أسرتها،
وتولى سمكنها العناية التامة آأنه قطعة من جسدها، أما أدهم فكان زوجا مترع القلب بالمحبة وحسن المعاشرة، وآما
شغلته إدارة الوقف عن جزء من ملاهية البريئة فى الحديقة من قبل، فقد شغل الحب بقية يومه، واستبد به حتى نسى
نفسه، وتوالت أيام هانئة، وامتدت فوق ما قدر رضوان وعباس وجليل الساخرون، ولكنها ارتطمت فى النهاية بذاك الهدوء
الحكيم آما تنتهى مياه الشلال المتدفقة الراغية المزبدة فى النهر الرصين، وعاد التساؤل يحتل مكانه فى قلب أدهم،
فشعر بأن الزمن لا يمر فى غمضة عين، وأن النهار يعقبه الليل، وأن المناجاة إذا تواصلت إلى غير نهاية فقدت آل معنى،
Page 8
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
القديس

avatar


نقاط التميز
عدد المواضيع : 36
نقــــــــاط : 62
تاريخ التسجيل : 08/02/2010

رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا ) Empty
مُساهمةموضوع: رد: رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا )   رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا ) Icon_minitimeالخميس فبراير 11, 2010 7:38 pm

وأن الحديقة ملهاة صادقة لا يحدر به أن يهجرها، وأن شيئا من هذا لايعنى بحال أن قلبه تحول عن أميمة ، فما تزال فى
صميمة، ولكن للحياة أطوارًا لا يخبرها المرء إلا يومًا بيوم.
وعاد إلى مجلسه عند القناة وأجال بصره فى الأزهار والعصافير ممتنا ومعتذرًا ، وإذا بأميمة تلحق به مشرقة بالبهجة،
فجلست إلى جانبه وهى تقول :
- نظرت من النافذة لأرى ما أخرك، لماذا لم تدعنى معك؟
فقال باسما :
- خفت أن أتعلبك.
- تتعبنى ؟ طالما أحببت هذه الحديقة أتذآر أول لقاء لنا هنا ؟
وأخذ يدها فى يده، وأسند رأسه إلى جذع النخلة مرسلاً طرفه إلى الغصون، وإلى السماء خلال الغصون وعادت تؤآد له
حبها للحديقة، وآلما أمعن فى الصمت أمعنت فى التوآيد، إذ أنها آانت ترآه الصمت بقدر ما تحب الحديقة، وآان حديث
حياتها أطيب حديث، ولا بأس بالوقوف بعض الوقت عند أهم الأحداث فى البيت الكبير، خاصة ما يتعلق بزوجات رضوان
وعباس وجليل، ثم تغير صوتها مائلا نحو العتاب وهى تقول :
- أنت تغيب عنى يا أدهم ؟
فابتسم إليها قائلا :
- آيف وأنت ملء القلب !
- ولكنك لا تصغى إلى ؟
هذا حق ومع أنه لم يرحب بمقدمها فأنه لم يضق به، ولو همت بالرجوع لأمسك بها صادقا، والحق أنه يشعر بأنها جزء لا
يتجزأ منه وقال آالمعتذر :
- إنى أحب هذه الحديقة، لم يكن فى حياتى الماضية أطيب من جلستها، وتكاد أشجارها الباسقة ومياهها المفضفضة
وعاصيرها المزقزقة تعرفنى آما أعرفها، وأود أن تقاسمينى حبها، أرأيت إلى السماء آيف تبدو خلال الغصون؟
فرفعت عينها مقدار لحظة ثم نظرت إليه باسمة وقالت:
- إنها جميلة حقا ، وجديدرة بأن تكون أطيب ما فى حياتك .
فآنس من قولها العتاب دون إفصاح وبادرها قائلا :
- بل آانت آذلك قبل أن أعرفك .
- والآن ؟
فضغط على يدها بحنو قائلا :
- لا يتم جمالها إلا بك .
فقالت وهى تحد بصرها نحوه :
- من حسن الحظ أنها لا تؤاخذك على انصرافك عنها إلى .
فضحك أدهم وجذبها بحوه حتى التصق خدها بشفتيه، ثم سألها :
- أليست هذه الأزهار أجدر بالتفاتنا من الكلام عن زوجات إخواتى ؟
فقالت أميمة باهتمام :
- الأزهار أجمل ولكن زوجات إخوتك لا يكففن عن الحديث عنك، إدارة الوقف، دائما إدارة الوقف، وثقة أبيك فيك، يبدئن ويعدن
فى هذا .
وقطب أدهم غائبا عن الحديقة ، وقال بحدة :
- لا شئ ينقصهن !
- الحق إنى أخاف عليك العين.
فهتف أدهم غاضبًا :
- لعنة الله على الوقف ، أرهقنى وغير القلوب على وسلبنى راحة البال، فليذهب فى داهية.
فوضعت أصبعها على شفتية وهى تقول :
- لا تكفر بالنعمة يا أدهم ، إن إدارة الوقف شأن خطير، وقد تجر وراءها نفعا لا يخطر بالبال .
- جرت حتى الآن المتاعب .. وحسبناه مأساة إدريس .
- فابتسمت ، لكن ابتسامتها لم تنم عن بهجة وإنما دارت بها اهتماما جديا تجلى فى نظرة عينيها وقالت .
- انظر إلى مستقبلنا آما تنظر إلى الغصون والسماء والعصافير، وواظبت أميمة على مشارآته جلسته فى الحديقة، ولم
تكن تعرف الصمت إلا فى النادر، لكنه اعتادها آما اعتاد الأصغاء بنصف انتباه أو دون ذلكن وعند الحاجة يتناول الناى لاينفخ
فيه ما شاء له الطرب، واستطاع أن يقول فى رضى تام أن آل شئ طيب حتى شقاوة إدريس باتت شيئا مألوفا لكن
المرض اشتد على أمه، وعانت آلاما لم تعرفها من قبل تقطع لها قلبه، وآانت تدعوه إلى جانبها آثيرًا فتسبغ عليه اآرام
الدعاء، ومرة قالت له بتوسل حار: "ادع ربك دائما أن يقيك الشر ويهديك سواء السبيل، ولم تدعه يذهب، وظلت تراوح بني
الأنين وبين مخاطبته وتذآيره بوصيتها حتى فاضت روحها بين يديه وبكاها أدهم ، وبكتها أميمة، وجاء الجبلاوى فنظر فى
وجهها مليا ثم سجاها باحترام وقد تجلت فى عينيه الحادتين نظرة آئيبة مليئة بالشجن.
وما آاد أدهم يعود رويدًا إلى مألوف الحياة حتى ارتطم بتغير طارئ على أميمة لم يعرف له علة، بدأ بانقطاعها عن مجلسه
فى الحديقة فلم يسر بذلك آما آان يتوهم أحيانا، وسألها عن سر انقطاعها فاتلت بأعذار شتى آالعمل أو التعب، ولاحظ
أنها لم تعد تقبل عليه بالاندفاع المعهود ، فإذا أقبل هو عليها لاقته دون عاطفة حقيقة، آأنما تجامله، وآأنهما مجاملته
عناء، وتساءل عما هناك! لقد مر بشئ شبيه بهذا ، ولكن حبه صمد له وتغلب عليه، وآان بوسعه أن يقسو عليها، وود
أحيانا لو يفعل ذلك ولكن منعه انكسارها وشحوبها ومغالاتها فى التأدب معه أحيانا تبدو حزينة، وأحيانا تبدو حائرة ومرت
باغت فى عينيها نظرة نافرة حتى رآبه الغضب والجزع معا وقال لنفسه : " فلا صبر عليها قليلا، إما ينصلح حالها أو فلتذهب
Page 9
اولاد حارتنا .txt
فى ألف داهية".
وجلس إلى أبيه فى مخدع الرجل ليعرض عليه حساب الشهر الختامى.
وتفحصه الأب دون أن يعنى بمتابعته وسأله:
- مالك ؟
فرفع أدهم رأسه نحوه فى دهشة وقال :
- لا شئ يا أبى .
فضيق الرجل عينيه وتمتم :
- خبرنى عن أميمة .
فانخذلت عيناه تحت نظرة أبيه النافذة وقال :
- بخير ، آل شئ طيب .
فقال الجبلاوى بضجر :
- صارحنى بما عندك .
فصمت أدهم مليا ، وهو يؤمن بان أباه قادر على معرفة آل شئ .
ثم قال معترفًا :
- تغيرت آثيرًا ، وتبدو آالنافرة .
فتجلت فى عينى الأب نظرة غريبة وقال :
- هل وقع بينكما خلاف ؟
- أبدًا .
فقال الجبلاوى فى ارتياح وهى يبتسم :
- يا جاهل ، ترفق بها ، لا تقترب منها حتى تدعوك، سوف تكون أبا عما قريب .
( 6 )
جلس أدهم فى إدارة الوقف يستقبل مستأجرى الأحكار الجدد، وأحدًا بعد أخر، وقد وقفوا طابورًا، أوله أمامه وأخره فى نهاية
المنظرة الكبيرة، ولما جاء أخر المستأجرين سأله أدهم دون أن يرفع رأسه عن دفتره فى عجلة وضجر :
- اسمك يا معلم ؟
- إدريس الجبلاوى
فرفع أدهم رأسه فى فزع فرأى أخاه واقفا أمامه، ثم وقف متوثبا للدفاع عن نفسه وهو ينظر نحوه بحذر، لكن إدريس بدا
فى مظهر جديد لا عهد لأحد به، بدا رث الهيئة هادئا، متواضعا، حزين الطرف مأمون الجانب ، آالثوب المنشى بعد نقعة فى
الماء، ومع أن هذا المنظر استل من نفس أدهم آل حنق قديم إلا أنه لم يطمئن إلى السلامة آل الاظمئنان، فقال فى
تحذير مشوب بالرجاء .
- إدريس !
فأحنى إدريس رأسه قائلا فى رقة عجيبة .
- لا تخف لست إلا ضيفك فى هذا البيت إذا وسعنى آرم أخلاقك.
أهذا الكلام اللطيف يصدر عن إدريس حقا ! هل أدبته الآلام؟ الحق أن خشوعه محزن آفجوره، وألا تعد استضافته له تحديًا
للأب؟ لكنه جاء دون دعوة منه، ووجد نفسه يشير إليه بالجلوس على مقعد قريب من مقعده ، فجلس معا وهما يتبادلان
النظر فى غرابة حتى قال إدريس:
- أندسست فى جموع المستأجرين لأتمكن من الانفراد بك .
فتسأل أدهم فى قلق :
- ألم يرك أحد ؟
- لم يرنى أحد من البيت، اطمئن إلى هذا ، لم أجىء لأآدر صفوك ولكنى الجأ إلى لطف اخلاقك .
فغض أدهم عينيه متأثرًا وقد تصاعد الدم إلى وجهه، فقال إدريس :
- لعلك تعجب لما غيرنى، لعلك تتساءل أين ذهب تكبره وصلفه، فأعلم أننى قاسيت آلاما لا يقدر عليها أحد، ورغم هذا آله
فأننى لا أقف موقفى هذا من أحد سوالك إذ أن مثلى لاينسى آبرياءه إلا حيال الخلق اللطيف .
فغمغم أدهم قائلا :
- خفف الله عنك وعنا، فكم نغص مصيرك حياتى وآدرها.
- آان ينبغى أن أعرف هذا من أول الأمر، ولكن الغضب جننى وفتكت الخمر بكرامتى، ثم اجهزت حياة التشرد والبلطجة
على الرمق الأخير من انسانيتى، أعهدت مثل ذلك السلوك فى أخيك الأول ؟
- أبدًا ، آنت خير أخ وأنبل إنسان !
فقال إدريس بصوت المتوجع :
- حسرة على تلك الأيام، لست اليوم إلا شقيا، اخبط فى الخلاء جارًا ورائى ارمأة حبلى، اشبع فى آل مكان باللعنات،
واترى رزقى بالمنكر والعدوان.
- إنك تمزق قلبى يا أخى .
- معذرة يا أدهم ، لكن هذه هى طويتك التى خبرتها منذ قديم، ألم أحملك صغيرًا على يدى، ألم أشهد صباح ويفاعتك
وألمس فيها نبلك وسجاياك الحميدة؟ لعنة الله الغضب حيثما احترق.
- لعنة أبدية يا أخى .
تنهد إدريس وهو يقول وآأنما يخاطب نفسه :
Page 10
اولاد حارتنا .txt
- شدّ ما اسأت إليك، أن ما حاق بى من شر وما سيحيق لهو دون ما استحق من جزاء .
- خفف الله عنك ، اتدرى أننى لم ايأس أبدًا من عودتك؟
حتى فى أبان غضب أبينا جازفت بمخاطبته فى شأنك .
فابتسم إدريس عن أسنان علاها الإصفرار والقذارة وقال :
- هذا ما حدثتنى به نفسه ، قلت إن يكن ثمة رجاء فى مراجعة أبى فلن يتأتى عن سبيل سواك.
فلمعت عينا أدهم وهو يقول :
- إنى المس الهداية فى روحك الكريمة، إلا ترى أنه قدر أن الآوان لكى نخاطب والدنا فى الأمر ؟
فهز إدريس رأسه الأشعث فى يأس وقال :
- أآبر منك بيوم يعرف أآثر منك بسنة، وأنا أآبرك بعشر سنوان لا بسنة واحدة، فأعلم أن أبانا يغفر آل شئ إلا أن يهينه
أحد، لن يعفو عنى أبوك بعد ما آان، ولا أمل لى فى العودة إلى البيت الكبير .
لا شك فيما قاله إدريس، وهذا مازاده حرجا وضيقا وتمتم فى آآبة :
- ماذا فى وسعى أن أفعل من أجلك ؟
فابتسم إدريس مرة أخرى قائلا :
- لا تفكر فى مساعدات مالية، فإنى واثق من أمانتك آمدير للوقف وأعلم أنك إذا مددت لى يد المعونة فسيكون من حر
مالك، وه ما لا أقبله، أنك اليوم زوج وغدًا أب، وأنا لم اجئك مدفوعا بفقرى، ولكنى جئت لأعلن لك ندمى عما فرط منى فى
حقك، ولاسترد مودتك، ثم أن لى رجاء .
فتطلع إليه أدهم باهتمام وتساءل:
- قال يا أخى ما رجاؤك؟
فأدنى إدريس رأسه من أخيه آأنما يخشى أن تسمعه الجدران وقال :
- أريد أن أطمئن على مستقبلى بعد أخ خسرت حاضرى، سأآون أبًا مثلك، فما مصير ذريتى؟
- ستجدنى رهن اشارتك فى آل ما استطيع.
فربت إدريس آتف أدهم بامتنان وقال :
- أريد أن أعرف هل حرمنى أبى من حقى فى الميراث؟
- آيف لى بمعرفة هذا، ولكن أن سألتنى عن رأيى..
فقاطعه إدريس قلقا :
- إنى لا أسأل عن رأيك ولكن عن رأى أبيك .
إنه آما تعلم لا يصارح أحدًا بما يدور فى رأسه .
- ولكنه دون شك قج سجله فى حجة الوقف .
فهز أدهم رأسه دون أن ينبس فعاد إدريس يقول :
- آل شئ فى الحجة .
- لا علم لى بها، وأنت تعلم أن احدًا فى بيتنا لا يدرى عنها شيئا. وعلمى فى الإدارة يسير تحت إشراف أبى الكامل .
فحدجه إدريس بنظرة حزينة وقال :
- الحجة فى مجلد ضخم، وقد لمحته مرة فى صباى وسالت أبى عما فيه - وآنت وقتذاك قرة عينه- فقال لى إنه يضم آل
شئ عنا، ولم نعد إلى الحديث عنه، ولم يسمح لى بذلك حين بدأ لى أن اسأل عن بعض ما جاء فيه، ولا أشك الآن فى أن
مصيرى قد تقرر فيه.
فقال أدهم وهو يشعر بأنه ينحصر فى رآن ضيق:
- الله أعلم .
- إنه فى الخلوة المتصلة بمخدع أبيك، ولا شك أنك رأيته بابها الصغير فى نهاية الجدار الأيسر، وهو باب مغلق دائما، لكن
مفتاحه مودع فى صندوق فضى صغير فى درج الخوان القريب من الفراش، أما المجلد الضخم فعلى ترابيزة فى الخلوة
الضيقة .
فرفع أدهم حاجبية الخفيفتين فى انزعاج وتمتم :
- ماذا تريد ؟
فقال إدريس متنهدًا
- إن آان ثمة راحة بال باقية لى فى هذه الدنيا فهى رهن بمعرفتى ما سجل فى الحجة عنى.
- فقال أدهم فى ارتياع :
- أهون على أن أسأله عما فى الشروط العضرة صراحة!
- لن يجيب، وسيغضب وربما اسء بك الظن، أو خمن الدافع الحقيقى وراء سؤالك فثار سخطة، وآم أآره أن تخسر ثقة أبيك
جزاء أحسانك إلى، وهو لاشك لايريد أن يذيع شروطه العشرة، ولو أراد ذلك لعرفناه جميعا، لفلا سبيل مأموتا إلى الحجة
إلا السبيل الذى وصفه لك. وهو ميسور جدًا عند الفجر حين يتجول أبوك فى الحديقة.
فامتقع وجه أدهم وهو يقول :
- ما أفظع ما تدعونى إليه يا أخى .
فدارى إدريس خيبته بابتسامة شاحبة وقال :
- ليس جريمة أن يطلع ابن على ما يخصه فى حجة أبيه .
- لكنك تطلب إلى سرقة سر يحرص أبونا على صونه.
فتنهد إدريس بصوت مسموع وقال :
- قلت لنفسى عندما قررت الجوء إليك: " ما أصعب أن أقنع أدهم بعمل يعتبره مخالفا لإرادة الأب، ولكن داعبنى أمل قوى
Page 11
اولاد حارتنا .txt
فقلت لعله يقدم إذا لمس مدى حاجتى إلى معونته، وليس فى الأمر جريمة وسيمر بسلام، وستجد أنك انتشلت روحا من
الحجيم دون أدنى خسارة.
- ليحفظنا المولى من الأخطار ..
أمين لكنى أتوسل إليك أن تنقذنى من العذاب.
نهض أدهم فى جزع واضطراب ، فنهض إدريس فى أثره وابتسم ابتسامة دلت على تسليمة باليأس وقال :
- أزعجتك حقا يا أدهم ! من أمارات تعاستى أننى لا ألقى شخصا حتى تدرجه المتاعب على وجه أو أخر، بات إدريس لعنة
ساخرة.
- آم يعذبنى عجزى عن مساعدتك أنه عذاب ما بعده عذاب.
فدنا منه حتى وضع يده على منكبه فى رقة، ثم لئم جبينه فى عطف وقال :
- لا يسأل عن تعاستى إلا نفسى، لمذا احملك فوق ما تطيق؟
دعنى أترك بسلام وليفعل الله ما يشاء .
قال إدريس ذلك ثم ذهب .
( 7 )
دبت الحيوية فى وجه أميمة لأول مرة منذ عهد قصير، فسألت أدهم باهتمام :
- ألم يحدث أبوك عن الحجة من قبل ؟
آان أدهم متربعا على الكنبة، ينظر من النافذة إلى الخلاء الغارق فى الظلمة فأجابها :
- لم يحدث احدًا عنها قط .
- لكن أنت .
- لست إلا أحد أبنائه الكثيرين.
فابتسمت ابتسامة خفيفة وقال :
- لكنه اختارك أنت لتدير الوقف .
فالتفت نحوها قائلا بحدة :
- قلت إنه لم يحدث أحدًا عنها قط .
فابتسمت مرة أخرى آأنما لتلطف حدته، ثم قالت بمكر :
- لا تشغل بالك، إدريس لايستحق ذلك، إن إساءاته لك لا تنُسى أبدًا.
فحول أدهم رأسه نحو النافذة وقال بحزن :
- إدريس الذى جاءنى اليوم غير إدريس الذى اساء إلى، إن منظره النادم الحزين لا يبرح مخيلتى.
فقالت بارتياح ظاهفر.
- هذا ما أدرآته من حديثك، وهو سر اهتمامى بالأمر، ولكنك تبدو ضيق الصدر بخلاف عادتك.
آان ينظر إلى الظلام الكثيف، لكن رأسه المشغول لم يستجب له فقال:
- لا فائدة ترجى من الاهتمام .
- لكن أخاك النادم يسألك الرحمة .
- العين بصيرة واليد قصيرة.
- يجب أن تحسن علاقتك به، وبأخوته، وإلا وجدت نفسك يوما وحيدا أمامهم.
- أنت تهتمين بنفسك لا بإدريس .
فهزت رأسها آأنما تزيح عنه نقاب المكر وقالت :
- من حقى أن أهتم بنفسى، ومعنى هذا أن اهتم بك وبما فى بطنى، ماذا تريد المراة ؟ وهذا الظلام ما أشد آثافته، حتى
المقطم العظيم قد أبتلعه وأراح نفسه بالمصت وإذا بها تسأله :
- ألا تذآر أنك دخلت الخلوة أبدًا ؟
فأجاب خارجا من صمته القصر :
- أبدا ، أحببت فى صباى أن أدخلها فمنعنى ابى، ولم تكن أمى تسمح لى بالاقتراب منها.
- لا شك أنك آنت تتمنى دخولها ؟
ما حداثها فى الأمر إلا وهو ينتظر أن تدفعه عنه لا أن تجيز به إليه آان بحاجة إلى من يؤآد له صواب موقفه من أخيه، آان
بحاجة ماسة إلى ذلك، ولكنه آمن ينادى فى الظام خفيرا فيخرج إليه قطاع طريق.
وعادت أميمة تسأله :
- والخوان الذى به الصندوق الفضى هل تعرفه ؟
- آل من دخل الحجرة يعرفه، لماذا تسالين عنه؟
- تزحزحت من مجلسها على الكنبة مقتربه منه وسألته باغراء:
- بربك ألا تود أن تطلع على الحجة ؟
فأجاب بحدة :
- آلا ، لماذا أود ذلك ؟
- منذا يقاوم الرغبة فى الاطلاع على المستقبل .
- تعنين مستقبلك أنت ؟
- مستقبلى ومستقبلك ، ومستقبل إدريس الذى حزنت عليه رغم ما سبق منه ضدك.
المرأة تعرب عما فى نفسه، وهذا مايثير حنقه ومد رأسه نحو النافذة آأنما يهرب منها وهو يقول :
Page 12
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
القديس

avatar


نقاط التميز
عدد المواضيع : 36
نقــــــــاط : 62
تاريخ التسجيل : 08/02/2010

رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا ) Empty
مُساهمةموضوع: رد: رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا )   رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا ) Icon_minitimeالخميس فبراير 11, 2010 7:39 pm

- لا أود ما لا يود أبى .
فرفعت حاجبيها المزججين متسائلة:
- لماذا يخفى هذا الأمر ؟
- ذلك شأنه ، ما أآثر أسئلتك الليلة!
فقالت وآانما تخاطب نفسها :
- المستقبل ! نعرف مستقبلنا ونقدم احسانًا آبيرًا إلى إدريس التعيس، لن يكلفنا هذا آله إلا قراءة ورقة دون أن يدرى أحد،
واتحدى أى صيق أو عدو أن يثبت علينا سوء نية فى عملنا هذا أو انه يمس من قريب أو من بعيد والدك المحبوب .
وآان أدهم يراقب نجما فاق الأنجم بضيائه اللامع فقال متجاهلا قولها :
- ما أجمل السماء ! لولا رطوبة الليل لجلست فى الحديقة أراقبها من خلال الغصون.
- لا شك أنه ميز البعض فى شروطه.
فهتف أدهم :
- ما أزهدنى فى امتياز لايجر وراءه إلا المتاعب.
فقالت متنهدة:
- لو آنت أعرف القراءة لذهبت بنفسى إلى الصندوق الفضى .
تمنى لو آان ذلك آذلك، وتضاعف حنقه عليها وعلى نفسه، بل شعر بأنه قد وقع فى المحظور فعلا وأنه يفكر فيه آحدث
مضى، وتحول نحوها مقطبا فبدأ ودجهه على ضوء المصباح المرتعش بالنسيم المتسلل من النافذة متجها ، ضعيفا رغم
تجهمه وقال:
- لعنت حين أفضيت إليك بالخبر !
- لا أريد ب شرًا، ومبحتى لوالدك مثل محبتك له .
- دعيك من هذا الحديث المتعب، فى هذه الساعة تستحب الراحة.
- يبدو أن قلبى لن يرتاح قبل الاقدام على هذا العمل السهل ..
فنفخ قائلا :
- اللهم أرجع إليها عقلها !
فرمقته بنظرة المتحفزة ثم سالته :
- ألم تخالف أباك باستقباك إدريس فى المنظرة ؟
فاتسعت عيناه دهشة وقال :
- وجدته أمامى فلم يسعنى إلا استقباله .
- هل أخبرت والدك بنبأ زيارته ؟
- ما أثقلك الليلة يا أميمة .
فقالت بصوت الظافر :
- إذا جاز لك أن تخالفه فيما قد يضرك فكيف لا تخالفه فيما يفيدك ويفيد اخاك ولا يضر أحدًا؟
بوسعه أن يقطع الحديث لو شاء، ولكن المنحدر آان شديد الانحدار، والحق أنه لم يترآها تسترسل فى حديثها إلا لأن جزاءًا
من نفسه آان بحاجة إلى تأييدها، وتساءل فيما يشبه الغضب:
- ماذا تعنين ؟
- أعنى أن تسهر حتى الفجر، أو حتى يخلو المكان لنا .
فقال بامتعاض:
- ظننت الحمل قد أفقدك عاطفتك وحدها، ولكن ها هو يفقدك عقلك أيضا .
- أنت مقتنع بما أقول وحق من خلق الروح فى بطنى، ولكنك خائف، والخوف لا يليق بك .
فاآفهر وجهه أآفهرارًا منقطع الأسباب بالتراخى السارى فى داخله وقال :
- سنذآر بهذه الليلة أول زعل فرق بيننا.
فقالت برقة عجيبة :
- أدهم ، دعنا نفكر جادين فى الأمر .
- لن نجنى خيرًا .
- هذا قولك ولكنك سترى .
شعر بوهج النار وهو يقترب منها . قال لنفسه : إذا احترقت فلن تجدى دموعى فى أخمادها، وحول رأسه إلى النافذة
فخيل إليه أن سكان ذلك النجم اللامع سعداء لبعدهم عن هذا البيت زتمتم بصوت ضعيف :
- لم يحب أح أباه آما أحبه .
- لم أبعدك عما يسيئه .
- أميمة ، ما أحوجك إلى النوم .
- أنت الذى طيرت النوم من عينى .
- أملت أن أسمع عندك صوت العقل .
- ما اسمعتك غيره .
وسائل نفسه بصوت منخفض آالهمس :
- ترى هل أندفع نحو الخراب ؟
فربتت يده الملقاة على مسند الكنبة وقالت بعتاب:
- مصيرنا واحد يا ناآر الحب !
Page 13
اولاد حارتنا .txt
فقال فى استسلام دل على أنه اتخذ قراره :
فقالت بانطلاق :
- ستقرأ مصيرك فى الحجة ..
ومد بصره نحو النجوم الساهرة. وقطع السحاب المستضيئة بنورها الهادئ، وخيل إليه أنها مطلعة على نجواه فغمغم : " يا
لطف السماء، ثم سمع أميمة وهى تقول فى نبرات مداعبة:
- أنت علمتنى حب الحديقة، دعنى أرد إليك الجميل .
( 8 )
وعند الفجر غادر الأب حجرته قاصدًا الحديقة ، آان أدهم بأقصى الردهة يترقب أميمة خلفه ممسكة بكتفه فى الظلام، تابعا
وقع الأقدام الثقيل المتزن ولكنهما لم يتبينا اتجاهها فى الظلام، وآان من عادة الجبلاوى أن يسير فى هذه الساعة دون
حاجة إلى ضوء أو رفيق، وسكت الصوت فالتفت أدهم نحو زوجه هامسا:
- ألا يحسن بنا أن نعود ؟
فدفعته وهى تهمس فى أذنه :
- على اللعنة أن آنت أضمر سوءًا لإنسان .
فتقدم بخطوات حذرة، فى اضطراب أليم، ويده قابضة على شمعة صغيرة فى جيبه، وجعل يتحسس الجدار حتى مست
يده مصراع الباب .
وهمست أميمة:
- سابقى هنا لأرقب المكان، اذهب مصحوبا بالعناية .
ومدت يدها فدفعت الباب حتى انفتح ثم تراجعت، ومضى أدهم نحو الحجرة بخطواته الحذرة فتقلى من داخلها رائحة
مسكية شديدة النفاذ، ورد الباب وراءه ووقف يحملق فى الظلام حتى تبين له خصاص النوافذ المطلة على الخلاء، وهى
تنضح بنور الفجر، شعر أدهم بأن الجريمة - أن آان ثمة جريمة 0 قد وقعت بدخوله الحجرة، وأن عليه أن يتم عمله، سار مع
الجدار الأيسر، مرتطما أحيانا بالمقاعد، مارًا فى طريقة بباب الخلوة، حتى بلغ نهايته، ثم مال مع الجدار الأوسط وما لبث أن
عثر على الخوان، جذب الدرج، وتحسس ما بداخله حتى وجد الصندوق، ثم شعر بحاجة إلى الراحة ليأخذ نفسه. ورجع إلى
باب الخلوة ففتش عن ثقبه، ثم وضع فيه المفتاح وأجاره، وفتح الباب، وإذا به يتسلل إلى الخلوة التى لم يدخلها أحد قبله
إلا الأب، رد الباب، فأخرج الشمعة، ثم أشعلها، فرألا مربعا ذا سقف عال لا منفذ فيه إلا الباب، مفروش الأرض بسجادة
صغيرة، وعند ضلعه الأيمن ترابيرزة أنيقة عليها المجلد الكبير الذى ثبت فى الجدار بعلاقة من صلب، ازدارد أدهم ريقه الجاف
بشئ من الألم آأنه وعكة أصابت اللوزتين، وعض على أسنانه، آأنما ليعصر الخوف السارى فى أوصاله المرعش للشمعة
فى يده واقترب من التربيزة وهو يحملق فى غلاف المجلد المزخرف بخطوط مموهة بالذهب، ثم مد يده ففتحه، وجد
مشقة فى ترآيز ذهنه ونفض الاضطراب عنه وبدأ يقرأ بالخط الفارسى "باسم الله".
لكنه سمع الباب وهو يفتح بغتة، انجذب رأسه نحو الصوت بقوة ودون وعى آأن الباب شده إليه وهو ينفتح رأى الجبلاوى
على ضوء شمعته يسد الباب بجسمه الكبير ملقيا على نظرة باردة قاسية، حملق أدهم فى عينى أبيه فى صمت وجمود
، وتخلت عنه قوى الكلام والحرآة والتفكير، وأمره الجبلاوى قائلا :
- اخرج .
ايقظه الرعب من تجمده فتحرك ، وتخلى الأب عن الباب، فغادر أدهم الخلوة والشمعة ما تزال تحترق فى يده ، ورأى أميمة
واقفة وسط الحجرة صامتة، والدمع ينحدر تباعًا من مقلتيها، وأشار له الأب أن يقف إلى جانب زوجته ففعل، ثم خاطبه
بصرامة قائلا :
- عليك أن تجيب على أسئلتى بالصدق .
فنطقت أساريره بالامتثال ، وسأله الرجل :
- من الذى أخبرك بالكتاب ؟
فقال أدهم دون تردد آوعاء تحطم فسال ما فيه :
- إدريس .
- متى ؟
- صباح الأمس .
- آيف تم اللقاء بينكما ؟
- أندس بين المستأجرين الجدد وانتظر حتى انفرد بى .
- لماذا لم تطرده ؟
- عز علىّ طرده يا أبى .
فقال الجبلاوى بحدة :
- لا تخاطبنى بالأبوة .
فاستجمع أدهم قواه قائلا :
- إنك أبى رغم غضبك ورغم حماقتى .
- أهو الذى أغراك بفعلتك ؟
وأجابت أميمة دون أن يوجهه إليها السؤال :
- نعم يا سيدى .
- اخرسى يا حشرة (ثم موجها الخطاب إلى أدهم) .. أجب - آان يائسا حزينا نادما وود لو يطمئن على مستقبل ذريته.
Page 14
اولاد حارتنا .txt
- وفعلت هذا من أجله .
- آلا .. اعتذرت له عن عجزى .
- وماذا غيرك ؟
فتنهد أدهم يائسا وتمتم .
- الشيطان !
فسأله ساخرًا :
- هل أخبرت زوجتك بما جرى بينك وبينه ؟
هنا انتحبت أميمة فنهرها الجبلاوى أن تخرس، وحث أدهم على الإجابة بإشارة من إصبعه ، فقال:
- نعم .
- وماذا قالت لك ؟
لاذ أدهم بالصمت آى يزدرد ريقه فصاح به :
- أجب يا وضيع .
- وجدت بها رغبة فى الاطلاع على الوصية وظنت أن ذلك ين يضر أحدًا .
فحدجه باحتقار شديد وقال :
- وهكذا انصعت إلى خيانة من فضلك على من هم خير منك .
فقال أدهم بصوت آالأنين :
- لن يسعفنى دفاع عن ذنبى ، لكن مغفرتك أآبر من الذنب والدفاع .
- تتأمر على مع إدريس الذى طردته إآرامًا لك ؟
- لم اتامر مع إدريس، لقد أخطأت ، ولا نجاة لى إلا بمغرفتك.
وهتفت أميمة بتوسل :
- سيدى ...
قاطعها قائلا :
- إخرسى يا حشرة .
وجعل يردد عينيه بينهما عابسًا ، ثم قال بصوت رهيب :
- أخرجا من البيت .
وهتف أدهم :
- أبى .
فقال الرجل بصوت غليظ :
- غادرا البيت قبل أن تلقيا خارجا .
( 9 )
وفتح باب البيت الكبير ليشهد هذه المرة خروج أدهم وأميمة مطرودين. خرج أدهم يحمل بقجة ملابس، وتبتعته أميمة
حاملة بقجة ثانية وأطعمة خفيفة.
خرجا ذليلين حزينين باآيين بلا أملن وعندما سمعا صوت الباب وهو يغلق خلفهما ارتفع صوتهما بالنحيب، وقالت أميمة
وهى تنشج :
- الموت ما أستحق من جزاء!
فقال أدهم بصوت متهدج :
- لأول مرة تصدقين، ولكن الموت دون ما أستحق آذلك .
وما آادا يبتعدان قليلا عن البيت حتى دوت ضحكة ساخرة مخمورة، فنظرا نحو مصدرها، فرأيا إدريس أمام آوخه الذى بناه
من الصفائح والأخشاب وقد جلست امرأته نرجس وهى تغزل صامتة، آان إدريس يضحك فى سخرية وشماته حتى ذهل
أدهم وأميمة فوقفا يحملقان فيه ، وراح إدريس يرقص ويفرقع بأصابعه حتى ضجرت نرجس فآوت إلى الكوخ ، تابع أدهم
بعينين محمرتين من البكاء والغضب ، أدرك فى لحظة المكر الذى مكره فتكشف له عن حقيقته الخبيثة المجرمة، وأدرك
أيضا مدى حمقه وغبائه الى يرقص له المجرم شماتة وفرحا، هذا هو إدريس الذى استحال شرًا مجسدًا وغلى دمه حتى
فار فأغرق مخه وقبض على حفنة من تراب ورماه بها وهو يصيح بصوت مختنق بالغضب.
- يا قذر ، يالعين، أن العقرب بالقياس إليك حشرة مستأنسه.
فأجاب إدريس بمزيد من حرآاته الراقصة ، هز رقبته يمنة ويسرة ، ولعب حاجبيه ومازال يفرقع بأصابعه وتضاعف غضب أدهم
فصاح:
- الفساد والدناءة والوضاعة هذه هى صفات المخادعين الكاذبين ، فراح إدريس يهز وسطه بمثل الرشاقة التى هز بها رقبتة
ويرسم بفيه ضحكة صامتة قبيحة، فصاح أدهم دون التفات إلى أميمة التى حاولت أن تدفعه إلى المسير :
- حتى الدعارة تجربها يا أقدر من خلق !
فمضى إدريس يهز عجيزته وهو يدور حول نفسه فى بط ودلال فأعمى الغضب أدهم برمى بالبقجة أرضا ودفع أميمة التى
همت بالتعلق به وجرى نحوه حتى قبض على عنقه وشد عليه بكل قوته لم يبد على إدريس أنه تأثر بالمنقض ولا بقبضته،
وواصل الرقص وهو يتأنق فى تأودة، وجن جنون أدهم فانهال على إدريس ضربا ولكن إدريس ازداد عبثا وراح يغنى بصوت
آريه:
= حطة ا بطة يا دقن القطة .
وتوقف بغتة وهو يزمجر، ثم دفع أدهم فى صدره دفعة قوية تقهقر على أثرها يترنح ثم اختل توازنه فسقط على ظهره ،
وهرعت إليه أميمية صارخة فساعدته على النهوض وأخذت تنفض الغبار عن ثوبه وتقول :
Page 15
اولاد حارتنا .txt
- مالك أنت وهذا الوحش، فلنبتعد عنه !
وتناولت البقجة صامتا، وحملت زوجته بقجتها وابتعدا حتى طرف البيت الآخر، وآان الإعياء قد نال منه فرمى بالبقجة وجلس
عليها وهو يقول: "لنسترح قليلا"، فجلست المرأة قبالته وقد رجعت تبكى، وإذا بصوت إدريس يترامى إليهما قويا آالرعد
وصاحبه يقف ناظرًا إلى البيت الكبيرة نظرة التحدى ويصيح :
- طردتنى إآراما لأحقر من أنجبت، أرأيت آيف آان سلوآه نحوك، ها أنت ترميه بنفسك إلى التراب، عقاب بعقاب والبادى
أظلم، آى تعلم أن إدريس لا يقهر، فلتبق وحدك مع ابنائك العقماء الجبناء، لن يكون لك حفيد إلا من يسعى فى التراب
ويتقلب فى القاذورات، غدا يسرحون بالبطاطة واللب، غدا يتعرضون لصفعات الفتوات فى العطوف وآفر الزغارى، غدًا يمتزج
دمك بأحقر الدماء، وتقبع أنت وحيدًا فى حجرتك تبدل وتغير فى آتابك آيف شاء لك الغضب والفشل وتعانى وحدة
الشيخوخة فى الظلام، حتى إذا جاء الأجل فلن تجد عينا تبكيك.
ثم التفت صوت أدهم وواصل صياحه الجنونى :
- وأنت أيها الضعيف آيف تلقى الحياة وحدك! لا قوة فيك تؤيدك ولا قوى لديك تعتمد عليه، وماذا تفيدك مبادئ القراءة
والحساب فى هذا الخلاء ؟ ها .. ها .. ها ..
ولم تزل أميمة تبكى حتى ضاق بها أدهم فقال فى فتور :
- آفى عن البكاء .
فقالت وهى تجفف عينيها :
- سأبكى آثيرًا ، أن ا الآثمة يا أدهم .
- لست دونك اثما ، لو لم تلقى منى ضعيا نذلا ما وقع الذى وقع .
- الذنب ذنبى وحدى .
فهتفت بغيظ :
- إنك تحملين على نفسك لتتقى حملتى عليك ..
فباخت حميتها فى اتهام نفسها وأحنت رأسها مليا ثم عادت تقول بصوت ضعيف :
- لم أآن أتصور أن تبلغ قسوته هذا الحد .
- إنى أعرفه ولا عذر لى .
فترددت قليلا ثم قالت :
- آيف أعيش هنا وأنا حبلى ؟
- فى هذا الخلاء نعيش بعد البيت الكبير، ليت للدموع جدوى، ولكن ليس أمامنا إلا أن نقيم آوخا لنا .
- أين ؟
فنظر فيما حوله، ووقف نظره قليلا صوب آوخ إدريس، ثم قال بقلق :
- لا يجوز أن نبتعد آثيرا عن البيت الكبير ولو اضطررنا إلى البقاء غير بعيد من آوخ إدريس، وإلا هلكنا وحدنا فى أطراف هذا
الخلاء.
ففكرت أميمة قليلا ثم قالت بوجه مال إلى الاقتناع برأيه :
- نعم ، ولكن نبقى على مرمى بصره ، لعله يرق لحالنا .
فتأوه أدهم قائلا :
- الحسرة تقتلنى ، ولولاك لتوهمت ما بى آابوسا، هل يجفونى قلبه إلى الأبد؟ لن أتطاول عليه آإدريس ، هيهات، لست
آإدريس فى شئ، فهل ألقى نفس المعاملة؟
فقالت أميمة فى حنق :
- لم تعرف هذه الأحياء أبًا مثل أبيك .
فتساءل بعينين حادتين :
- متى يتوب لسانك ؟
فانفعلت قائلة :
- والله ما ارتكبت جريمة ولا إثما، خبر من تشاء بما فعلت وبما نلت جزاء ما فعلت وأراهنك على أنه سيضرب آفا بكف، والله
ما عرفت الأبوة أبا آأبيك .
- ولا عرفت الدنيا رجلاً مثله، هذا الجبل ن وهذه الصحراء، وهذه السماء تعرفه، ومثله يجبن عند التحدى.
- بهذا الجبروت لن يبقى فى البيت أحد من أبنائه .
- نحن أول الخارجين فنحن شر من فيه .
فقالت بامتعاض:
- لست آذلك، لسنا آذلك .
- الحكم الصحيح لن يكون إلا عند الامتحان .
لاذ آلاهما بالصمت لم يكن بالخلاء حتى يُرى، إلا بعض المارة العابرين عن بعد عند سفح الجبل، وآانت الشمس ترسل
أشعة حامية من سماء صافية فتغمر الرمال المترامية حيث يلمع الحصا أو قطع الزجاج المتناثرة ، ولم يكن من قائم إلا
الجبل فى الأفق، وصخرة آبيرة فى الشرق آأنها راس جسم مطمور فى الرمال، وآوخ إدريس عند الطرق الشرقى للبيت
الكبير ينغرس فى الأرض متحديثا بهيئته الزرية، آان الجول آله ينذر بالشقاء والتعب والخوف وتنهدت أميمة بصوت مسموع
وقالت :
- سنتعب آثيرًا حتى تتيسر لنا الحياة .
فرنا أدهم إلى البيت الكبير وقال :
- وسنتعب أآثر حتى يفتح لنا هذا الباب مرة أخرى .
Page 16
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
القديس

avatar


نقاط التميز
عدد المواضيع : 36
نقــــــــاط : 62
تاريخ التسجيل : 08/02/2010

رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا ) Empty
مُساهمةموضوع: رد: رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا )   رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا ) Icon_minitimeالخميس فبراير 11, 2010 7:41 pm

( 10 )
شرع أدهم وأميممة فى إقامة آوخ لهما عند الطرف الغربى للبيت الكبير، آانا يجيئان بالأحجار من المقطم، ويجمعان
الصفائح من سفح الجبل، ويلتقطان الأخشاب من مشارف العطوف والجمالية وباب النصر، وتبين لهما أن بناء الكوخ
سيستغرق وقتا اطول مما قدرا. وصادف ذلك نفاد الزاد الذى حملته أميمة من البيت من جبن وبيض وعسل أسود، فقر
أدهم أن يبدأ بالسعى فى سبيل رزقه ، ورأى أن يبيع بع ثيابه الثمينة ليشترى بثمنها عربة يد لبيع البطاطة والملانة والخيار
وغيرها على حسب المواسم، وعندما أخذ فى جمع ثيابه أجهشت أميمة فى البكاء من شدة التأثر، ولكنه لم يستجب
لعواطفها، فقال وهو بين السخط والسخرية:
- لم تعد هذه الثياب تناسبنى، أليس من المضحك أن أسرح ببطاطة وأنا متلفع بعباءة مزرآشة من وبر الجمل؟
ثم شهده الخلاء وهو يدفع عربته نحو الجمالية، الجمالية التى لم تنس بعد زفته وانقبض قلبه وانحبس صوته فكف عن
النداء وآادت تغرورق عيناه ، واتجه نحو الأحياء البعيدة متهربا وآان يواظب على المشى والنداء من الصباح إلى المساء
حتى آلت يداه وانجرد نعلاه وسرت الأوجاع فى قدميه ومفاصله، وآم آان يشق عليه مسامومات النسوان، أو أن يضطره
الأعياء إلى افتراش الأرض لصق جدار، أن أن يقف فى رآن ليفك حصره، بدت الحياة غير حقيقية، وأيام الحديقة وإدارة الوقف
والمخدع المطل على المقطم آالأساطير، وجعل يقول لنفسه: "لاشئ حقيقى فى هذه الدنيا، هى البيت الكبير، هى
الكوخ الذى لم يتم، هى الحديقة هى عربة اليد، هى المس واليوم والغد، لعلى أحسنت صنعا بالإقامة قبالة البيت حتى لا
أفقد الماضى آما فقد الحاضر والمستقبل، وهل من عجب أن أخسر الذاآرة آما خسرت أبى وآما خسرت نفسى؟ فإذا
عاد أول الليل إلى أميمية فليس إلى الراحة يعود، ولكن ليواصل العمل فى بناء الكوخ، ومرة جلس فى حارة الوظاويط عن
الظهر ليستريح فنعس، واستيقظ على حرآة فرأى غلمان يسرقون عربته فنهض مهددا . ورأه غلام فنبه أقرانه بصفير ودفع
العربة ليشغله بها عن مطاردتهم فاندلق الخيار على الأرض على حين تفرق الغلمان مسرعين آالجراد، وغضب أدهم غضبا
شديديا حتى قذف فوه المهذب بسيل من أقذع الشتائم، ثم انكب على الأرض يجمع الخيار الذى لوث بالطين وتضاعف
غضبه دون أن يجد له متنفسا فراح يقول بتأثر وانفعال : "لماذا آان غضبك آالنار تحرق بلا رحمة؟ لماذا آانت آبرياؤك أحب
إليك من لحمك ودمك؟ وآيف تنعم بالحياة الرغيدة وأنت تعلم أننا نداس بالأقدام آالحشرات؟ والعفو واللين والتسامح ما
شأنها فى بيتك الكبير أيها الجبار! وقبض على يدى العربة وهم يدفعها بعيدا عن الحارة اللعينة، وإذا بصوت يقول متهكما :
- بكم الخيار يا عم ؟
رأى إدريس واقفا يبتسم ابتسامة ساخرة، رافلاً فى جلباب مقلم بألوان زاهية، وعلى رأسه لاسة بيضاء، رآه باسمًا ساخرًا
لا ثائرًا ولا هائجا فضاقت لمنظره الدنيا فى عينيه رغم ذلك، ودفع العربة ليذهب ، ولكن إدريس اعترض سبيله وهو يقول فى
دهشة:
- ألا يستحق زبون مثلى حسن المعاملة ؟
فارتفع رأس أدهم فى عصبية وهو يقول :
- دعنى وشانى .
فأمعن إدريس فى السخرية متسائلا :
- ألم تجد خيرًا من هذه اللهجة تخاطب بها أخاك الأآبر ؟
فقال أدهم بلهجة المتصبر :
- يا إدريس أما آفاك ما فعلت بى ؟ لا أريد أن تعرفنى أو أن أعرفك .
- آيف يتأتى هذا ونحن فى حكم الجيران ؟
- ما أردت جوارك ولكنى قصدت أن أبقى قريبا من البيت الذى.. فقاطعه هازئًا :
- الذى طردت منه !
فسكت أدهم وقد تجلى الضيق فى شحوب وجهه، فاستطرد الآخر قائلا :
- النفس تتعلق بالمكان الذى تطرد منه ، أليس آذلك ؟
فلم يخرج أدهم عن صمته ، فقال الآخر :
- إنك تطمع فى العودة إلى البيت ما ماآر، إنك ضعيف حقا ولكن ملىء بالمكر، ألا فاعلم بأنى لن أسمح لك بالعودة وحدك
ولو انطبقت السماء على الأرض .
فتساءل أدهم ومنخراه يتحر آان من الحنق:
- ألم يكفك ما فعلت بى ؟
- ألم يكفك أنت ما فعلت بى ؟ من أجلك طردت وآنت آوآب البيت المنير .
- بل طردت بسبب نفسك المتعجرفة .
فقهقة إدريس قائلا :
- وطردت أنت بسبب نفسك الضعيفة، فلا مكان فى البيت الكبير للقوة ولا للضعف، فانظر إلى استبداد أبيك ، أنه لا يسمح
باجتماع القوة والضعف فى نفس ألا نفسه هو، أنه القوى لحد الفتك بفلذات آبده، الضعيف لحد التزوج من أم آأمك.
فقطب أدهم غاضبا وقال بتهدج :
- دعنى اذهب ، وتحرض إذا شئت بقوى مثلك .
- أبوك يتحرش بالأقوياء والضعفاء .
فصمت أدهم وازداد عبوسا فقال إدريس هازئا :
- لا تريد أن تتورط فى تجريحه، هذا مكر من مكرك، ودليل على أنك مازلت تحلم بالعودة.
ثم تناول خيارة وأخذ ينظر إليها باشمئزاز ثم قال:
- آيف سولت لك نفسك أن تسرح بهذا الخيار الملوث! ألم تجد عملاً أشرف من هذا ؟
- إنى راض عنه .
Page 17
اولاد حارتنا .txt
- بل اضطرتك الحاجة إليه، على حين ينعم أبوك بالعيش الرغيد، فكر قليلا فى الأمر، أليس من الأآرم لك أن تنضم إلى .
فقال أدهم فى ضجر :
- لم اخلق لحياتك .
- انظر إلى جلبابى ! ان صاحبه يرفل فيه أمس دون وجه حق !
فلاح التساؤل فى عينى أدهم وقال :
- وآيف حصلت عليه ؟
- آما يفعل الأقوياء .
أسرق أم أقتل ؟ وقال بحزن :
- لا أصدق أنك أخى إدريس !
فقال وهو يقهقه :
- لا تعجب مادمت تعلم أننى ابن الجبلاوى.
فهتف أدهم فى نفاد صبر :
- هلا أوسعت لى الطريق؟
- آما تشاء لك حماقتك !
- وملأ جيبه بالخيار، وألقى عليه نظرة ازدراء، ثم بصق على العربة ومضى.
ووقفت أميمة تستقبله وهو يقترب من الكوخ ، آانت الظلمة تغشى الخلاء، وفى داخل الكوخ شمعة تحترق آأنها رمق فى
صدر محتضر ، أما فى السماء فالنجوم تزهر، وععلى ضوئها يبدو البيت الكبير آشبح عملاق، أدرآت أميمية من صمته أنه
على حال يستحسن معها تجنبه، قمت إليه وز ماء ليغسل أطرافه وجاءته بجلباب نظيف ، وغسل وجهه وقدميه وبدل
جلبابه ثم جلس على الأرض ومد ساقيه، واقتربت منه فى حذر، فجلست وهى تقول بلهجة الاسترضاء:
- ليتنى اتحمل عنك بعض تعبك.
وآأنها حكت أجرب فصاح :
- اخرسى يا أصل الشر والتعاسة .
فتزحزحت بعيدًا عنه حتى آادت تختفى، ولكنه صاح :
- إنك خير من يذآرنى بغفلتى وحماقتى، ملعون اليوم الذى رأيتك فيه.
فجاءه فى الظلام انتحابها ولكنه ضاعف من غضبه فقال :
- سحقا لدموعك ! إن هى إلا عرق الخبث الذى يمتلىء به جسدك.
فجاءه صوتها الباآى قائلا :
- ىكل قول يهون بالقياس إلى عذابى .
- لا تسمعينى صوتك وأبعدى عن وجهى .
وآور ثوبه المخلوع ورماها به فتأوهت قائلة: "بطنى!" وسرعان ما برد غضبه ، وأشفق من العواقف، وأنست هى من صمته
تراجعا فقالت بصوت المتوجع :
- سأذهب بعيدا آما تريد.
وقامت فمضت تبتعد حتى صاح بها :
- هل تريب الوقت مناسبا للدلال ؟
ثم تحفز للقيام وهو يصيح :
- ارجعى لا رجعت إليك الراحة .
واحد بصره فى الظلام حتى رأى شبحها يعود فأسند ظهره إلى جدار الكوخ ورفع رأسه نحو السماء، وود لو يطمئن على
بطنها ولكن أبت آبرياؤه ، أجل ذلك إلى اجل قريب.. ثم مهد له بقوله:
- إغسلى بعض الخيار للعشاء .
( 11 )
مجلس لا يخلو من الراحة ، لا نبت فيه ولا ماء ولا عصافير تزقزق فوق الغصون، لكن أرض الخلاء الجرداء المشاآسة تكتسى
فى الليل حلة غامضة بخالها الحالم ما يشاء، وفوقه قبة السماء المرصعة بالنجوم والمرأة داخل الكوخ والوحدة ناطقة
والحزن آالجمر المدفون تحت الرماد، وسور البيت العالى يعاند المشتاق، وهذا الأب الجبار آيف السبيل إلى إسماعه
انبينى ومن الحكمة نسيان الماضى، لكن ليس لنا من زمن غيره، لذلك آرهت ضعفى ولعنت نذالتى ورضيت الشقياء رفيقا
وسألد له أبناء، والعصفورة التى لا تصدوها قوة عن الحديقة أسعد من أحلامى وعيناى احترقتا شوقا إلى المياه الجارية
بين شجيرات الورد وأين عبير الحناء والياسمين أين، أين خلو اباب والناى أين، أيها القاسى، مضت نصف عام فمتى يذوب
ثلج قسوتك؟
وعن بعد ترام صوت إدريس مغنيا بصوت آريه: "عجايب والله عجايب"، وإذا به يوقد نارًا أمام آوخه فاشتعلت آأنها شهاب
هوى فانغرس فى الأرض، وآانت زوجة تذهب وتجىء ببطنها المتدلى لتقدم طعاما أو شاربا ولطمته موجة سكر فصاح فى
السكون موجها الخطاب إلى البيت الكبير: "هذا أوان الملوخية والفراخ المحمرة، اطفحوها سمًا يا أهل البيت"، ثم عاد إلى
الغناء.
وقال أدهم لنفسه متأسفا: "آلما خلوت إلى نفسى فى الظام جاء الشيطان فاشعل ناره وعربد فأفسد على خلوتى"،
وظهرت أميمة عند باب الكوخ فعلم أنها لم تنم على خلاف ظنه، وآانت من الحمل فى إعياء ومن الجهد والفقر على حال لا
تسر ، وقالت برقة واشفاق:
- ألا تنام ؟
فقال فى ظهر :
Page 18
اولاد حارتنا .txt
- دعينى للساعة الوحيدة التى تطيب فيها الحياة.
- ستسعى بعربتك فى الصباح الباآر فما أحوجك إلى الراحة.
- فى وحدتى أرتد سيدا أو شبه سيد، أتأمل السماء واتذآر الأيام الخالية.
فتنهدت بصوت مسموع وقالت :
- أود لو رأيت أباك ذابها من البيت أو راجعا إليه أن أرمى بنفسى تحت أقدامه وأن استغفره.
فقال أدهم فى جزع :
- قلت لك مرارًا أن تقلعى عن هذه الأفكار، فليس بهذه الوسيلة يمكن أن نسترد عطفه.
فصمتت مليا ثم قالت همسا :
- إن أفكر فى مصير الشئ الذى فى بطنى.
- ولا شغل لى إلا هذا رغم أنى لم أعد إلا حيوانا قذرا.
فتمتمت بحزن :
- والله إنك خير الرجال جميعا .
فضحك أدهم ساخرا وقال :
- لم أعد إنسانًا، فالحيوان وحده هو الذى لا يهمه إلا الغذاء .
- لاتحزن ، آم من رجل بدأ مثلك ، ثم تيسر له العيش الرغيد فملك الدآاآين والبيوت.
- اراهن على أن أوجاع الحبل قد بلغت رأسك .
فقالت باصرار :
- ستكون رجلا ذا شأن وسينشأ وليدنا فى أحضان النعيم.
فضرب أدهم آفا بكف وتساءل ساخرًا :
- أأبلغ ذلك بالبوظة أم بالحشيش ؟
- بالعمل يا أدهم .
فقال فى سخط :
- العمل من أجل القوت لعنة اللعنات. آنت فى الحديقة أعيش لا عمل لى إلا أن انظر إلى السماء أو انفخ فى الناى، أما
اليوم فلست إلا حيوانا أدفع العربة أمامى ليل نهار فى سبيل شىء حقير نأآله مساء ليلفظه جسمى صباحا، العمل من
اجل القوت لعنة اللعنات الحياة الحقة فى البيت الكبير، حيث لا عمل للقوت وحيث المرح والجمال والغناء.
وإذا بصوت إدريس يقول :
= نطقت بالحق يا أدهم، العمل لعنة، وهو ذل لم نعده، ألم أعرض عليك الانضمام إلى ؟التفت أدهم نحو الصوت فراى شبح
غدريس واقفا على قرب منه هكذا يتسلل فى الظام دون أن يشعر به فيتصنت إلى الحديث ما شاء له التنصت، ويشترك
فيه إذا حلا له ذلك، ووقف أدهم منفعلا وهو يقول:
- عد إلى آوخك .
فقال إدريس بلهجة جدية مفتعلة :
- إنى مثلك أقول إن العمل لعنة لا تليق بكرامة الإنسان ..
- إنك تدعونى إلى البلطجة وهى قذارة فكيف يعيش الإنسان ؟
فلم يرتح إلى محادثته فصمت، وانتظر إدريس أن يتكلم فلم يتكلم ، فقال :
- لعللك تريد رزقا بلا عمل؟ ولكن ذلك سيكون حتما على حساب الآخرين.
وثابر أدهم على صمته فعاد الآخر يقول :
- أم لعلك تريد رزقا بلا عمل دون أن يضار به أحد؟
وضحك ضحكة آريهة وقال :
- هذه فزورة يا ابن الجارية ؟
- وصاحت اميمة بغضب:
- - عد إلى آوخك واخز الشيطان.
ونادته امرأته بحدة ، فرجع من حيث أتى وهو يترنم : "عجايب والله عجايب".
وتوسلت أميمة إلى زوجها قائلة :
- تجنب الاشتباك معه بأى ثمن .
- أنى أجده فجأة فوق رأسى دون أن أدرى آيف جاء.
وساد صمت اتخذا منه مسكنا لانفعالهما. وعادت أميمة تقول برقة :
= قلبى يحدثنى باننى سأجعل من آوخنا بيتًا شبيهًا بالبيت الذى طردنا منه، لن تنقصه الحديقة ولا البلابل، وسيلقى
وليدنا فيه آل راحة ومتعة.
فوقف أدهم يبتسم ابتسامة لم ترها فى الظام، وقال ساخرًا وهو ينفض التراب عن جلبابه:
- الخيار القشطة، الخيار السكر ، والعرق يتصبب من جسدى والغلمان يتسلون بمعاآستى، والأرض تأآل قدمى فى سبيل
ملاليم، ودخل الكوخ فتبعته وهى تقول :
- - لكن سيأتى يوم المرح والغناء.
- لو آنت تشقين ما وجدت وقتا للأحلام.
ورقد آل منهما على خيشه محشوة بالقش، وهى تقول :
- اليس الله بقادر على أن يجعل من جوخنا بيتا آالبيت الذى طردنا منه؟
فقال أدهم وهو يتثاءب :
Page 19
اولاد حارتنا .txt
- أمنيتى أن أعود إلى البيت الكبير .
ثم وهو يتثاءب بدرجة أعلى :
- العمل لعنة .
فقالت بصوت هامس :
- ربما ، ولكنها لعنة لا تزول إلا بالعمل !
( 12 )
وذات ليلة استيقظ أدهم على تأوهات عميقة . ولبث وهو بين النوم واليقظة حتى تبين صوت أميمة وهى تتوجع هاتة : "أه
يا ظهرى .. أه يا بطنى ". فجلس من فوره وهو يحملق صوبها ، ثم قال:
- هذا حالك هذه الأيام ثم ينجلى عن لا شئ ، اشعلى الشمعة.
فقالت وهى تئن :
- اشعلها بنفسك هذه المرة جدّ.
فقام يتحسس موضع الشمعة بين أدوات الطهى حتى عثر عليها، فأشعلها، وثبتها على الطبلية، فبدت أميمة على الضوء
الخافت جالسة متكئة على ساعديها، تئن، وترفع رأسها لتتنفس بصعوبة ظاهرة.
وقال الرجل بقلق:
- هذا ما تظنينه آلما شعرت بوجع.
فقالت بوجه متقلص :
- آلا ، أنا متأآدة أن هذه المرة جدّ.
وساعدها حتى أسند ظهرها إلى جدار الكوخ ثم قال :
- هو شهرك على أى حال ، تجلى حتى أذهب إلى الجمالية لأحضر لك الداية.
- صحبتك السلامة، ما الوقت الآن ؟
مضى أدهم خارج الكوخ، وجعل ينظر إلى السماء، ثم قال :
- الفجر قريب، لن أغيب إلا مسير الطريق.
واندفع يسير على عجل نحو الجمالية، ثم عاد يشق الظلام وهو قابض على يد الداية العجوز ليهديها السبيل، وعند اقترابه
من الكوخ ترامى إليه صراخ أميمة الذى مزق السكون، فخفق قلبه وأوسع خطاه حتى تشكت الداية، ودخلا الكوخ معا،
فخلعت المرأة ملاءتها وهى تقول أميمة ضاحكة:
- جاء الفرج، وما بعد الصبر إلا الراحة.
وسألها أدهم :
- آيف حالك ؟
فقالت فى صوت آالأنين :
- أآاد أموت من الألم، جسمى يتفكك ، وعظامى تنكسر، لا تذهب . فقالت الداية:
- بل ينتظر فى الخارج بسلام.
وغادر أدهم الكوخ إلى العراء فلمح شبحًا واقفًا عن قرب عرفه قبل أن يتبينه، فانقبض صدره، ولكن إدريس قال مصطنعا
لهجة الأدب :
- جاءها الطلق؟ مسكينة، مرت زوجى بهذه الحالة آما تعلم منذ زمن قصير، إنه ألم آاذب لا يلبث أن يزول، ثم تتلقى
نصيبك من عالم الغيب آما تلقيتُ هند، إنها طفلة ساحرة ولكنها لاتكف عن التبول والبكاء . تجلد.
فقال أدهم على مضض وضيق :
- الأمر لصاحب الأمر .
فصدرت عن إدريس ضحكة خشنة وتساءل:
- جئت لها بداية الجمالية؟
- نعم .
- امرأة قذرة ، طماعة ، جئتُ بها أيضا فغالت فى تقدير أتعابها فطردتها، وماتزال تدعو علىّ آلما رأتنى مارًا ببيتها.
قال أدهم بعد تردد :
- ما ينبغى أن تعامل الناس هكذا .
- يابن الأآابر، علمنى أبوك أن اعامل الناس بالفظاظة والقسوة، وارتفع صوت أميمة بصراخ آأنما هى صدى للتمزق الذى
يقع فى جوفها، فانطبقت شفتا أدهم على ما هم بقوله، واقترب من الكوخ قلقا، وهتف بصوت رقيق:
- شدى حيلك .
فردد إدريس قوله بصوت مرتفع :
- شدى حيلك يا امرأة أخى .
فأشفق أدهم من سماع زوجه هذا الصوت، لكنه دارى حنقه قائلا :
- يحسن بنا أن نقف بعيدا عن الكوخ .
- تعال بنا إلى آوخى أقدم لك الشاى، وترى هند وهى تغط فى النوم .
لكن أدهم ابتعد عن آوخه دون أن يتجه نحو آوخ الآخر، وهو يلعنه فى سره فى غيظ مكتوم، فتبعه إدريس وهو يقول :
- ستكون أبا قبل طلوع الصبح، إنه تغير خطير، من فوائده أن تشعر بالرابطة التى يمزقها أبوك فى يسر وبلادة فنفس أدهم
عن ضيقه بقوله :
- هذا الكلام يضايقنى.
Page 20
اولاد حارتنا .txt
- ربما ، لكن لاهم لنا غيره .
فسكت أدهم مترددًا ، ثم قال بشئ من الإشفاق:
- إدريس، لماذا تتبعنى وأنت تعلم ألا مودة بيننا؟
فقهقه غدريس عاليا وقال:
- يا لك من طفل قليل الحياء، لقد أيقظنى صراخ زوجك من أحلى نومه فلم أسمح لنفسى بالغضب، وعلى العكس جئت
لأقدم لك المعونة إن آنت فى حاجة إليها، وأن أباك ليسمع الصراخ آما سمعته لكنه عاود النوم آمن لا قلب له .
فقال أدهم فى ضجر :
- حسبنا ما آتب لنا من مصر، ألا تستطيع أن تتجاهلنى آما أتجاهلك ؟
- إنك تكرهنى يا أدهم لا لأننى آنت السبب فى طردك ولكن لأننى أذآرك بضعفك، إنك تكره فى نفسك الآثمة، أنا فلم يعد
لى من مبرر لكراهيتك، بل أنت اليوم عزائى وتسليتى، ولا تنس أننا جيران، وأول من سكن هذا الخلاء من الأحياء، وسيدب
عليه أولادنا جنبا إلى جنب.
- إنك تتلذذ بتعذيبى.
فصمت إدريس مليا حتى مى أدهم نفسه بالخلاص، ولكنه عاد يسأل بلهجة جدية:
- لماذا لا نتفق؟
فقال أدهم وهو يتنهد :
- لأننى بياع على قد حالى وأنت رجل هوايتك الضرب والاعتداء .
وعاد صراخ أميمة يعلو ويشتد فرفع أدهم رأسه متوسلاً، فأدرك من توه أن آثافة الظلام قد خفت، وأن الفجر تسلق الجبل،
وهتف أدهم:
- ما ألعن الألم !
فقال إدريس ضاحكا :
- ما أجمل الرقة، خلقت لإدارة الوقف والنفخ فى الناء.
- اسخر ما شئت ، إنى متالم.
- لماذا ؟ حسبت امرأتك هى المتلأمة !
فصاح أدهم من فرط جزعه:
- دعنى وشأنى .
فتساءل الآخر فى هدوء مغيظ :
- أتريد أن تصير أبا بلا ثمن ؟
فلزم أدهم الصمت وهو ينفخ فقال إدريس متعاطفا:
- أنت حكيم، وقد جئت أعرض عليك عملا تستعين به على إسعاد المخلوقات القادمة ، إن هذا الذى نسمع مقدمات
تشريفة الأول وليس الأخير، فإن شهواتنا لا تقنع إلا بأن تبنى فوقنا تلاً من الذرية الصاخبة، ما رأيك؟
- الضياء يلوح فاذهب لتستوفى نومك .
وتعالى الصراخ، متتابعا متواصلا حتى ضاق أدهم بموقفه فرجع إلى الكوخ الذى شق عنه الظلام، وبلغه وأمية ترسل تنهدة
عميقة مثل ختام أغنية حزينة اقترب من باب الكوخ وهو يتساءل:
- آيف الحال عندآم ؟
فجاءة صوت الداية وهو يقول : " انتظر"، تحفز قلبه للارتياح عندما خيل إليه أن الصوت يوحى بالظفر، ومالبث أن لاحت المرأة
فى الباب وهى تقول :
- رزقت بذآرين .
- توامين ؟
- فليرزقك الله برزقهما .
وصحت أذنيه ضحكة إدريس من وراء ظهره وسمعه يقول :
- إدريس الآن أب لأنثى وعم لذآرين.
ومضى نحو آوخه وهو يغنى : "البخت والقسمة فين يادى الزمان قلبى" وعادت الداية تقول :
- ترغب الأم فى أن يسميا قدرى وهمام .
فراح أدهم يغمغم وقد استخفه السرور.
- قدرى وهمام ، قدرى وهمام .
( 13 )
قال قدرى وهى يجفف وجهه بذيل جلبابه :
- فنجلس لتناول طعامنا .
- فقال همام وهو ينظر نحو الشمس المائلة للغروب .
- نعم سرقنا الوقت .
تربعا على الرمال تحت سفح المقطم، وحل همام عقدة المنديل الأحمر المخطط فكشف عن خبز وطعمية وآرات، وراحا
يأآلان وينظران بين حين وآخر نحو أغامهما، التى هام بعضها على وجهه، وقعد البعض ليجتر فى راحة وسلام، لم يكن ثمة
ما يميز بين الشقيقين فى الملامح والقسمات، غير أن نظرة الصائد المتجلية فى عينى قدرى أضفت على سحنته حدة
ميزته بطابع خاص، وعاد قدرى يقول وهو يطحن الطعام المحتشد فى فيه :
- لو آان هذا الخلاء لنا دون شريك لرعينا اغنامنا مرتاحى البال.
فقال هماما باسما :
Page 21
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
القديس

avatar


نقاط التميز
عدد المواضيع : 36
نقــــــــاط : 62
تاريخ التسجيل : 08/02/2010

رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا ) Empty
مُساهمةموضوع: رد: رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا )   رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا ) Icon_minitimeالخميس فبراير 11, 2010 7:42 pm

- ولكن هذا الخلاء مقصد الرعاة من العطوف وآفر الزغارى والحسينية، ومن الممكن ان نصادقهم فنتقى شرهم.
فضحك قدرى ضحكة هازئة انطلقت من فيه مع فتات من طعامه وقال:
- هذه الحوارى عندها جواب واحد لمن ينشد صداقتها هو الصفعات. لكن ..
- لا لكن يا ابن إبى ، أنى أعرف طريقة واحدة، وهى أن اجذب الرجل من جلبابه وانطحه فى جبينه فينقلب على وجهه أو
على قفاه .
- لذلك لا نكاد نحصى أعداءنا .
- ومن آلفك بإحصائهم؟
وتابع همام جديا أو غل فى الابتعاد فراح يصفر له حتى توقف وادار عائدا فى صمت الحكيم وانتقى عودًا من الكرات ومسحه
باصابعه فدفعه فى فيه متلذذًا ، ثم قال وهو يتمطق:
- ولذلك تجدنا وحدنا ، ويمضى الوقت الطويل دون أن نتكلم .
- وما حاجتك إلى الكلام وأنت تغنى طوال الوقت؟
فنظر همام إليه بثقة وقال:
- يخيل إلى أنك تضيق بهذه الوحدة أحيانا.
- ساجد دائما عللا للضيق، الوحدة أو غيرها .
وساد صمت وضح فيه التمطق، ولاحت عن بعد جماعة عائدة من الجبل نحو العطوف، تسير على غناء ، منشد آالحادى
والآخرون يرددون فقال همام:
- هذه الناحية من الخلاء امتداد لحينا، ولو ذهبنا شمالاً أو جنوبًا، فأغلب الظن أن لن نعود.
فضحك قدرى ضحكة مجلجلة وقال :
- سنجد فى الشمال وفى الجنوب أناسًا يودون قتلى، ولكن لن تجد واحدا يجرؤ على منازلتى.
فقال همام وهو ينظر نحو الأغنام :
- لا يمكن إنكار شجاعتك، ولكن لا تنس أننا نعيش بفضل اسم جدنا وسمعة عمنا المخفية رغم مابيننا وبينه من خصام.
- فعقد قدرى ما بين حاجبيه احتجاجا ، ولكنه لم يجهر بمعارضة واتجه بصره نحو البيت الكبير الذى لاح عن بعد فى الغروب
هيكلا ضخما مطموس المعال، وقال :
- هذا البيت ! لم أشهد له مثيلاً، فى خلاء بكتنفه من جميع النواحى ، وعلى مقربة من حوار وأزقة اشتهرت بالجبروت
والمشاآسة ، صاحبه جبار بلا جدال، هذا الجد الذى لم ير أحفاده وهم على بعد ازرع منه!
فاتجه بصر همام ناحية البيت، ثم قال :
- إن إبانا لا يذآره إلا مصحوبًا بالاجلال والإآبار.
- وعمنا لا يذآره ألا مصحوبا باللعنات.
فقال همام باشفاق :
- هو جدنا على أى حال .
- وما جدوى ذلك يا غلام؟ إن أبانا يكدح وراء عربته، وأمنا تكد طوال النهار وشطرًا من الليل، ونحن نعاشر الأغنام حفاة شبه
عراة، أما هو فقابع وراء الأسوار، بلا قلب، متمع بنعيم لا يخطر على بال .
فرغا من الطعام ، نفض همام المنديل ولفه ثم دسه فى جيبه، واستلقى على ظهره متوسدًا ذراعيه، مرسلاً ناظريه إلى
السماء الصافية، وهى تفطر هدوء المغيب، والحداى تولى فى الآفاق، ونهض قدرى فانتحى جانبا ليبول، وقال:
- يقول أبونا إنه آان يخرج آثرًا فى الماضى فيمر بهم فى ذهابه وإيابه، أما اليوم فلا يراه أحد، وآأنما يخاف على نفسه .
قال همام بنبرات حالمة:
- آم تمنيت أن أراه .
- لا تحلم بأن ترى شيئا خارقًا، ستجده شبيهًا بأبينا أوبعمنا، أو بكليهما معا، إنى أعجب لوالدى آيف لا يذآره إلا بالإجلال
رغم ما ناله على يديه.
- الظاهر أنه آان شديد التعلق به ، او أنه امن بعدالة ما نزل به من عقاب.
- أو أنه مازال يطمع فى عفوه !
- أنك لاتفهم أبانا، إنه رجل ودود العشر .
عاد قدرى إلى مجلسه وهو يقول :
- إنه لا يعجبنى، وأنت لا تعجبنى ، أؤآد لك أن جدنا شخص شاذ لا يستحق الاحترام، ولو آانت به ذرة من خير ما جفا
لحمه هذا الجفاء الغريب، إنى أراه آما يراه عمنا لعنة من لعنات الدهر.
فقال همام باسمًا :
- لعل أرذل ما فيه هو ما تتباهى به أنت ، أعنى القوة والبطش.
فقال قدرى بحدة :
- لقد نال هذه الأرض هبه بلا عناء ثم طغى واستكبر.
- لا تنكر ما أعترفت به منذ قليل أن الوالى نفسه لم يكن بوسعه أن يعيش وحده فى مثلا هذا الخلاء.
- وهل تجد فى الحكاية التى رويت لنا مسوغا حقا لغضبه على والدينا؟
- إنك تجد أهون منها سببًا آافيًا للبطش بالناس !
تناول قدرى الكوز ومضى يشرب حتى روى، ثم تجشأ وقال :
- ما ذنب الأحفاد ؟ أنه لايدرى ما رغى الغنم، سحقًا له، أود لو أعرف وصيته، وماذا أعد لنا؟
فتنهد همام وقال بصوت حالم :
- ثروة تربح من العناء، آى يفرغ المرء لقلبه، ويمضى العمر فى يسر وطرب.
Page 22
اولاد حارتنا .txt
- أنك تردد قول أبينا نشقى فى التراب والطين ونحلم بالناى فى ظل حديقة غناء، الحق أقول إنى أعجب بعمى أآثر من
أبى.
فجلس همام وهو يتثاءب ثم نهض يتمطى، وقال:
- على أى حال صرنا شيئا ، لنا مأوى يسعنا ورزق يحفظ علنيا الحياة ، وأغنام نرعاها، نبيع لبنها ونسمنها لنبيعها أيضا، ومن
شعرها تغزل أمنا الكساء.
- والناى والحديقة ؟
فلم يجب، واتجه نحو الأغنام بعد أن تناول عصاه الملقاه عند قدميه، ووقف قدرى، وصاح موجهًا خطابه إلى البيت الكبير فى
عبث :
- أسمحت بأن نرثك أم ستعاقبنا فى موتك آما عاقبتنا فى حياتك؟
أجب يا جبلاوى .
وردد الصدى : "أجب يا جبلاوى ".
( 14 )
ورأيا عن بعد شخصًا يتجه نحوهما لم تضح معالمه، ومضى القادم يقترب رويدًا حتى تبيناه، فأنتصبت قامة قدرى بحرآة
تلقائية وشعت عيناه الجميلتان بنور ابتهاج. ولحظ همام أخاه باسمًا ، ثم نظر إلى الأغنام فى غير مبالاة وهمس بلهجة
تنبيه:
- الظلام غير بعيد .
فهتف قدرى باستهانة :
- فليأت الفجر إذا شاء .
وخطا خطوات نحو الأمام ملوحًا بذراعيه فى ترحاب للفتاة، وأخذت تدنو من موقفها، مجهدة من المشى، لطول المسافة من
ناحية ولمقاومة الرمال لشبشبها من ناحية أخرى، متطلعة نحوهما ببصر لامع يعكس مع فتنة العينين الخضرواين جرأة،
وبدت ملتفة بملاءتها اللف حتى الكتفين، مطلقة الرأس والعنق عاريين فعبث الهواء بضفيرتيها، وارتفع صوت قدرى بسرور
مسح عن وجهه امارت الحدة :
- أهلاً بهند .
فأجابت بصوت رقيق :
- أه بك (ثم مخاطبة همام) مساء الخير يا ابن عمى .
فقال همام باسما :
- مساء الخير يا بنت العم، آيف حالك ؟
وتناول قدرى يدها وسار بها نحو الصخرة الكبيرة القائمة على بعد امتار من موقفهما، ودار حول الصخرة حتى ضلعها
المواجهة للجبل فصارا فى منعزل عن الخلاء ومن فيه. وجذبها نحوه فأحاطها بذراعيه ثم قبل ثغرها قبلة طويلة حتى
تماست ثناياها وغابت الفتاة فى لحظة استسلام مذهلة، واستطاعت أن تتخلص من ذراعيه، وأن تقف مضطربة الأنفاس
فتحكم لف ملاءتها، وتتلقى نظرته المهاجمة بنظرة باسمة، ولكن الابتسامة اختفت آأنما لخاطرة خطرت، وتقوست
الشفتان فى تبرم ثم قالت:
- جئت بعد معرآة، أف هذه الحياة لا تطاق.
فقطب قدرى لا دراآه ما تعنى وقال بحدة:
- لا تبالى بشئ ، أننا أبناء الحمق، أبى الطيب رجل غبى ، وأبوك الشرس لا يقل عنه غباء، أنهما يودان أن يورثانا الكراهية،
فيا للغباء! خبرينى آيف تيسر لك المجئ؟
فنفخت وقالت :
- مضى اليوم آاليام السابقة فى نقار متواصل بين أبى وأمى، وصفعها مرة او مرتين فصرخت تلعنه وصبت غضبها على قلة
فحطمتها ، ولكن غضبها اليوم وقف عند هذا الحد، إنها آثيرًا ما تمسك بخناقه متحدية لطماته، وتدعو عليه إذا غلبت على
أمرها، أما إذا غلبته الخمر فلا سلامة غلا البعد عن وجهه. آثيرًا ما أشعر برغبة فى الهرب، وبكراهية شديدة لهذه الحياة،
ولكنى أروح عن نفسى بالبكاء حتى تؤلمنى عيناى، ما علينا، انتظرت حتى ارتدى ثيابه وذهب فتناولت الملاءة ولكن أمى
تعرضت لى تحاول منعى آالعادة، ولكنى تخلصت منها ومضيت إلى الخارج.
فتناول قدرى يدها بين يديه وتساءل:
- ألا تخمن أين تذهبين؟
- لا أظن ، لايهمنى، إنها على أى حال لا تجرؤ على إخبار أبى فضحك قدرى ضحكة مقتضبة وسألها:
- ماذا تظنينه يفعل لو عرف ؟
فرددت ضحكته فى حيرة ولكنها قالت :
- إنى لا اخشاه رغم شدته، بل أقول لك إنى أحبه، وهو يحبنى فى سذاجة لا تتفق وحدة طبعه، ولا يبالى أن يقول إننى
أغلى شئ فى دنياه، ولعل هذا هو أصل متاعبى.
جلس قدرى على الأرض أسفل الصخرة ودعاها إلى الجلوس بأن ربت الموضع جانبه، فجلست وهى تتخفف من حبكة
الملاءة، ومال نحوها فلثم خدها. ثم قال :
- يبدو أن غزو أبى أيسر من غزو أبيك، ومع ذلك فشد ما يبدو فظا إذا جاء ذآر لأبيك ، أنه ينكر عليه صفات.
ضحكت قائلة وهى تذآر ما تردده عن ذآره :
- بنى أدم ! آذلك ينكر أبى عليه .
فحدجها بنظرة استنكار فقالت :
Page 23
اولاد حارتنا .txt
- أبوك ينكر على أبى فظاظته، وأبى ينكر على أبيك طيبته، والمهم أنهما لم يتفقا على شئ.
فندت عن رأس قدرى حرآة آأنما ينطح الهواء، وقال بتحد:
- لكننا سنفعل ما نشاء.
فقالت هند وهى تنظر نحوه بعطف واشفاق:
- أبى يستطيع أن يفعل ما يشاء آذلك !
- وأنا قادر على أشياء آثيرة، ماذا يريد لك هذا العم السكير؟
فضحكت على رغمها، وقالت بلهجة تشى الاحتجاج والمداعبة معا:
- تكلم عن أبى بأدب .
وواصلت الكلام وهى تقرصه فى أذنه :
- طالما ساءلت نفسى عما يريد لى، فخيل إلى أحيانا أنه يكره أن يزوجنى من أحد .
فحملق فيها منكرًا فعادت تقول :
- رأيته مرة يرمى بيت جدنا بنظرة غاضبة ويقول : "إذا آان قد رضى لأبنائه وأحفاده الهوان فهل يرضى به لحفيدته؟ لا مكان
لائق بهند إلا هذا البيت المغلق". ومرة قال لأمى إن فتوة آفر الزغارى يرغب فى الزواج منى ففرحت أمى فصاح بها حانقًا:
"يا وضيعة.. يا خسيسة، من يكون فتوة آفر الزغارى هذا؟". أن أحقر خادم فى البيت الكبير أشرف منه وانظف، فسألته
أمى فى حسرة: فمن تراه الجدير بها؟ فصاح "علم ذلك عند الطاغية المتوارى خلف أسوار بيتهه، أنها حفيدته، وليس فى
الأرض من هو أهل لها! أريد لها زوجا مثلى أنا. فقالت أمى على رغمها: أتريدها أن تكون تعيسة مثل أمها؟ فهجم عليها
آالوحش وراح يرآلها بشدة حتى جرت خارج الكوخ.
- هذا هو الجنون بعينه .
- إنه يكره جدنا ، ويلعنه آما ذآره، لكنه فى أعماقه يتيه إذلالا بأبوته.
فكور قدرى قبضته وجعل يضرب بها فخده ويقول :
- لعلنا آنا نكون أسعد حالاً لو لم يكن ذلك الرجل جدًا لنا، فقالت بمرارة :
- لعلنا .
فجذبها إلى صدره بشدة تناسب الحدة فى قوله وضمها إليه بقوة .
واستبقاها هكذا بين يديه ريثما ترم فترة الانتقال بين الشواغل المتعبة وبين الهيام الموعود، وقال :
- اعطينى فالك .
عند ذاك تراجع همام من موقفه عند الصخرة ، واتجه بخفة نحو الأغنام وهو يبتسم فى حياء وأسى ، خيل إليه أن الهواء
يثمل بأنفاس الحب، وأن الحب ينذر بالمآسى، لكنه قال لنفسه: "صفا وجهه ورق، لا يرى على هذا الحال إلا خلف الصخرة،
فمن لنا بقوة هذا الحب السحرية لتزيل متاعبنا؟". هنا السماء تشجب فى استسلام، وانفاس المغرب تتردد فى خمول
والسحرة تزحف آنغمة وداع وانيه، وهناك تيس يثب على عنزة، وعاد همام يحدث نفسه: "ستفرح أمى يوم تلد هذه
العنزة، ولكن ميلاد إنسان قد يجئ بالكوارث، فوق رؤسنا لعنة من قبل أن نولد، وأعجب عداوة هى التى لا تجد لها من مبر
إلا أنها بين أخوين، إلى متى نعانى من هذه الكراهية، لو نُسى الماضى لابتهج الحاضر، ولكنا سنظل نتطلع إلى هذا البيت
الذى لا عزة لنا إلا به ولا تعاسة إلا بسبب منه، وعلقت عيناه بالتيس فابتسم ومضى يدور حول الغنم وهو يصفر ويلوح
بعصاه، وحانت منه التفاتة نحو الصخرة الكبيرة الصامتة فبدت فى وقفتها آأنها لا تبالى شيئا فى الوجود.
( 15 )
استيقظت أميمة آعادتها عندما لم يبق فى السماء إلا نجمة واحدة ونادت أدهم حتى استيقظ متاوها، ونهض الرجل فغادر
غرفته مثقلا بالنعاس إلى غرفة خارجية متصلة بها حيث ينام قدرى وهمام فأيقظهما، وبدا الكوخ فى مظهره الجديد ناميا
ممتدًا آأنه بيت صغير، وأحاط به سور ضم غليه فراغا خلفيا لإيواء الأغنام وانتشرت على السور أفرغ اللبلاب فلطفت من
جفاء منظره، ودلت على أن أميمة لم تيأس بعد من تحقيق حلمها القديم بأن تهذب ما استطاعت آوخها على مثال البيت
الكبير، واجتمع الرجال فى الفناء حول صفيحة مملوءة بالماء، فغسلوا وجوههم، وارتدوا جلابيب العمل، وحمل الهواء من
داخل الكوخ رائحة احتراق خشب، وبكاء الأخوة الصغار ، وأخيرًا جلسوا حول الطبلية أمام مدخل الكوخ يأآلون من حلة فول
مدمس، وآان جو الخريف رطيبا مائلا للبرودة فى هذه الساعة المبكرة ولكنه لاقى أجساما قوية صمدت حيال نزواته، وعن
بعد بدا آوخ إدريس وقد آبر وامتد آذلك، أما البيت الكبير فقام فى صمت منطويا على ذاته آانما لايربطه سبب فهذا العالم
الخارجى ، وجاءت أميمة تحمل آوزين لبن محلوب لتوه فوضعته على الطبلية وجلست، وعند ذاك سألها قدرى بسخرية :
- لماذا لا تبيعن اللبن إلى بيت جدنا الموقر ؟
فالتفت إليه أدهم برأسه الذى وخط المشيب فوديه وقال:
- آل وأنت ساآت، السكوت غاية ما نرجو عندك من خير، وقالت أميمة وهى تطحن ما فى فيها:
- آن لنا أن نخلل الليمون والزيتون والفلفل الأخضر، آنت ياقدرى تبتهج فى أيام التخليل وتشترك فى حشو الليمون.
فقال قدرى بمرارة :
- آنا نبتهج ونحن صغار حتى بلا سبب .
فسأله أدهم وهو يعيد الكوز إلى موضعه .
- وماذا يشقيك اليوم يا أبو زيد الهلالى ؟
فضحك قدرى ولم يجب أما همام فقال :
- يوم السوق قريب، ينبغى أن نفرز الأغنام .
فهزة الأم رأسها بالإيجاب على حين وجه الأب خطابه إلى قدرى قائلا :
- يا قدرى لا تكن فظا، لا أقابل شخصا يعرفك إلا شكاك إلى، أخشى أن تعيد سيرة عمك فى هذه الحياة.
- أوسيرة جدى !
Page 24
اولاد حارتنا .txt
فاتقدت عينا أدهم استياء ، وقال :
- لا تذآر جدك بسوء، هل سمعتنى أفعل ذلك؟ ثم أنه لم يسئ إليك.
فقال قدرى باستنكار :
- أساء إلينا ما دام أساء إليك .
- اسكت ، نقطنا بسكوتك .
- بسببه آتبت علينا هذه الحياة، وهى أيضا مصير بنت عمنا.
فقال أدهم فى عبوس :
- مالنا ومالها ، أبوها علة الكارثة .
فهتف قدرى :
أعنى أنه ما آان يصح أن تنشأ نساء من دمنا فى الخلاء، والعراء، ثم خبرنى أى رجل ستتزوج هذه الفتاة؟
- ليكن الشيطان نفسه، لا شأن لنا بها، لا شك أنها مفترسة مثل ابيها.
ونظر نحو زوجه آأنما ينشد تأيدًا فقالت أميمة.
- نعم ، مثل أبيها .
فبصق أدهم قائلا :
- ملعونة هى وأبوها !
فتساءل همام :
- ألا يفسد هذا الحديث علينا طعامنا؟
فقالت أميمة برقة.
- لا تبالغ، إن أسعد الأوقات وقت اجتماعنا.
هنا ترامى إليهم صوت إدريس آالهدير وهو يلعن ويسب ، فقال أدهم بتقزز :
- بدأت صلاة الصبح.
وتناول أخر لقمة ونهض، ثم اتجه نحو عربته وراح يدفعها أمامه وهو يقول: ترآتكم بعافية فردوا عليه/ مع السلامة. ومضى
الرجل مبتعدا صوب الجمالية، وقام همام فمضى نحو الحظيرة من ممشى جانبى، وما لبث أن تعالى ثغاء الأغنام ووقع
أظلافها فملأت الممشى فى طريقها إلى الخارجن ونهض قدرى آذلك فتناول عصاه ولوح لأمه مودا ولحق باخيه. وعندما
اقتربا من آوخ إدريس تصدى لهما فتساءل ساخرًا:
- بكم الرأس يا جدع؟
فحدجه قدرى بنظرة حب استطلاع على حين تجنب همام النظر إليه وعاد إدريس يتساءل فى إنكار:
- ألا يتفضل أحدآم بالجواب ا ابنى بياع الخيار؟
فقال قدرى بحدة :
- إذا أردت الشراء فاذهب إلى السوق .
فتساءل إدريس مقهقها :
- وإذا قررت الاستيلاء على إحداها؟
وجاء صوت هند من الداخل وهى تقول :
- أبى ، لا نريد فضائح .
فأجابها مداعبا :
- اهتمى بشأنك أنت، ودعينى لسلالة الجوارى !
فقال همام :
- نحن لا نتعرض لك فلا تتعرض لنا .
- أه صوت أدهم ، آان ينبغى أن تكون بين الأغنام لا وراءها.
فقال همام محتدًا :
- أمرنا أبى بألا نجيب على تحرشك بنا .
فقهقه إدريس عاليا وقال :
- جزاه الله آل الخير، لولا أمره هذا لكنت فى الهالكين! (ثم بلهجه خشنة).. إنكما تعيشان عزيزين بفضل اسمى، لعنة الله
عليكم جميعا غورا من وجهى.
وواصلا سيرهما وهما يلوحان من حين إلى حين بعصويهما، ولبث همام ممتقع اللون من الانفعال فقال لقدرى:
- هذا الرجل مقيت، ما أقدره، حتى فى هذه الساعة المبكرة تنفث أنفاسه رائحة الخمر.
فقال قدرى وهما يوغلان وراء الأغنام فى الخلاء :
- أنه يتكلم آثيرا، ولكنه لم يمد لنا يدا بأذى.
فقال همام محتجا :
- بل استولى أآثر من مرة على بعض أغنامنا .
- إنه سكير، وهو للأسف عمنا، لا مهرب من الاقرار بذلك.
وساد الصمت قليلا وهما يتجهان نحو الصخرة الكبيرة، وفى السماء سحب متفرقة، والشمس ترسل أشعتها فتغمر الرمال
المترامية ، وضاق همام بكتمان ما يود قوله فقال :
- ستخطئ خطأ آبيرًا إذا وصلت أسبابك بأسبابه .
فاشتعلت عينا قدرى بنظرة غاضبة وهتف :
- لا تحاول نصحى ، حسبى أبوك .
Page 25
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
القديس

avatar


نقاط التميز
عدد المواضيع : 36
نقــــــــاط : 62
تاريخ التسجيل : 08/02/2010

رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا ) Empty
مُساهمةموضوع: رد: رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا )   رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا ) Icon_minitimeالخميس فبراير 11, 2010 7:43 pm

فقال همام وهو لم يفق بعد من إهانات إدريس :
- حياتنا موفورة المتاعب فلا تزدها .
فصاح قدرى :
- فلتسحقكم المتاعب التى تخلقونها بأنفسكم، أما أنا فأفعل ما أشاء.
وآان قد بلغا الموضع الذى يسرحان عنده الغنام فالتفت همام نحو أخيه وتساءل :
- أتظن أنك ناج من عواقب أفعالك ؟
فقبض قدرى على منكبه بقبضته وصاح :
- ما أنت إلا حسود .
فدهش همام . دهمه قول أخيه الذى لم يتوقعه، ولكنه آان متعودًا من ناحية أخرى على مفاجأته ومفرقعاته، ورفع يده عن
منكبه وهو يقول :
- اللهم أحفظنا .
فتشبك قدرى يديه على صدره وهو يهز رأسه ساخرًا فقال همام :
- خير ما أفعل أن أترآك لنفسك حتى تندم، لن تقر بخطأ، ولن تقر به إلا بعد فوات الفرصة.
وأولاه ظهره متجها نحو جانب الصخرة الظليل، ووقف قدرى مكفهر الوجه تحت الأشعة الحامية.
( 16 )
جلست أسرة أدهم أمام الكوخ تتناول عشاءها فى ضوء النجوم الخافت، وإذا بحدث يقع لم يشهد له الخلاء مثيلاً مذ طرد
أدهم، فتح باب البيت الكبير وخرج منه شبح حاملاً مصباحا، وتطلعت العين إلى المصباح فى دهشة انعقدت لها الألسنة،
وتابعته وهو يتحرك فى الظلام آكوآب أرضى، وعندما توسط المسافة بين البيت والكوخ ترآزت الأبصار على الشبح لتتبينه
على ضوء المصباح المنعكس حتى همس أدهم: " هذا عم آريم بواب البيت"، وتضاعفت الدهشة عندما أيفنوا من أنه
يقصدهم فوقفوا جميعا، بعضهم اللقمة فى يده والبعض اللقمة فى فيه بلا حراك، وبلغ الرجل موقفهم فوقف رافعا يده وهو
يقول :
- مساء الخير يا سيدى أدهم .
ارتجف أدهم لدى سماعة الصوت الذى انقطع عنه منذ عشرين عاما، فدعا من أعماق ذاآرته نبرات الأب العميقة وشذا
الياسمين والحناء وحنينا وأشجانا فمادت به الأرض وقال وهو يقاوم دموعه.
- مساء الخير يا عم آريم .
فقال الرجل بتأثر غير جاف :
- لعلك أنت وأهلك بخير .
- الحمد لله يا عم آريم .
فقال الرجل برقة :
- أود أن أعرب لك عما بنفسى ولكنى آلفت فقط بأن أبلغك بأن سيدى الكبير يدعو أبنك همام إلى مقابلته فورًا.
وساد الصمت، فتبادلوا النظرات ، ولتفهم الحيرة ، وإذا بصوت يتساءل:
- همام وحده ؟
التفتوا ساخطين نحو إدريس الذى بدا عن آثب وهو يصغى غير أن عم آريم لم يجن ورفع يده تحية ورجع صوب البيت الكبير
تارآا الجميع فى ظام، وتغيط إدريس منه فصاح به:
- اتترآنى بلا جواب يا ابن اللئيمة ؟
وأفاق قدرى من ذهوله فتساءل غاضبا:
- ولماذا همام وحده؟
فردد إدريس تساؤله:
- نعم لماذا همام وحده.
فقال له أدهم، ولعله وجد فى مخاطبته متنفسا عن أزمته:
- عد إلى آوخك ودعنا فى سلام .
- سلام ؟ إنى أقف حيث أشاء.
وتطلع همام إلى البيت الكبير صامتا، وقلبه يخفق بشدة خيل إليه معها أن المقطم يردد صداه، وقال له أبوه بتسليم:
- اذهب يا همام إلى جدّك مصحوبًا بالسلامة.
فالتفت قدرى إلى أبيه يسأله بحدة وتحد :
- وأنا ؟ ألست أبنك مثله ؟
- لا تتكلم آما يتكلم إدريس يا قدرى، إنك ابنى مثله بلا أدنى ريب، ولا لوم على فلست أنا الداعى.
فقال إدريس محتجا :
- لكن بوسعك أن تمنع تمييز أخ عن أخيه .
- هذا شأن لا يعنيك (ثم مخاطبا همام) يجب أن تذهب وسيأتى دور قدرى، إنى واثق من ذلك.
فقال إدريس وهو يهم بالذهاب:
- إنك أب ظالم مثل أبيك، مسكين قدرى، لماذا يعاقب دون ذنب؟ لكن اللعنة تنزل أول ما تنزل فى أسرتنا بالممتازين، ألا
لعنة الله على هذه الأسرة المجنونة!
ومضى فابتعلته الظلمة، وعند ذاك هتف قدرى :
- إنك تظلمنى يا أبى .
- لا تُعد أقواله، تعال يا قدرى، واذهب يا همام.
Page 26
اولاد حارتنا .txt
فقال همام بحرج :
- وددت لو آان معى أخى .
- سيلحق بك .
فصاح قدرى بحنق :
- أى ظلم هذا ! لماذا أثره على؟ إنه لم يعرفه آما لم يعرفنى فلماذا يختصه بالدعاء؟
فدفعه أدهم همام قائلا :
- اذهب .
فسار همام، وهمست أميمة :
- تحفظك العناية.
واحتضنت قدرى باآية ولكنه تخلس من ذراعيها ومضى فى أثر أخيه فصاح به أدهم :
- عد يا قدرى ولا تقامر بمستقبلك .
فقال قدرى بغضب :
- لن ترجعنى قوة على الأرض .
وعلا صوت أميمة بالبكاء، وبكى الصغار فى الداخل، وأوسع قدرى خطاه حتى لحق بأخيه، وعلى آثب منه فى الظلام رأى
شبح إدريس يسير ممسكا بيد هند، ولما بلغوا باب البيت دفع إدريس قدرى إلى يسار همام وهند إلى يمينه وتراجع
خطوات وهو يصيح :
- افتح يا عم جريم ، جاء الأحفاد للقاء جدهم.
وفتح الباب وظهر على عتبته عم آريم وبيده المصباح، وقال بأدب :
- فليتفضل سيدى همام بالدخول .
هتف إدريس :
-وهذا أخوه قدرى، وهذه هند وهى صورة مكررة من أمى التى ماتت باآية.
فقال عم آريم بأدب:
- أنت تعلم يا سيدى إدريس أنه لا يدخل هذا البيت إلا من يؤذن له.
وأشار إلى همام فدخل، وتبعه قدرى أخذًا بيد هند ولكن علا صوت من الحديقة عرفه إدريس وهو يقول بصرامة:
- اذهبا بعارآما أيها الملوثان.
تسمرت أقدامهما ، وأغلق الباب، وانقض إدريس عليهما فقبض على منكبيهما بقبضته وتساءل بصوت متهدج من الغضب:
- أى عار يعنى ؟
وصرخت هند ألما، على حين تحول قدرى فجأة نحو إدريس ورفع يديه عنه وعن هند، فأفلتت هند وولت هاربة فى الظلام ،
وتراجع إدريس بخفة إلى الوراء ثم وجه إلى قدرى لكمة فتحملها الشاب رغم قوتها ووجه إليه لكمة أشد، واندفعا يتبادلان
الضرب والرآل بقسوة ووحشية تحت سور البيت الكبير، وصاح إدريس:
- سأقتلك يا ابن العاهرة .
فصاح قدرى :
- سأقتلك قبل أن تقتلنى .
وتبادلا الضربات حتى سال الدم من فم قدرى وأنفه، وجاء أدهم جريا آالمجنون وصاح بأعلى صوته:
- اترك ابنى يا إدريس .
فصاح إدريس بحقد .
- سأقتله بجريمته .
- لن أدعك تقتله، ولن أدعك تعيش أن قتلته.
وجاءت أم هند مولولة وهى تصيح :
- فرت هند يا إدريس ، أدرآها قبل أن تختفى .
ورمى أدهم بنفسه بين إدريس وقدرى وصاح بأخيه:
- أفق، إنك تقاتل بلا سبب، بنتك طاهرة لم تمس لكنك أرعبتها ففرت، أدرآها قبل أن تختفى.
وجذب قدرى إليه، ورجع به مسرعا وهو يقول:
- اسرع ، ترآت أمك فى حالة اغماء.
أما إدريس فانطلق فى الظلام وهو يصرخ بأعلى صوته: هند .. هند .
( 17 )
تبع همام عم آريم فاجتاز الممشى تحت عريشة الياسمين متجهين نحو السلاملك.. بدا الليل فى الحديقة شيئا جديدا،
لطيفا رطبا مترعا بنشوات الأزهار والرياحين فانسكب بروعته فى أعماق روحه، وامتلأ الشاب بشعور جلال وافتتان ، وحنين
مودة عميقة للمكان، وبأنه مقبل على أجل لحظات عمره، وتراءت لعينيه أنوار وراء شيش بعض النوافذ، ونور قوى ينبعث من
باب البهو فارشا على أرض الحديقة تحت شكلاً هندسيًا فخفق قلبه وهو يتخيل الحياة خلف النوافذ وفى الأبهاء، آيف تكون
ومن يحياها ، وزاد قلبه خفقانا حينما تمثلت لخاطره هذه الحقيقة العجيبة وهى أنه مخلوق من سلالة هذا البيت ونطفة
من هذه الحياة، وأنه جاء ليلقاها وجها لوجه فى جلباب أزرق بسيط وطاقية باهتة، منتعلا أديم الأرض، ورقيا فى سلم
السلاملك، فمالا إلى جناح الشرفة الأيمن نحو باب صغير فتح على سلم فصعدا فى صمت لاينم عن حياة حتى بلغا ردهة
طويلة مضاءة بمصباح يتدلى من سقف مزرآش، واتجها نحو باب آبير مغلق يتوسط الردهة، وقال همام لنفسه فى تأثر
بالغ: فى موضع من هذه الردهة، لعله هذا الموقع عند رأس السلم، وقفت أمى منذ عشرين عاما لتراقب الطرية أية ذآرى
Page 27
اولاد حارتنا .txt
تعيسة! ونقر عم آريم على الباب الكبير مستأذنا للقادم، ثم دفعه برقة وتنحى لهمام جانبا وهو يشير له بالدخول، ودخل
الشاب فى أناة وأدب ورهبة، فلم يسمع صوت الباب وهو يغلق وراءه، ولم يشعر إلا شعورًا غامضا بالنور المضئ فى السقف
والأرآان، أما وعيه آله فقد انجذب نحو الصدارة حيث تربع الرجل على ديوان، لم يكن رأى جده من قبل، ولكنه لم يشك
فى هوية الجالس أمامه، فمن يكون هذا الهائل إن لم يكن جده الذى سمع عنه الأعاجيب؟ واقترب من مجلسه وهو يتلقى
من عينيه الكبيرتين نظرة استلت من ذاآرته جميع ما فيها، ولكنها بثت فى قلبه فى الوقت نفسه طمأنينة وسلامًا.
وانحنى حتى آادت تمس جبهته طرف الديوان، ومد يده، فأعطاه الآخر يده، فلثمها من الأعماق، وقال بشجاعة غير
متوقعة:
- مساء الخير يا جدى.
فجاءه الجواب من صوت جهورى لم يخل من أنغام رحمة:
- أهلا بك يا بنى ، اجلس .
واتجه الشاب نحو مقعد إلى يمين الديوان وجلس على حافته فقال الجبلاوى:
- خذ راحتك فى مجلسك .
فتزحزح همام إلى الداخل وقلبه يرتوى من المسرة، وتحرآت شفتاة بشكر مهموس ثم صاد الصمت، ولبث ينظر فى نقوش
السجادة تحت قدميه، وهو يشعر بموقع النظرة المسددة نحوه آما نشعر بموقع الشمس منا دون أن نراها، وإذا بذهنه
يتجه فجأة نحو الخلوة القائمة إلى يمينه ، فلحظ بابها بخوف وآآبة، وإذا بالرجل يسأله:
- ماذا تعرف عن هذا الباب ؟
فارتجفت أوصاله، وعجب آيف يرى آل شئ، وقال بخشوع:
- أعرف أنه فاتحة مأساتنا.
- وماذا ظننت بجدى لدى سماعك الحكاية ؟
وفتح فاه ليتكلم فبادره الرجل :
- أصدقنى القول .
فأثرت به اللهجة إلى حد أن قال فيما يشبه الصراحة.
- بدا لى تصرف والدى خطأ آبيرًا ، آما بدا لى عقابهما صارما شديدًا.
فابتسم الجبلاوى قائلا :
- هذا هو شعورك على وجه التقريب؟ إنى امقت الكذب والخداع، ولذلك طردت من بيتى آل من لوث نفسه.
فاغرورقت عينا همام. فقال الجد:
- بدا لى أنك شاب نظيف ، ولذلك استدعيتك.
فقال همام بصوت رطبته الدموع :
- شكرًا يا سيدى .
فقال الجد بهدوء :
- رأيت أن أعطيك فرصة لم تتح لأحد ممن فى الخارج، وهى أن تعيش فى هذا البيت، وأن تتزوج به، وأن تبدأ حياة جديدة
فيه.
فتتابعت دقات قلب همام فى نشوة من الأفراح ، ولبث ينتظر انغاما جديدة يستكمل بها هذا اللحن البديع آالسميع الذى
ينتظر الجواب بعد أن طرب للقرار ، ولكن الرجل لاذ بالصمت، وتردد همام قليلا ثم قال:
- الشكر لك .
- إنك تستحق.
واختلج نظر الشاب بين جده وبين السجادة، ثم تساءل فى اشفاق :
- وأسرتى ؟
فقال الجبلاوى فى عتاب :
- قلت ما أريد بوضوح .
فقال همام باستعطاف :
- إنهم يستحقون رحمتك وعطفك .
فتساءل الجبلاوى بشئ من البرود :
- ألم تسمع ما قلت ؟
- بلى ، ولكنهم أمى وأبى وأخوتى، إن أبى رجل...
- ألم تسمع ما قلت ؟
وشى الصوت بالضجر فغلب الصمت ، وإذا بالرجل يقول إيذانا بانتهاء الحديث :
- ارجع إليهم لتستأذن ، ثم عد .
وقام همام فلثم يد جده ومضى، وجد عم آريم ينتظر، فتحرك الرجل وتبعه الشاب فى شسكون، ولما انتهيا إلى
السلاملك، رأى همام فتاة فى منطقة الضوء بأول الحديقة، وقد سارعت إلى الاختفاء، غير أنه لمح منها العارض والعنق
وقامة ممشوقة، وعاد صوت الجد يتردد فى أذنيه وهو يقول: أن تعيش فى هذا البيت وأن تتزوج به. بفتاة آهذه الفتاة
وعيشة خبرها أبى ، آيف هانت عليه المقامرة. وآيف وبأى قلب تحمل الحياة بعد ذلك وراء عربة اليد؟ وهذه الفرصة
السعيدة آأنها حلم ، حلم أبى منذ عشرين عاما، ولكنى مثقل الرأس.
( 18 )
عاد همام إلى الكوخ فوجد أسرته جالسة تترقب عودته، وأحاطوا به مستطلعين وساله أدهم بلهفة:
Page 28
اولاد حارتنا .txt
- ماذا وراءك يابنى؟
ولاحظ همام أن قدرى معصوب العين فقرب رأسه من وجهه ليتحقق من الأمر فقال لأدهم بأسى:
- نشبت معرآة حامية بين أخيك وبين ذلك الرجل.
وأشار بيده نحو آوخ إدريس الذى بدا غارقا فى الظلمة والصمت على حين قال قدرى بغضب:
- آل ذلك بسب التهمة الخبيثة الكاذبة التى قذفت بها من داخل البيت.
واشار همام نحو آوخ إدريس وتساءل فى قلق :
- ماذا يحدث هنالك ؟
فقال أدهم بحزن :
- الرجل وزوجه يبحثان عن ابنتهما الهاربة.
فصاح قدرى :
- من المسئول عن ذلك إلا الرجل الفظ اللعين ؟
فتوسلت أميمة قائلة :
- اخفت من صوتك .
فصاح قدرى فى حنق :
- ماذا تخافين؟ لا شئ إلا الطمع فى عودة لن تتحقق صدقينى إنك لن تغادرى هذا الكوخ حتى الممات.
فاحتد أدهم قائلا :
- آفى هذيانا، أنت مجنون وحق خالق الكون، ألم تكن تريد أن تلحق بالفتاة الهاربة؟
- وسألحق بها .
- اسكت، لقد ضقت بحماقاتك .
وقالت أميمة بجزع :
- لن تطيب لنا الحياة بجوار غدريس بعد اليوم.
والتفت أدهم نحو همام وسأله :
- قلت ماذا وراءك؟
فقال همام بصوت لا أثر للسرور فيه :
- دعانى جدى إلى الإقامة فى البيت الكبير.
وترقب أدهم بقية للحديث فلما لم ينبس الشاب تساءل فى ياس :
- ونحن، ماذا قال عنا ؟
فهز همام رأسه فى حزن وهمس :
- لا شئ .
فحك قدرى ضحكة آلدغة عقرب وسأله فى سخرية:
- وماذا جاء بك ؟
نعم ماذا جاء بى ، لا شئ ، إلا أن السعادة لم تخلق لينعم بها أمثالى .
وقال بحزن :
- لم أقصر فى تذآيره بكم .
فقال قدرى بحنق :
- شكرًا ، ولكن ماذا جعله يؤثرك علينا ؟
- أنت تعلم ألا شأن لى فى ذلك .
وقال أدهم وهو يتنهد :
- لاشك أنك يا همام خيرنا جميعا !
فهتف قدرى بمرارة :
- وأنت يا أبى الذى لم تذآره إلا بخير لايستحقه .
فقال أدهم :
- أنت لا تفهم شيئا .
- هذا الرجل أسوأ من ابنه إدريس .
فتوسلت أميمة قائلة :
- أنت تقطع قلبى، وتغلق أبواب الأمل فى وجهك .
فصاح قدرى باستهانة :
- لا أمل إلا فى هذا الخلاء، أدرآوا هذا وأريحوا أنفسكم، إيأسوا من هذا البيت اللعين، أنا لا أخاف هذا الخلاء، حتى إدريس
نفسه لا أخافه، وبوسعى أن أآيل له من الضربات أضعاف ما يكيل لى، أبصقوا على هذا البيت وأريحوا أنفسكم.
وساءل أدهم نفسه : " أيمكن أن تمضى هذه الحياة على هذا النحو إلى الأبد؟ ولماذا ايقظت يا أبى طموحنا إليك قبل أن
ترتضى العفو لنا؟ وأى شئ يمكن أن يلين قلبك إذا آان ذلك الزمن الطويل لم يلنه؟ وما جدوى المل إذا آان ذلك العذاب آله
لم يزآنا لرحمة من نحب؟"، وقال الرجل بصوت آالغروب:
- خبرنى يا همام عما لديك .
فقال همام فى حياء :
- قال لى اذهب فأستأذن ثم عُد .
وشى الظلام بمحاولة فاشلة من أميمة لكتم انتحابها، وتساءل قدرى فى خبث:
Page 29
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
القديس

avatar


نقاط التميز
عدد المواضيع : 36
نقــــــــاط : 62
تاريخ التسجيل : 08/02/2010

رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا ) Empty
مُساهمةموضوع: رد: رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا )   رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا ) Icon_minitimeالخميس فبراير 11, 2010 7:44 pm

- وماذا يؤخرك ؟
فقال أدهم فى حزم :
- اذهب يا هماما مصحوبا بالسلامة والبرآات .
وقال قدرى بلهجة جدية آاذبة:
- اذهب يا شهم ولا تلق بالا إلى أحد .
فصاح أدهم :
- لا تهزأ بأخيك الطيب .
فقال قدرى ضاحكا :
- إنه شرنا جميعا .
فهتف همام بحدة :
- إذا قررت البقاء فلن يكون هذا إآراما لك أنت.
فقال أدهم بقوة :
- بل اذهب دون تردد.
وقالت اميمة خلال دموعها :
- نعم .. اذهب بالسلامة .
فقال همام :
- آلا يا أمى ، لن اذهب .
فتساءل أدهم :
- أجننت يا همام ؟
- آلا يا أبى .. الأمير يحتاج إلى تفكير ومشاورة .
- لا حاجة بك إلى ذلك .. ولا تحملنى ذنبا جديدا.
فقال همام بعزم وهو يشير نحو آوخ إدريس :
- يخيل إلى أن أحداثا ستقع.
فقال قدرى ساخرًا :
- إنك أضعف من ان تدفع شرًا عن نفسك فضلا عن الأخرين.
فقال همام بازدراء:
- خير ما أفعل ان اتجاهل ما تقول .
فعاد أدهم يقول برجاء :
- اذهب يا همام .
فاتجه همام نحو الكوخ وهو يقول :
- سأظل إلى جانبك .
( 19 )
لم يبق من الشمس إلا الشفق ، وانقطعت السابلة، وانفرد بالخلاء قدرى وهمام والغنام، مر النهار فلم يتبادلا طواله إلا ما
تقتضيه ضرورة الشرآة فى العمل، وغاب قدرى شطرًا آبيرًا من النهار فخمن همام أنه يتشمم أخبار هند، ولبث وحده فى
ظل الصخرة على آثب من الغنام، وفجأة وفى شئ من التحدى سأل قدرى همام:
- خبرنى عما أنتويت من ذهابك إلى جدك او عدو لك ؟
فقال همام بامتعاض :
- هذا شان يخصنى وحدى .
فاحتدم الغيظ فى قلب قدرى، ولاحت بوادره فى وجهه آطلائع الظلام فوق المقطم وتساءل:
- لماذا بقيت؟ ومتى تذهب؟ متى تجد الشجاعة لإعلان نيتك؟
- بل بقيت لأتحمل نصيبى من العناء الذى خلقته فضائحك.
فضحك قدرى ضحكة آاسرة وقال :
- هكذا تقول لتدارى حسدك!
هز همام رأسه آالمتعجب وقال:
- إنك تستحق الرثاء لا الحسد .
فاقترب قدرى منه وأطرافه ترتجف من الحنق وقال بصوت مخنوق بالغضب:
- ما أبغضك حين تتظاهر بالحكمة.
فحدجه همام بنظرة احتقار دون ان ينبس ، فعاد الآخر يقول:
- يجب أن تخجل اليحاة لانتساب أمثالك إليها.
فلم يغض همام من بصره تحت النظرات المتقدة التى تنصب عليه وقال بثبات:
- اعلم أننى لا أخافك.
- هل وعدك البلطجى الأآبر الحماية؟
إن الغضب يجعل منك شيئا حقيرًا تعانفه النفس.
وفجاة لطمه قدرى على وجهه، لم تدهمة اللطمة فردها بأشد منها وهو يقول :
- لا تتماد فى جنونك .
وانحنى قدرى بسرعة فالتقط حجرًا وقذف به اخاه بكل ما اوتى منقوة، وبادر همام ليتفادى من الحجر ولكنه أصاب جبينه،
Page 30
اولاد حارتنا .txt
ندت عنه أهة وجمد فى موقفه والغضب يشتعل فى عينيه، وإذا بالغضب يختفى منهما فجأة آانه شعلة ردمت بتراب آثيف،
وإذا بفراغ قاتم يحل فيهما فبدت العينان وآانهما تنظران إلى الداخل ، وترنح ثم أنكفأ على وجهه وتبدل قدرى حالا بعد
حال، فزايله الغضب وترآه حديدًا باردًا بعد انصهار، ورآبه الخوب، ترقبه بلهفة أن ينهض النمكفئ أو أن يتحرك ولكنه لم يرحم
لهفته، وانحنى فوقه، ومد إليه يده يهزه فى رفق ولكنه لم يستجب وسواه على ظهره ليخلص انفه وفاه من الرمال
فاستلقى الآخر محملق العينين ولا حراك به، ورآع قدرى إلى جانبه، وراح يهزه ، ويدلك صدره ويديه، وينظر بفزع إلى الدم
المتدفق بغزارة من جرحه وناداه برجاء فلم يجب. وبدا صمته آثيفا عميقا آأنه جزء لا يتجزأ من آيانه آجموده الذى بدا غريبا
عن الحى والجماد معاً، لا إحساس ولا انفعال ولا اهتمام بشئ، آأنما ألقى إلى الأرض من مكان مهول فلم يمت إليها
بسب، عرف قدرى الموت بفطرته فراح يشد شعر رأسه فى يأس، ونظر فيما حوله خائفا، ولكن لم يكن هناك من حى إلا
الأغنام والحشرات وجميعا انصرفت عنه دون اآتراث سينتشر الليل ويستحكم الظلام وقام بعزم، فجاء بعصاه واتجه إلى
موضع بين الصخرة الكبيرة وبين الجبل، وراح يحفر الأرض ويرفع التراب بيديه، ويواصل العمل بعناد وهو يتصبب عرقا، وترتجف
منه الأوصال، وهرع نحو أخيه هزه وناداه للمرة الخيرة دون أن يتوقع جوابا، وقبض على أسفل ساقيه وجره حتى أودعه
الحفرة، وألقى نظرة وهو يتنهد، وتردد مليا، ثم أهال عليه التراب، ووقف يجفف عرق وجهه بكم جلبابه، وآلما رأى بقعة دم
فى الرمال غطاها بالتراب وارتمى على الأرض من شدة الإعياء، وشعر بقوته تتخلى عنه، وبرغبة فى البكاء، ولكن الدموع
استعصت عليه، وقال غلبنى الموت لم يدعه ولم يقصده ولكنه يجئ آما يحلو له، ولو أنه انقلب تيسا لغاب فى الأغنام، أو
ذرة من رمال لاختفى فى الأرض. مادمت لا أستطيع أن أرد الحياة فلا يجوز أن أدعى القوة أبدًا، وهيهات أن تمحى تلك
النظرة من رأسى ابدًا، إن الذى دفنته لم يكن من الأحياء ولا من الجمادن ولكنه من صنع يدى.
( 20 )
عاد قدرى إلى الدار يسوق الأغنام، ولم تكن غربة أدهم بموقفهما وجاء صوت أمه من الداخل وهى تتساءل:
- لماذا تأخرتما عن موعدآما ؟
فدفع الأغنام إلى الممشى المفضى إلى حظيرتها وهو يقول :
- غلبنى النوم، ألم يحضر همام ؟
رفعت اميمة صوتها ليعلو على أصوات الطفلين قائلة :
- آلا ، ألم يكن معك ؟
فازدرد ريقا جافا وقال :
- غادرنى منذ الظهر دون أن يخبرنى أين هو ذاهب ، فظننته رجع إلى هنا.
فتساءل أدهم وآان قد وصل ومضى يُدخل العربة إلى الفناء.
- هل تشاجرتما؟
- أبدًا .
- أظنك آنت السبب فى ذهابه، ولكن أين هو ؟
خرجت أميمة إلى الفناء، على حين أغلق قدرى باب الحظيرة وراح يغسل وجهه ويديه من ماء طشت تحت الزير لابد من
مواجهة الموقف .. الدنيا تغيرت ولكن اليأس قوة، وانظم إلى والديه فى الظلام وهو يجفف وجهه بطرف جلبابه ، وتساءلت
أميمة:
- أين ذهب همام؟ لم يغب آهذه المرة من قبل؟
فوافقها أدهم قائلا :
- بلى خبرنا آيف ولماذا ذهب ؟
وارتعد قلب قدرى لصورة خطرت برأسه لكنه قال :
- آنت جالسا فى ظل الصخرة فلاحت متى التفاتة فرأيته يبتعد صوب حينا، وهممت أن أناديه ولكنى لم أفعل .
فقالت أميمة فى حسرة:
- ليتك ناديته ولم تستسلم لزعلك.
ونظر أدهم حائرًا فى الظام حوله، فرأى ضوءًا خافتا خلال آوة فى آوخ إدريس دلت على أن الحياة دبت فيه من جديد،
ولكنه لم يأبه لذلك، وثبت بصره على البيت الكبير وتساءل:
- اتراه ذهب إلى جده؟
فقالت أميمة بغنكار :
- لا يفعل ذلك دون إخبارنا .
فقال قدرى بصوت شاحب :
- لعل الحياة منعه !
فسدد أدهم نحوه نظرة ارتياب منقبض الصدر لخلو صوته من السخرة والعدوان وقال :
- دفعناه إلى الذهاب فأبى .
فقال قدرى فى إعياء :
- تحرج من القبول أمامنا .
- ليس هذا من خلقه، وأنت مالك آالمريض؟
فقال قدرى بحدة :
- حملت عبء العمل وحدى .
فهتف أدهم فى ضيق المستغيث :
Page 31
اولاد حارتنا .txt
- الحق أقول أن قلبى غير مطمئن.
فقالت أمية بصوت مبحوح:
- سأذهب إلى البيت الكبير لأسأل عنه.
فهز أدهم منكبيه فى يأس وقال:
- لن يرد عليك أحد، ولكنى أؤآد لك انه لم يذهب.
فنفخت أمية فى آرب وقالت:
- رباه ، لم يضطرب هكذا قلبى من قبل، افعل شيئا يا رجل، فتنهد أدهم بصوت مسموع فى الظام وقال: فلنفتش عنه فى
آل ناحية.
فقال قدرى :
- لعله فى الطريق إلينا .
فهتفت امية:
- لا ينبغى أن ننتظر .
ثم مستدرآة فى جزع وهى تنظر صوب آوخ إدريس :
- ايكون إدريس قد صادفه فى طريقه ؟
فقال أدهم بامتعاض :
- غريم إدريس قدرى لا همام .
- إنه لا يتردد فى القضاء على أى منا، إنى ذاهبة إليه!
فحال أدهم بنيها وبين الذهاب وهو يقول :
- لا تزيدى أمورنا تعقيدًا، أعدك إذا لم نعثر عليه أن اذهب إلى إدريس وأن اذهب إلى البيت الكبير.
وحدج شبح قدرى بنظرة قلبة، ما باله واجمًا ؟ أليس عنده أآثر مما قال؟ وأين أنت يا همام؟
اندفعت أميمة لتغادر الفناء، فمال أدهم نحوها وأمسك بمنكبها وإذا بباب البيت الكبير يفتح، فتطلعوا نحوه، وبعد قليل لا ح
شبح عم آريم وهويقترب منهم فخرج إليه أدهم وهو يقول: "أهلا بك عم آريم، فحياه الرجال وقال:
- سيدى الكبير يسأل عما أخر همام؟
فقالت أميمة بيأس :
- لا ندرى أين هو حتى ظنناه عندآم .
- سيدى يسأل عما أخره ..
فهتفت أميمة :
- اعوذ بالله من أوهام قلبى.
وذهب عم آريم وأخذت اميمة تحرك رأسها فى اضطراب ينذر بالانفجار، فساقها أدهم أمامه إلى حجرتها الداخلية حيث علا
بكاء الصغيرين، وصاح بوحشية.
- لا تغادرى الحجرة ، سأعود به، ولكن إياك أن تغادرى الحجرة، وعاد إلى الفناء فعثر على قدرى جالسا على الأرض فانحنى
فوقه هامسا :
- خبرنى ماذا تعرف عن أخيك؟
فرفع رأسه نحوه بشدة ولكن شيئا منعه من الكلام فعاد الرجل يسأله:
- خبرنى يا قدرى ماذا فعلت بأخيك ؟
فقال الشاب بصوت لا يكاد يسمع :
- لا شئ .
وارتد الرجل نحو الداخل ثم رجع بمصباح فأشعله ووضعه على عربته فسقط نوره على وجه قدرى فتفحصه الرجل برهة
وقال:
- وجهك ينذر بالشقاء.
وجاء صوت أميمة من الداخل مختلطا بأصوات الطفلين ليقول آلامًا لم يميزه أحد فصاح أدهم:
- اسكتى ياولية، موتى إن شئت ولكن فى صمت!
وعاد إلى تفحص ابنه، وبغتة ارتعدت أطرافه، وأمسك بطرف آمه وقال فى فزع:
- دم ما هذا ؟ دم أخيك ؟
فحملق قدرى فى آم جلبابه ثم انكمش بحرآة لا إرادية، وحنى رأسه فى يأس، اعترف قدرى بحرآته اليائسة، فجذبه
أدهم حتى أقامه، ثم دفعه إلى الخارج دفعة بقسوة لم يعهدها من قبل، وغشى عينيه ظام فوق الظلام المحيط .
(21 )
دفعه نحو الخلاء قائلا :
- سنميل نحو خلاء الدراسة آيلا نمر أمام آوخ إدريس .
وأوغلا فى الظلام، وقدرى يسير آالمترنح تحت قبضة أبيه الناشبة فى منكبهن وتساءل أدهم وهو يجد فى السير بصوت
أدرآه الهرم.
- خبرنى هل ضربته؟ بأى شئ ضربته؟ وعلى أى حال ترآته؟ لم يجب قدرى، آانت قبضة ابيه شديدة ولكنه لم يكن يشعر
بها، وآان ألمه شديدا ولكنه لم يفصح عنه، وود أن الشمس لا تطلع أبدًا.
- ارحمنى وتكلم، ولكنك لم تعرف الرحمة، وقد قضيت على نفسى بالعذاب يوم انجبتك، أنا الذى تطاردنى اللعنات منذ
عشرين عاما وها أنا أطلب الرحمة ممن لا يعرفها.
فانفجر قدرى باآيا حتى ارتجف منكبه فى قبضة أدهم القاسية، وظل يرتجف حتى سرت عدواه إلى أدهم، لكنه قال:
Page 32
اولاد حارتنا .txt
- أهذا جوابك؟ لماذا يا قدرى لماذا؟ آيف هان عليك؟ اعترف فى الظلام قبل أن ترى نفسك فى ضوء النهار.
فهتف قدرى :
- لا طلع النهار !
- نحن أسرة الظلام، لن يطلع علينا نهارا.. وآنت أحسب الشر مقيما فى آوخ إدريس، فإذا به فى دمنا نحن، إن إدريس
يقهقه ويسكر ويعربد، أما نحن فيقتل بعضنا البعض، رباه.. هل قتلت أخاك؟
- أبدًا !
- فأين هو ؟
- ما قصدت قتله !
فصاح أدهم :
- لكنه قتل!
واجهش قدرى فى البكاء واشتدت قبضة أبيه، إذن قتل همام، زهرة العمل وحبيب الجد، آأنه لم يكن، لولا الألم المفترس ما
صدقت وبلغا الصخرة الكبيرة فساله أدهم بصوت غليظ :
- أين ترآته يا مجرم ؟
فسار قدرى نحو الموضع الذى حفره لأخيه ووقف عنده فيما بين الصخرة والجبل وتساءل أدهم:
- أين أخوك ؟ لا أرى شيئا.
فقال قدرى بصوت لا يكاد يسمع :
- هنا دفنته .
فصرخ أدهم :
- دفنته !
واخرج من جيبه علبة ثقاب وأشعل عوا تفحص الموضع على ضوئه حتى رأى قطعة من الأرض قلقة المستوى آما رأى
مسحب الجثة الذى انتهى عندها، تأوه أدهم من الألم، وراح يزيح التراب بيدين مرتعشتين.
وواصل عمله فى جو رهيب حتى مست أصابه رأس همام ، وغرز يديه إلى ما تحت ابطيه وسحب الجثة فى رفق، وجثا
على رآبتيه إلى جانبها واضعا يديه على رأسه، مغمض العينين، مثالا للتعاسة والخيبة، وزفر من أعماقه ، ثم غمغم :
- إن حياة أربعين عاما من العمر تبدو سخفا سقيما أمام جثتك يا بنى.
وقام بغتة، ونظر نحو قدرى وهو يقف أمام الجثة من الناحية الأخرى، فعانى لحظات آراهية عمياء، وقال بصوت غليظ:
- سيعود همام إلى الكوخ محمولا على عنقك.
فجفل قدرى متراجعا، ولكن الرجل سارع إليه دائرا حول الجثة ثم قبض على منكبه وهتف:
- احمل أخاك .
فقال قدرى بصوت آالأنين :
- لا استطيع .
- إنك استطعت قتله .
- لا استطيع يا أبى .
- لا تقل أبى ، قاتل أخيه لا أب له، لا ام له ، لا أخ له .
- لا استطيع .
فشد قبضته عليه وقال :
- على القاتل أن يحمل ضحيته.
حاول قدرى أن يفلت من قبضة أدهم ولكن أدهم لم يمكنه ، وانهال فى عصبية على وجهه باللكمات فلم يتفاد من لكمه أو
يتأوه من ألم وآف الرجل، ثم قال :
- لا تضيع الوقت، أمك تنتظر .
وارتعد قدرى لدى ذآر أمه ، فقال برجاء:
- دعنى اختفى .
فجذبه نحو الجثة وهو يقول :
- هلم نحمله معا .
تحول أدهم إلى الجثة ووضع يديه تحت ابطى همام، وانحنى قدرى واضعا يديه تحت الساقين، رفعا الجثة معا، وسارا فى
بطء نحو خلاء الدراسة، اوغل أدهم فى مشاعره الأليمة حتى فقد اى شعور بالألم أو بسواه، ولبث قدرى يعانى الما من
خفقان قلبه وارتجاف أطرافه، وامتلأ أنفه برائحة ترابية نفاذة على حين سرى مس الجثة من يديه إلى أعماقه، وآان الظلام
غليظا بينا نضح الأفق بأنوار الأحياء الساهرة، وشعر قدرى باليأس يكتم أخر أنفاسه فتوقف قائلا لأبيه :
- سأحمل الجثة وحدى .
ووضع ذراعا تحت الظهر وأخرى تحت الفخذين وسار يتبعه أدهم .
( 22 )
وعندما اقتربا من الكوخ جاءهما صوت أميمة متسائلا فى جزع.
- هل وجدتماه ؟
فصاح أدهم بصوت أمر .
- اسبقينى إلى الداخل.
وسبق قدرى إلى الكوخ ليتاآد من اختفائها، ووقف قدرى عند مدخل الكوخ لايريد أن يتحرك، وأشار له أبوه بالدخول فامتنع
Page 33
اولاد حارتنا .txt
قائلا فى صوت هامس :
- لا استطيع أن القاها.
فهمس الأب حانقا:
- استطعت ما هو افظع .
فتشبث قدرى بموقفه وهو يقول:
- آلا ، هذا افظع .
ودفعه أدهم امامه بحزم فاضطر إلى التحرك حتى بلغ الحجرة الخارجية.
وانقض أدهم على أميمة بسرعة فكتم براحته الصرخة التى أوشكت على الإفلات من فيها، وقال بقسوة:
- لاتصرخى يا ولية، لاينبغى أن نلفت الأسماع حتى نتدبر الأمر ، فلنقاس المقدور صامتين، ولنتحمل الألم صابرين، الشر
من بطنك ومن صلبى خرج، واللعنة حقت علينا جميعا.
وسد فاها بقوة، وحاولت التخلص من يده عبثا، ارادت أن تعضها فلم تتمكن، اضطربت أنفاسها وخارت قواها فسقطت
مغشيا عليها.
ولبث قدرى واقفا يحمل الجثة فى صمت وخزى مرآزا بصره على المصباح ليتجنب النظر إليها، واتجه أدهم نحوه فساعده
على وضع الجثة على الفراش، ثم ساجها برفق، ونظر قدرى إلى جثة اخية المسجاة على الفراش الذى اقتسماه طوال
العمر فشعر بأنه لم يعد له مكان فى الدار، وحرآت اميمة راسهان ثم فتحت عينيها فبادر أدهم إليها وهو يقول بحزم:
-إياك أن تصرخى.
وارادت أن تنهض فساعدها على النهوض وهو يحذرها من إحداث صوت، وهمت بالارتماء على الفراش فحال الرجل دون
ذلك، فوقفت مغلوبة على أمرها، واندفعت تنفس عن آربها بشد شعرها بقسوة فانتزعت منه خصلات بعد خصلات، ولم
يبال الرجل بما تفعل، وقال بغلظة:
- افعلى ما يريحك ولكن فى صمت.
فقالت بصوت مبحوح :
- ابنى! .. ابنى .
فقال أدهم فى ذهول :
- هذه جثته، لم يعد ابنك ولا ابنى، وهذا هو قاتله، اقتليه إن شئت ولطمت أميمة خديها وقالت لقدرى بوحشية:
- إن أحط الوحوش تتبرأ من فعلتك .
فحنى قدرى رأسه فى صمت على حين قال أدهم بوحشية:
- هل تذهب هذه الروح هدرًا؟ لا ينبغى أن نحيا ، هذه هى العدالة.
فهتفت أميمة:
-آان أمس أملاً مشرقًا، قلنا له أذهب فأبى، ليته ذهب، لو لم يكن آريمًا نبيلاً رحيمًا لذهب، أيكون جزاء هذا القتل؟ آيف
هان عليك يا صخرى القلب لست ابنى ولست أمك .
لم ينبس قدرى لكنه قال لنفسه : "قتلته مرة وهى يقتلنى مرة آل ثانية، لست حيًا ، من قال إنى حى؟ وسأله أدهم
بفظاظة:
- ماذا أفعل بك ؟
فقال قدرى بهدوء :
- قلت إنه لا ينبغى أن أحيا .
فهتفت أميمة:
- آيف سولت لك نفسك قتله؟
فقال قدرى فى يأس :
- لا جدوى من النواح، إنى مستعد للعقاب، والقتل أهون مما أعانى.
فقال أدهم بحنق :
- لكنك جعلت حياتنا أيضا أفظع من الموت.
وهبت أميمة هاتفة وهى تلطم خديها :
- لن أحب هذه الحياة أدفنونى مع ابنى، لماذا لا تدعنى أصوت؟
فقال أدهم بمرارة وسخرية:
- ليس شفقة على حنجرتك ولكنى اخشى ان يسمعنا الشيطان.
فقال قدرى باستهانة:
- فليسمع آيف شاء، لم أعد أآترث للحياة.
وإذا بصوت غدريس يعلو قريبا من مدخل الكوخ :
- أخى أدهم ! تعال يا مسكين !
فسرت الرعدة فيهم جميعا، غير أن أدهم صاح به :
- عد إلى آوخك، واحذر أن تستفزنى .
فقال إدريس بصوت قوى :
- شر أهون من شر ، مصبيتكم نجتكم من غضبى، ولكن لندع هذا الحديث، آلانا مصب، أنت فقدت العزيز الغالى، وأنا
ضاعت ابنتى الوحيدة، آان الأبناء عزاءنا فى منفانا ولكنهم ذهبوا، تعال يا مسكين نتبادل العزاء .
إذن ذاع السرع ! آيف ذاع؟ ولأول مرة يخاف قلب أميمة على قدرى.
وقال أدهم :
Page 34
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
القديس

avatar


نقاط التميز
عدد المواضيع : 36
نقــــــــاط : 62
تاريخ التسجيل : 08/02/2010

رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا ) Empty
مُساهمةموضوع: رد: رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا )   رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا ) Icon_minitimeالخميس فبراير 11, 2010 7:45 pm

- لا تهمنى شماتتك، من يذق ألمى تهن عليه الشماتة.
فجاء صوت إدريس مستنكرا :
- شماتة ! ألا تدرى إننى بكيت عندما رأيتك تسحب الجثة من الحفرة التى حفرها قدرى؟
فصاح أدهم بغضب :
- تجسس حقير .
- لم أبك على القتيل وحده ولكن على القاتل أيضا، وقلت لنفسى يا لك من مسكين يا أدهم، فقدت شابين فى ليلة
واحدة.
وصوتت أميمة دون اآتراث لأحد، واندفع قدرى خارج الكوخ بغتة وجرى أدهم وراءه وصرخت أميمة.
- لا أريد أن أفقد الاثنين !
أراد قدرى أن يثب على إدريس ولكن أدهم دفعه بعيدا عنه ثم وقف أمام الرجل متحديا وهو يقول :
- احذر أن تتعرض لنا !
فقال إدريس بهدوء :
- أنت أحمق يا أدهم ، لا تفرق بين الصديق وبين العدو، تريد أن تعارك أخاك دفاعا عن قاتل أبنك.
- أذهب عنى .
فقال إدريس ضاحكا :
- آما تشاء ، تقبل عزائى والسلام عليكم .
غاب إدريس فى الظلام، وتحول أدهم نحو قدرى فوجد أميمة واقفة تتساءل عنه، فجزع الرجل وراح ينظر فى الظلام ويصيح
بأعلى صوته.
- قدرى .. قدرى .. أين أنت ؟
وجاء صوت إدريس وهو يصيح بقوة :
- قدرى .. قدرى .. أين أنت .
( 23 )
دُفن همام فى مقبرة تابعة للوقف بباب النصر، سار فى جنازته قوم آثيرون من معارف أدهم، أآثرهم باعة من زملائه،
وأقلهم زبائن ممن أسرتهم رقة أخلاقة وحسن معاملته، وفرض إدريس نفسه على الجنازة فاشترك فى تشييعها، بل وقف
يتقبل العزاء بصفته عم الفقيد، وسكت أدهم آارها فسار فى الجنازة آثيرون من الفتوات والبلطحية والبرمجية واللصوص
وقطاع الطرق، وعند الدفن وقف إدريس فوق القبر يشجع أدهم بكلمات العزاء والآخر صابر متصبر لا يجيب ودموعه تستبق
على خديه، وروحت أميمة عن آربها باللطم والصوات والتمرغ فى التراب، وعندما تفرق المشيعون، التفت أدهم إلى إدريس
وقال بحنق :
- ألا يوجد حد لقسوتك ؟
فتظاهر إدريس بالدهشة وتساءل:
- عم تتحدث يا أخى المسكين؟
قال أدهم بحدة :
- لم أتصورك على هذا القدر من القسوة رغم سوء ظنى بك، الموت نهاية آل حى، فما وجه الشماتة فيه؟
فقال إدريس وهو يضرب آفًا على آف :
- الحزن أخرجك عن أدبك، لكنى مسامحك.
- متى تقر بأنه لم تعد تربطنا صلة؟
- لترحمنا السماء، ألست أخى ؟ هذه رابطة ليس فى الإمكان فصمها.
- إدريس آفاك ما فعلت بى .
- الحزن قبيح، ولكن آلانا مصاب، أنت فقدت همام وقدرى وأنا فقدت هند، أصبح للجبلاوى العظيم حفيدة عاهرة وحفيد
قاتل، وعلى أى حال فأنت خير حالاً منى إذ لك ذرية تعوضك عما فات .
فتساءل أدهم فى حسرة :
- أما زلت تحسدنى .
فقال إدريس متعجبا :
- إدريس يحسد أدهم !
فعلا صوت أدهم وهو يهدر :
- إذا لم يكن جزاؤك من جنس عملك فعلى الدنيا العفاء.
- العفاء .. العفاء .
- ومرت أيام آئيبة بالأشجان، وقهر الحزن أميمة فساءت صحتها واعتصرها الضمور، وفى أعوام قلائل بلغ أدهم من الهرم ما
لا يبلغ فى عمر مديد، وبات الزوجان يعانيان الهزال والمرض، ويما اشتدت عليهما وطأة المرض فرآنا إلى الرقاد، أميمة مع
طفيلها فى الغرفة الداخلية، وأدهم فى الغرفة الخارجية ، غرفة قدرى وهمم، ومضى النهار وجاء الليل فلم يشعلا مصباحا،
وقنع أدهم بضوء القمر المنبعث من الفناء، وراح يغفو قليلا ويستيقظ قليلا فى حال بين الوعى والذهول.
وجاء صوت إدريس من خارج الكوخ وهو يساله متهكما :
- ألست فى حاجة إلى خدمة؟
فانقبض صدره ولم يجبه، وآان يكره الساعة التى يغادر فيها الآخر آوخه ليذهب إلى سهرته الليلية ، وجاءه الصوت مرة
أخرى وهو يقول :
- اشهدوا يا ناس على لرى وعقوقه .
Page 35
اولاد حارتنا .txt
وذهب وهو يغنى :
آنا تلاتة طلعنا الجبل نصطاد .
واحد قتله الهوى والثانى خدوه الأحباب .
امتلأت عينا أدهم بالدموع . هذا الشر الذى لا يصد عن اللهو، يقاتل ويقتل ويحظى بكل احترام، يقسو ويستبد هازئا
بالعواقب وله ضحكة تجلجل فتملأ الآفاق، له لذة فى العبث بالضعفاء ويسمر فى المآتم ويغنى فوق شواهد القبور، الموت
يدنو منى وهو مازال يضحك ساخرا، القتيل فى التراب والقاتل ضائع وفى آوخى بكاء على الاثنين، ضحكة الطفولة فى
الحديقة استحالت مع الأيام عبوسة غارقة فى الدمع، وفى الداخل بقية جسدى يتوجع. لماذا هذا العناء آله وأين صفو
الأحلام أين؟
وخيل إلى أدهم أنه يسمع وقع أقدام.. أقدام بطيئة وثقيلة استثارت ذآريات غامضة آرائحة زآية مؤثرة تستعصى على
الإدراك والتحديد حول وجهه نحو مدخل الكوخ فرأى الباب يفتح، ثم رأه يمتلئ بشئ آجسم هائل، عملق فى دهش ،
واحد بصره فى أمل يكتنفه يأس، وندت عنه أهه عميقة، وغمغم متسائلا:
- أبى !
وخيل إليه أنه يسمع الصوت القديم وهو يقول :
- مساء الخير يا أدهم .
فاغرورقت عيناه ، وهم بالقيام فلم يستطع ووجد غبطة وبهجة لم يجدهما منذ أآثر من عشرين عاما، وقال بصوت متهدج:
- دعنى أصدق .
فقال :
- أنت تبكى وأنت الذى أخطأت .
فقال أدهم بصوت يشرق بالدمع :
- الخطأ آثير والعقاب آثير ولكن حتى الحشرات المؤذية لا تيأس من العثور على ظل .
- هكذا تعلمنى الحكمة!
- عفوًا .. عفوًا ، الحزن أرهقنى، والمرض رآبنى، حتى أغنامى مهددة بالهلاك.
- جميل أن تخاف على أغنامك.
تساءل أدهم فى رجاء :
- هل عفوت عنى؟
أجاب بعد صمت :
- نعم .
فهتف أدهم بجسم مرتعش :
- الشكر لله، منذ قليل آنت اقرع قاع هاية اليأس بيدى.
- فعثرت على فيها !
- نعم آالصحو بعد الكابوس .
- لذلك فأنت ولد طيب ..
فتأوه أدهم قائلا :
- أنجبت قاتلاً وقتيلا .
- الميت لايعود فماذا تطلب ؟
فتنهد أدهم قليلا :
- آنت أهفو للغناء فى الحديقة ولكن لن يطيب لى اليوم شئ.
فقال :
- سيكون الوقف لذريتك .\
- الشكر لله .
فقال :
- لا تجهد نفسك وأرآن إلى النوم .
جبل
( 24 )
أقيمت بيوت الوقف فى خطين متقابلين يصنعان حارتنا ويبدأ الخطان من خط يقع أمام البيت الكبير، ويمتدان طولا فى اتجاه
الجمالية، أما البيت الكبير، فقد ترك خاليا من جميع الجهات على رأس الحارة من ناحية الصحراء. وحارتنا حارة الجبلاوى
أطول حارة فى المنطقة، أآثر بيوتها ربوع آما فى حى آل حمدان، وتكثر الأآواخ من منتصفها حتى الجمالية، ولن تتم
الصورة إلا بذآر بيت ناظر الوقف على رأس الصف الأيمن من المساآن، وبيت الفتوة على رأس الصف الأيسر قبالته.
آان البيت الكبير قد أغلق أبوابه على صاحبه وخدمه المقربين، ومات أبناء الجبلاوى مبكرين فلم يبق من سلالة الذين أقاموا
وماتوا فى البيت الكبير إلا الأفندى ناظر الوقف فى ذلك الوقت، أما أهل الحارة عامة فمنهم البائع الجوال، ومنهم صاحب
الدآان أو القهوة، وآثيرون يتسولون، وثمة تجارة مشترآة يعمل فيها آل قادر هى تجارة المخدرات وبخاصة الحشيش
والأفيون والمدافع، وآان طابع حارتنا -آحالها اليوم- الزحام والضجيج، الأطفال الحفاة أشباه العرايا يلعبون فى آل رآن،
ويملأون الجو بصراخهم والأرض بقاذورتهم، وتكتظ مداخل البيوت بالنساء، هذه تخرط الملوخية ، وتلك تقشر البصل، وثالثة
توقد النار، يتبادلن الأحاديث والنكات، وعند الضرورة الشتائم والسباب والغناء والبكاء لاينقطعان، ودقة الزار تستأثر باهتمام
Page 36
اولاد حارتنا .txt
خاص، وعربات اليد فى نشاط متواصل، ومعارك باللسان أو الأيدى تشب هنا وهناك، وقطط تموء وآلاب تهر وربما تشاجر
النوعان حول أآوام الزبالة والفئران تنطلق فى الأفنية وعلى الجدران، وليس بالنادر أن يتجمع قوم لقتل ثعبان أو عقرب، أما
الذباب فلا يضاهيه فى الكثرة إلا القمل فهو يشارك الأآلين فى الأطباق والشاربين فى الأآواز، يلهو فى الأعين ويغنى فى
الأفواه آأنه صديق الجميع .
وما أن يجد شاب فى نفسه جرأة أو فى عضلاته قوة حتى يندفع إلى التحرش بالأمنين، والاعتداء على المسالمين فيفرض
نفسه فتوة على حى من أحياء الحارة، يأخذ الأتاوات من العاملين ويعيش ولا عمل له إلا الفتونة، هكذا وجد فتوات الأحياء
مثل قدره والليثى وأبو سريع وبرآات وحمودة، وآان زقلط أحد هؤلاء الفتوات، فخاض معارك آثيرة مع فتوة بعد فتوة حتى
هزم الجميع وصار فتوة الحارة آلها، وفرض الأتاوات على الفتوات جميعا، ورأى الأفندى ناظر الوقف أنه بحاجة إلى مثل هذا
الرجل لينفذ أوامره أو يدفع عنه ما قد يهدده من شر فقربه ورتب له راتبا عظيما من ريع الوقف، فأقام زقلط فى بتيه المقابل
لبيت الناظر واستحكم سلطانه، وعند ذاك ندر وقوع المعارك بين الفتوات، إذ أن الفتوة الأآبر لايرتاح إلى هذا النوع من
المعارك الذى قد ينتهى بتكبير فتوة وبالتالى بتهديد مرآزه هو لذلك لم يجد الفتوات متنفسا لقوة شرهم الحبيسة إلا فى
الأهالى المساآين آيف انتهى الأمر بحارتنا إلى هذا الحال؟
لقد وعد الجبلاوى أدهم بأن يكون الوقف لخير ذريته، وشيدت الربوع ووزعت الخيرات وحظى الناس بفترة من العمر السعيد،
ولما أغلق الأب بابه واعتزل الدنيا احتذى الناظر مثاله الطيب حينا، ثم لعب الطمع بقلبه فنزع إلى الاستئثار بالريع، بدأ
بالمغالطة فى الحساب والتقتير فى الأرزاق ثم قبض يده قبضا مطمئنا إلى حماية فتوة الحارة الذى اشتراه، ولم يجد الناس
بدًا من ممارسة أحقر الأعمال، وتكاثف عددهم فزاد فقرهم وغرقوا فى البؤس والقذارة وعمد الأقوياء إلى الإرهاب والضعفاء
إلى التسول، والجميع إلى المخدرات، آان الواحد يكد ويكدح نظير لقمات يشارآه فيها فتوة، لا بالشكر، ولكن بالصفع
والسب واللعن، الفتوة وحده يعيش فى بحبوحة ورفاهية، وفوق هذا الفتوة الأآبر، والناظر فوق الجميع ، أما الأهالى فتحت
الأقدام، وإذا عجز مسكين عن أداء الأتاوة انتقم منه فتوة حيه شر الانتقام، وإذا شكا أمره إلى الفتوة الأآبر ضربه الفتوة
الأآبر وأسلمة إلى فتوة حيه لعيد تأديبه، فإذا سولت له نفسه أن يشكو إلى الناظر ضربه الناضر والفتوة الأآبر وفتوات
الأحياء جميعا ، وهذه الحال الكئيبة شهدتها بنفسى فى أيامنا الأخيرة، صورة صادقة مما يروى الرواة عن الأزمان الماضية،
أما شعراء المقاهى المنتشرة فى حارتنا فلا يروون إلا عهود البطولات متجنبين الجهر بما يحرج مراآز السادة ويتغنون بمزايا
الناظر والفتوات، بعدل لا نحظى به ورحمة لا نجدها وشهامة لا نلقاها وزهد ولا نراه ونزاهة لا نسمع عنها، وأنى لاأتساءل
عما أبقى أيامنا - أو عما يبقينا نحن- بهذه الحارة اللعينة؟ الجواب يسير لن نلقى فى الحوارى الأخريات إلا حياة أسوأ من
الحياة التى نكابدها هنا، هذا إذا لم يهلكنا فتواتها انتقاما مما لا قوا على أيدى فتواتنا، والأدهى الأمر أننا محسدون! يقول
أهالى الحوارى حولنا يا لها من حارة سعيدة! تحظة بوقف لا مثيل له، وفتوات تقشعر عند ذآرهم الأبدان، ونحن لا ننال من
الوقف إلا الحسرات ومن قوة فتواتنا إلا الإهانات والأذى على ذلك آله فنحن بقفون، وعلى الهم صابرون، ننتطلع إلى
مستقبل لا ندرى متى يجئ ونشير إلى البيت الكبير ونقول هنا أبونا العتيد، ونومئ إلى الفتوات ونقول هؤلاء رجالنا، ولله
الأمر من قبل ومن بعد .
( 25 )
ونفد صبر آل حمدان فاصطخبت فى حيهم أمواج التمرد . آان آل حمدان يقيمون فى قمة الحارة فيما يلى بيتى الأفندى
وزقلط حول البقعة التى بنى أدهم فيها آوخه، وآان رئيسهم حمدان صاحب قهوة، قهوة حمدان، أجمل قهوة فى الحارة
آلها، التى تتوسط حى حمدان بين الربوع جلس المعلم حمدان فى الجهة اليمنى من مدخل القهوة فى عباءة رمادية،
وعلى الرأس لاسة مزرآشة، يتابع عبدون صبى القهوة فى نشاطه المتواصل ويتبادل مع بعض الزبائن الأحاديث ، وآانت
القهوة ضيقة العرض ولكنها تمتد طولا حتى أريكة الشاعر فى الصدر تحت صورة خيالية ملونة لأدهم فى رقاده الأخير وهو
يتطلع إلى الجبلاوى الواقف بباب الكوخ، أشار حمدان إلى الشاعر فتناول الرابة واستعد لالنشاد، وبين أنغام الأوتار بدأ بتحية
الناظر حبيب الجبلاوى، وزقلط زين الرجال، ثم روى فترة من حياة الجبلاوى قبيل مولد أدهم، وندت عن احتساء القهوة
والقرفة والشاى أصوات وأنعقد الدخان المتصاعد من الجوز حول الفانوس سحابا شفافة وترآزت الأعين فى الشاعر، واهزت
الرؤوس لجمال ذآرى أوحش موعضة، ومضى وقت الخيال فى شغف وانسجام حتى وافاه الختام، وترامت على الشاعر
تحيات الاستحسان، عند ذاك تحرآت فى الأعماق موجة التمرد التى اجتاحت آل حمدان، فقال عتريس الأعمش فى
مجلسه وسط القهة معلقا على ما سمع من قصة الجبلاوى:
- آان فى الدنيا خير ، حتى أدهم لم يجمع يوما واحد.
وإذا بتمر حنة العجوز تقف أمام الدآان وتنزل قفص البرتقال من فوق رأسها، ثم تقول موجهة الخطاب إلى عتريس الأعمش:
- يسلم فمك يا عتريس، آلامك آالبرتقال السكرى!
فنهرها المعلم حمدان قائلا :
- اذهبى يا ولية وأريحينا من آلامك الفارغ.
لكن تمر حنة جلست على الأرض لصق مدخل القهوة وهى تقول:
- ما أحلى القعدة جنبك يا معلم حمدان (ثم وهى تشير إلى قفص البرتقال) يوم ونصف ليلة فى المشى والنداء نظيم
ملاليم يا معلم .
وهم المعلم بالرد عليها ، ولكنه رأى ضملة مقبلا مقطبا وقد تلوث جبينه بالتراب ، فنظر إليه حتى وقف أمامه فى مدخل
القهوة وهتف بصوت مرتفع:
- ربنا على المفترى! قدرة هو أآبر مفترى، قلت له امهلنى إلى الغد حتى يفتح الله على فرمانى على الأرض وبرك فوق
صدرى حتى آتم أنفاسى.
فجاء صوت عم دعبس من أقصى القهوة وهو يقول :
- تعال يا ضلمة أقعد جنبى، تعال الله يلعن أولاد الحرام، نحن أسياد هذه الحارة، ولكننا نُضرب فيها آالكلاب، ضلمة لايجد
Page 37
اولاد حارتنا .txt
إتاوة لقدره، تمر حنة تسرح بالبرتقال وهى لا ترى أبعد من ذراع أمامها، وأنت يا حمدان أين شجاعتك يا أبن أدهم ؟
فاتجه ضلمة إلى الداخل، وتساءلت تمر حنة.
- أين شجاعتك يا أبن أدهم ؟
فهتف حمدان :
- غورى يا تمر حنة، أنت فت سن الزواج من خمسين سنة فلم تحبين مجالس الرجال؟
فتساءلت المرأة :
- أين هم الرجال ؟
قطب حمدان ، ولكن تمر حنة بادرته آالمعتذرة:
- دعنى اسمع الشاعر يا معلم .
فقال دعبس للشاعر بمرارة:
- حدثها عن هوان آل حمدان فى هذه الحارة.
فابتسم الشاعر قائلا :
- حلمك يا عم دعبس، حلمك يا سيد الناس.
فقال دعبس محتدًا :
- من سيد الناس؟ إن سيد الناس يضرب الناس ويظلم الناس ويغتال الناس، أنت تعرف من هو سيد الناس!
فقال الشاعر بقلق :
- قد نجد بيننا فجأة قدره أو غيره من الشياطين؟
فقال دعبس بحدة :
- آلهم ذرية إدريس !
فقال الشاعر بصوت خافت :
- حلمك يا عم دعبس قبل أن تهدم القهوة فوق رؤوسنا.
فنهض دعبس من مجلسه وقطع القهوة فى خطوات واسعة ثم جلس إلى يمين حمدان على أريكة وهم بالكلام، ولكنه
ضجة غلمان علت بغتة حتى غطت على صوته، وانتشروا أمام القهوة آالجراد وهم يتبادلون السباب فصرخ فيهم دعبس:
- يا أولاد الشياطين أليس لكم جحور تؤيكم فى الليل؟
لكنهم لم يبالوا بصراخه فوثب آالمدفوع وانقض عليهم فجروا فى الحارة وهم يصيحون (هيه) وترامى أآثر من صوت نسائى
من نوافذ الربع المواجه للقهوة ، وحد الله يا عم دعبس، خوفت الأولاد يا رجل، فلوح بيده ساخطا وعاد إلى مجلسه وهو
يقول :
- الواحد حيران لا عند الأولاد راحة ولا عند الفتوات راحة ولا عند الناظر راحة.
أمن آل على قوله، آل حمدان ضاع حقهم فى الوقف، آل حمدان تمرغوا فى تراب القذارة والبؤس، آل حمدان تسلط عليهم
فتوة ليس منهم بل من أحط الأحياء، قدرة يسير بينهم مختالاً يصفع من يشأ ويأخذ الأتاوة ممن يشاء، لذلك نفد صبر آل
حمدان واصحطبت فى حيهم امواج التمرد.
والتفت دعبس إلى حمدان وقال:
- يا حمدان ، الجميع على رأى واحد، نحو آل حمدن عددنا آبير، أصلنا معروف وحقنا فى الوقف آحق الناظر نفسه.
فغمغم الشاعر:
- اللهم فوت الليلة على خير .
حمدان حبك العباءة حوله ورفع حاجبيه المثلثين الغزيرتين وقال :
- قلنا فى هذا وعدنا، سيحدث أمر، إنى أشم الأحداث شما.
وارتفع صوت على فوانيس بالتحية وهو يدخل القهوة مشمر الجلباب وطاقيته الترابية مائلة حتى حاجبيه، وما لبث أن قال:
- الكل مستعدون ، ولو احتاج الأمر إلى نقود سيعطون، حتى الشحاذون.
وانحشر بين دعبس وحمدان وهو يهتف بعبدون صبى القهوة:
- شاى من غير سكر .
فانتبه غليه الشاعر قائلا :
- إحم !
فابتسم على فوانيس ودس يده فى صدره فأخرج آيسًا ثم فتحه واستخرج منه لفافة صغيرة رمى بها إلى الشاعر، وربت
فخد حمدان متسائلا فقال هذا :
- أمامنا المحكمة .
فقالت تمر حنة.
- خير ما نفعل .
فقال الشاعر وهو يخرج الشئ من اللفافة :
- فكروا فى العواقب .
فقال على فوانيس بحدة :
- لا هوان مما نحن فيه، ولنا عدد وفير يجب حسابه، والأفندى لا يمكن ان يتجاهل أصلنا وقرابتنا إليه وإلى صاحب الوقف.
فقال الشاعر وهو ينظر إلى حمدان نظرة ذات معنى :
- لم تضق بنا الحلول .
فقال حمدان آأنما يجيبه :
- عندى فكرة جريئة !
Page 38
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
القديس

avatar


نقاط التميز
عدد المواضيع : 36
نقــــــــاط : 62
تاريخ التسجيل : 08/02/2010

رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا ) Empty
مُساهمةموضوع: رد: رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا )   رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا ) Icon_minitimeالخميس فبراير 11, 2010 7:46 pm

تطلعت إليه الأبصار فقال :
- أن نلجأ إلى الناظر !
فقال عبدون وهو يقدم الشاى إلى فوانيس :
- خطوة عزيزة وبعدها تحفر قبور .
فضحكت تمر حنة قائلة :
- اسمعوا فالكم من عيالكم .
لكن حمدان قال بتصميم :
- ينبغى أن نذهب ، ولنذهب جماعة .
( 26 )
تجمهر أمام بيت الناظر جمع آثر من آل حمدان نساء ورجالاً على رأسهم حمدان ودعبس وعتريس الأعمش وضلمة وعلى
فوانيس ورضوان الشاعر، آان من رأى رضوان أن يذهب حمدان وحده نفيا لشبهة العصيان واتقاء لعواقبه، ولكن حمدان قال
له بصراحة : "إن قتلى شئ يسير ولكن قتل آل حمدان يقدرون عليه"، ولفت التجمهر أنظار أهل الحارة وبخاصة الجيران
الأقربين، فبرزت رءوس النساء من النوافذ وتطلعت أعين من تحت السلال والمقاطف ومن فوق عربات اليد، وأقبل آثيرون
آبارًا وصغارًا وتساءلوا ماذا يريد آل حمدان؟ وقبض حمدان على المطرقة النحاسية وطرق الباب ، ففتح بعد قليل عن البواب
بوجهه الكئيب ونسائم محملة بشذا الفل والياسمين ، نظر البواب إلى المتجمهرين بانزعاج وتساءل :
- ماذا تريدون ؟
فقال حمدان بقوة استمدها ممن خلفه :
- نريد مقابلة حضرة الناظر .
- آلكم ؟
- ليس فينا من هو أحق بالمقابلة عن الآخرين .
- انتظروا حتى استأذن لكم.
وهم برد الباب لكن دعبس مرق إلى الداخل وهو يقول :
- الانتظار فى الداخل أآرم .
واندفع وراءه الأخرون آالسرب وراء الحمامة، ودفع حمدان بينهم رغم سخطة على اندفاع دعبس فانتقلت المظاهرة إلى
الممشى المفروض بين السلاملك والحديقة ، وصاح البواب:
- يجب أن تخرجوا .
فقال حمدان :
- الضيف لا يطرد ، اذهب وخبر سيدك .
وتحرآت شفتا الرجل باحتجاج غير مسموع، وشت به قسماته المكفهرة ثم تحول مهرولا نحو السلاملك، وتبعته الأعين
حتى اختفى وراء الستار المسدل على باب البهو، وظلت أعين عالقة بالستار، وجالت أعين فى أنحاء الحديقة حول
الفسقية المحاطة بالخيل واعراش العنب لصق الجدران، وفروع الياسمين المتسلقة الأسوار، جالت بنظرات حائرة وحواس
مغلقة بالهم وما لبثت أن ردت إلى الستار المسدل على باب البهو .
وانزاح الستار فخرج الأفندى بنفسه متهجم الوجه، وتقدم فى خطوات حادة غاضبة حتى وقف عند رأس السلم ، لم يبد من
شخصه المتلفع بالعباءة إلا وجهه الغاضب وشبشبه الوبرى وسبحة طويلة فى يمناه، ألقى نظرة ازدراء على المظاهرة ثم
استقرت عيناه على حمدان فقال هذا بأدب جم:
- صبحك الله بالسعادة يا حضرة الناظر .
فاآتفى برد التحية بحرآة من يده ، وتساءل :
- من هؤلاء ؟
- آل حمدان يا حضرة الناظر .
- من أذن لهم بالدخول فى بيتى ؟
فقال حمدان بدهاء:
- إن بيت ناظرهم، فهو بيتهم، وهم فى حماه.
فلم يلن وجه الأفندى وقال :
- تحاول الاعتذار عن سوء سلوآكم!
وضاق دعبس بتأدب حمدان فقال :
- نحن أسرة واحدة جميعنا أبناء أدهم وأميمة.
فقال الأفندى بامتعاض:
- ذاك تاريخ مضى، ورحم الله امرءًا عرف قدر نفسه .
فقال حمدان :
- نحن فى آرب من الفقر وسوء المعاملة فاجتمع الرأى بيننا على اللجوء إليك لتفرج آربنا.
وهنا قالت تمر حنة :
- وحياتك عيشتنا تقرف الصراصير .
فقال دعبس بصوت ارتفع درجات :
- أآثرنا متسولون ، أطفالنا جياع، وجوهنا متورمة من صفع الفتوات، أيليق ذلك بأبناء الجبلاوى ومستحقى وقفه؟
فتقبضت يد الأفندى على المسبحة وهتف :
Page 39
اولاد حارتنا .txt
- أى وقف يا هذا ؟
حاول حمدان أن يمنع دعبس من الكلام ولكنه اندفع قائلا آمن لطشت الخمر رأسه :
- الوقف الكبير، لا تغضب يا حضرة الناظر ، الوقف الكبير الذى يملك حارتنا من أولها إلى أخرها ويتبعه آل حكر فى الخلاء
المحيط، وقف الجبلاوى يا حضرة الناظر .
فاندلعت ألسنة الغضب من عينى الأفندى وصاح :
- هذا وقف أبى وجدى ما لكم به صلة إنكم تنتاقلون الحكايات الخرافية وتصدقونها، وما لديكم دليل أو حجة.
فقال أآثر من صوت وضح بينها صوت دعبس وتمر حنة:
- الجميع يعرفون ذلك ؟\
- الجميع؟ ما قيمة ذلك؟ لو تناقلتم فيها بينكم أن بيتى هو بيت فلان أو علان منكم فهل يكفى هذا لاغتصاب بيتى يا هولاء
؟ حارة حشاشين حقيقة! خبرونى مى أخد أحدآم مليما من ريع الوقف ؟
فساد الصمت مليا ثم قال حمدان :
- آان أباؤنا يأخذون .
- ألديكم دليل؟
فعاد حمدان يقول :
- قالوا لنا ونحن نصدقهم .
فهتف الأفندى.
- آذب فى آذب، وتفضلوا غير مطرودين.
فقال دعبس بتصميم :
- أطلعنا على الشروط العشرة.
فصاح الأفندى :
- لماذا أطلعكم عليها؟ من أنتم ؟ ما علاقتكم بها؟
- نحن المستحقون.
عند ذاك تعالى صوت هدى هانم حرم الناظر من وراء الباب وهى تقول :
- دعهم وادخل، لا تبح صوتك بمناقشتهم .
فقالت تمر حنة :
- آونى محضر خير يا ست هانم .
فقالت هدى هانم بصوت متهدج من الغضب :
- قطع الطرق لا يكون بالنهار والشمس طالعة.
فقالت تمر حنة بامتعاض :
- الله يسامحك يا ست هانم، الحق على جدنا الذى أغلق على نفسه الأبواب.
فرفع دعبس رإسه وصاح بصوت آالرعد :
- يا جبلاوى ! تعال شوف حالنا، ترآتنا تحت رحمة من لا رحمة لهم .
دوى صوت قويا حتى خيل إلى البعض أنه سيبلغ الجد فى بيته، ولكن الأفندى صاح مرتعش النبرات من الحنق :
- اخرجوا .. اخرجوا دون تردد .
وقال حمدان بضيق :
- هيا بنا.
وتحول عن موقفه ومضى نحو الباب، وأخذوا يتبعونه صامتين، حتى دعبس تبعه، لكنه رفع رأسه مرة أخرى وصاح بالقوة
نفسها :
- يا جبلاوى .
( 27 )
دخل الأفندى البهو مصفر الوجه من الغضب فوجد زوجته واقفة مقطبة، فقالت:
- حرآة غريبة لها ما بعدها ، ستكون حديث الحارة آلها، وإذا تهاونا فى الأمر فقل علينا السلام.
فقال الأفندى بتقزز :
- رعاع أبناء رعاع ويطمعون فى الوقف، من ذا الذى يستطيع أن يعرف أصله فى حارة مثل خلية النحل؟
- احسم الأمر . ادع زقلط ودبر أمرك، زقلط يقاسمنا الريع دون أن يفعل شيئا فدعه يحلل ما ينهب من أموالنا.
فحدجها الأفندى بنظرة طويلة ثم تساءل :
- وجبل ؟
فقالت بطمانية وثقة :
- جبل ! إنه ربيبنا ، بل هو ابنى، لم يعرف من الدنيا إلا بيتنا، أما آل حمدان فلا يعرفهم ولا يعرفونه، ولو آانوا يعدونه منهم
لتشفعوا به إلينا، اطمئن من ناحيته، وسوف يعود من جولته بين المستأجرين فيحضر الاجتماع.
وجاء زقلط تلبية لدعوة الناظر ، آان متوسط القامة ، بدينا متين البنيان، وبقسماتة ساماجة وغلظة، وبرقبته وذقنو ندوب ،
جلسوا متقاربين وزقلط يقول :
- سمعت أخبارًا لا تسر .
فقالت هدى بغيظ :
- ما أسرع ما تجرى أخبار السوء .
Page 40
اولاد حارتنا .txt
وقال الأفندى وهو يلحظ زقلط بمكر :
- إنها تمس هبيتنا آما تمس هيبتك .
فقال زقلط بصوت آالخوار :
- مضى زمن غير قصير دون أن نحرك نبوتا أو نسفك دما.
فابتسمت هدى قائلة:
- يا لهم من مغرورين آل حمدان، لم يظهر منهم فتوة واحد، ومع ذلك فأحقرهم يزعم أنه سيد الحارة.
فقال زقلط باشمئزاز :
- باعة ومتسولون، ولن يظهر فتوة من قوم خرعين.
فتساءل الأفندى :
- والعمل يا زقلط ؟
- سأدوسهم بقدمى آالصراصير .
سمع جبل قول زقلط وهو يدخل البهو، بدأ مورد الوجه بعد جولته فى الخلاء، وجرت حيوية الشباب فى جسمه الفارع
القوى، ووجهه ذى الملامح الصريحة وبخاصة أنفه المستقيم وعينيه الكبيرتين الذآيتين. حيا الموجودين بأدب وبدأ يتكلم عن
الأحكار التى تم تأجيرها اليوم ولكن هدى هانم قاطعته قائلة :
- اجلس يا جبل، نحن فى انتظارك لأمر عظيم .
فجلس جبل وعيناه تعكسان نظرة تحرج لم تغب عن عينى الهانم فقالت :
- أرى أنك تحدس ما نحن مهتمون له .
فقال بصوت هادئ :
- الجميع يتحدثون فى الخارج .
فنظرت الهانم صوب زوجها هاتفة :
- اسمعت ؟ الجميع يتوقعون منا الجواب .
فقال زقلط وقسماته تزداد سماجة :
- شعلة تطفئها حفنة تراب، بودى أن أبدأ العمل !
فالتفت هدى إلى جبل متسائلة :
- ألديك ما تقوله يا جبل ؟
فقال وهو يدارى ضيقة بالنظر فى الأرض:
- الأمر منكم وإليكم يا سيدتى .
- يهمنى أن أعرف رأيك .
تفكر مليا وهو يشعر بنظرات الأفندى الحادة، ونظرات زقلط الممتعضة ثم قال :
- سيدتى ، إننى ربيب نعمتك، ولكنى لا أدرى ماذا أقول ، فلست إلا أحد أبناء حمدان؟
قالت هدى بحدة :
- لماذا تذآر حمدان ولا أب ولا أم ولا أقارب لك فيهم ؟
وند عن الأفندى صوت ساخر مقتضب يشبه الضحك لكنه لم يتكلم .
وبدأ فى وجه جبل أنه يعانى ألمًا صادقًا، لكنه أجاب :
- آان أبى وامى منهم، لايمكن إنكار ذلك.
وقالت هدى :
- ما أخيب أملى فى ابنى .
- معاذ الله ، إن المقطم لايستطيع أن يزحزحنى عن الوفاء لك، لكن إنكار الحقائق لايغيرها.
وقام الأفندى نافد الصبر وقال يخاطب زقلط :
- لا تضيع وقتك فى سماع هذه المعاتبات .
فقام زقلط باسما، وإذا بالهانم تقول له وهى ترمى جبل بلحظ خفى :
- لا تجاوز المعقول يا معلم زقلط ، نريد تأديبهم لا إبادتهم .
غادر زقلط البهو ، وألقى الأفندى على جبل نظرة لوم وهو يتساءل ساخرًا :
- إذن أنت من آل حمدان يا جبل ؟
ولاذ جبل بالصمت حتى رحمته هدى فقالت :
- قلبه معنا ولكن شق عليه أن يتنكر لأصله أمام زقلط .
فقال جبل بحزن واضح:
- إنهم برساء يا سيدتى رغم أنهم أآرم أهل الحارة أصلا .
فصاح الأفندى :
- حارة لا اصل لها .
فقال جبل جادًا :
-إننا أبناء ادهم ، ومازال جدنا حيا أطال الله بقاءه .
فتساءل الأفندى :
- من يستطيع أن يثبت بنوته لأبيه؟ نه آلام لا بأس أن يقال أحيانا ولكنه لا ينبغى أن يتخذ وسيلة لنهب أموال الغير .
وقالت هدى :
- نحن لا نريد بهم سرًا على شرط ألا يطمعوا فى أموالنا.
Page 41
اولاد حارتنا .txt
وأراد الأفندى ان ينهى الحديث فقال لجبل:
- اذهب إلى عملك ولا تفكر فى سواه .
وغادر جبل البهو فذهب إلى إدارة الوقف فى منظرة الحديقة آان عليه أن يسجل فى الدفاتر عددًا من عقود الإيجار، وان
يراجع الحساب الختامى للشهر ولكن الحزن شتت عقله، ومن عجب أن آل حمدان لا يحبونه، وهو يعلم ذلك ويذآر آيف آان
يقابل بالبرود فى قهوة حمدان فى المرات القلائل التى غشيها ، مع ذلك احزنه مايدبر لهم من شر ، أحزنه أآثر مما
أسخطة سلوآهم الجرئ، وود أن يدفع عنهم الشر لولا اشفاقه من اغضاب البيت الذى أواه ورباه وتبناه، ماذا آان يكون لو
لم يدرآه عطف هدى هانم؟ منذ عشرين عاما رأت الهانم طفلا عاريا يستحم فى حفرة مملوءة بمياه الأمطار، مضت
تتسلى بمشاهدته فمال قلبها الذى حرمه العقم من نعم الأمومة إليه، أرسلت من حمله غليها وهو يبكى خائفا، وتحرآت
عنه فعلمت أنه طفل يتم ترعاه بياعة دجاج استدعت الهانم بياعة الدجاج وطلبت إليها أن تتنازل لها عن الطفل فرحبت
بذلك آل الترحيب، هكذا نشأ جبل فى بيت الناظر وفى رعاية حضرته ينعم بأسعد أمومة فى الحارة جميعا، وأدخل الكتاب
فتعلم القراءة والكتابة، ولما بلغ رشده ولاه الأفندى إدارة الوقف، فى آل بقعة فيها للوقف أملاك يدعونه "حضرة الوآيل"
وتتابعة نظرات الإآبار والإعجاب أينما حل، وآانت الحياة تبدو ودودة واعده بكل جميل حتى آان تمرد آل حمدان، وجد جبل
أنه ليس شخصا واحدًا آما توهم طوال عمره، ولكنه شخصان أحدهما يؤمن بالوفاء لأمه وأخرهما يتساءل فى حيرة : وآل
حمدان؟
( 28 )
انبعثت الرباب تحكم مصرع همام على يد قدرى، اتجهت الأعين نحو رضوان الشاعر فى انتباه يشوبه القلق ، ليست الليلة
آبقية الليالى، ليلة ختمت نهارًا ثائرًا ، وظل آثيرون من آل حمدان يتساءلون هل تمر بسلام؟ وشعل الحارة ظلام حتى
النجوم توارت وراء سحب الخريف فلم يبد من ضوء إلا ما نضحت به النوافذ المغلقة أو ما أرسلته مصابيح عربات اليد
المتباعدة فى أحياء الحارة ن وضجت الأرآان بغوغء الغلمان المتجمعين آالفراشا حول مصابيح العربات، على حين افترشت
تمر حنة خيشة أمام أحد ربوع حمدان وراحت تدندن:
على حارتنا حسن القهوجى .
وارتفع مواء قطط فى نوبات متقطعة واشيا بمنافسات جنسية أو منازعات تموينية، واحتد صوت الشاعر وهو يروى قائلا:
وصرخ أدهم فى وجه قدرى : "ماذا فعلت بأخيك" فى تلك اللحظة ظهر زقلط فى دئرة الضوء التى يرسمها فانوس القهوة
على الأرض، ظهر فجأة آأنما انشق عنه الظام، بدا عابسا متحديا آارها مكروها يتفجر الشر فى عينيه وتشد قبضته على
نبوته المرعب، وزحفت من محجرية نظرة ثقيلة مخيفة على القهوة والجالسين آأنها حشرة سامة، فتحجر الكلام فى حلق
الشاعر .
وباخت نشوة ضلمة وعتريس، وانقطع عن التهامس دعبس وعلى فوانيس، وآف ع الحرآة عبدون، أما حمدان فشدت يده
على خرجوم النارجيلة بعصبية، وساد صمت آالموت.
وتتابعت حرآات خاطفة . غادر القهوة سراعا الزبائن الذين لا ينتسبون لآل حمدان. جاء فتوات الأحياء، قدرة والليثى وأبو
سريع وبرآات وحمودة فصنعوا جدار وراء زقلط وسرى الخبر فى الحارة بسرعة آانه بيت تهدم ففتحت النوافذ، وأقبل الصغار
يجرون والكبار يتنازع قلوبهم الإشفاق الشماتة، وآان حمدان أول من خرق الصمت فقام فى هيبة استقبالية وهو يقول :
- اهلا بالمعلم زقلط فتوة حارتنا .. تفضلوا .
لكن زقلت تجاهله، آأنه لا يسمعه ولا يراه، وظل يطلق الطعنات من عينيه القاستين ، ثم تساءل بصوت غليظ:
- من فتوة هذا الحى ؟
فأجاب حمدان ولو أن السؤال لم يوجه إليه :
- فتوتنا قدره .
التفت زقلط نحو قدره متسائلا فى سخرية .
- أنت حامى آل حمدان ؟
فتقدم قدرة خطوات بجسمه القصير المدمج ووجهه المتحرش بكل شئ وقال:
- أنا حاميهم من الجميع إلا إياك يا معلم .
فابتسم زقلط ابتسامة آالامتعاض وقال :
- ألم تجد حيا غير حى النسوان لتكون فتوة عليه؟
ثم صاح بالقهوة :
- يا نسوان ، يا أولاد الزوانى ، ألا تعترفون بأن للحارة فتوة؟
فقال حمدان بوجه شاحب :
- يا معلم زقلط ليس بيننا وبينك إلا الخير.
فصاح به :
- اخرس يا عجوز يا قارح ، الآن تتمسكن بعد أن تهجمت على أسيادك وأسياد أهلك.
فقال حمدان بصوت المتألم :
- لم يكن فى الأمر تهجم، لكنها شكوى سرنا بها إلى حضرة الناظر ، فصاح زقلط :
- اسمعتم مايقول ابن الزانية؟ حمدان يا نتن انسيت ما آانت تفعله أمك؟ والله لن يسير أحدآم أمنا فى هذه الحارة حتى
يقول بأعلى صوته : أنا مرة .
ورفع بسرعة نبوته وهوى به بشدة على الطاولة فتطايرت الفناجيل والأآواب والصوانى والملاعق وعلب البن والشاى
والسكر والقرفة والزنجبيل والكنكاب، وثب عبدون إلى الوراء فارتطم بتربيزة وسقطا معا، وبغتة وجه زقلط لطمة إلى وجه
حمدان فقد الرجل توازنه وسقط على جنبه فوق النارجيلة التى تحطمت، ورفع زقلط نبوته مرة أخرى وهو يصيح :
Page 42
اولاد حارتنا .txt
- لا ذنب بلا عقاب يا أولاد الزوانى .
وتناول دعبس آرسيا ورمى به الفانوس الكبير فتحطم وساد الظلام قبل أن يهوى النبوت على المرأة الكبيرة وراء الطاولة،
وصوتت تمر حنة فرددت نساء حمدان الصوات فى النوافذ والأبواب آأنما انقلبت الحارة جنجرة آلب رمى بحجر، وجن جنون
زقلط فاطلق ضرباته فى آل ناحية فأصابت أناسا ومقاعد والجدار ، وتلاطمت أمواج الصراخ والاستغاثات والتأوهات، وتطايرت
الأشباح فى آل ناحية وارتطمت أشباح بأشباح .
وصاح زقلت بصوت آالرعد :
- آل واحد يلزم بيته.
فبادر إلى تنفيذ الأمر آل شخص من آل حمدان أو من غيرهم وتتابع وقع الأقدام المتراجعةن وجاء الليثى بفانوس فظهر
على ضوئه زقلط والفتوات من حوله، فى حارة خالية، لايسمع بها إلا صوات النسوان، وقال برآات متوددا:
- وفر نفسك يا معلم للشدائد ، وعلينا نحن تأديب الصراصير.
وقال أبو سريع :
- لو شئت جعلنا من آل حمدان ترابا تمشى عليه بحصانك.
وقال قدرة فتوة حمدان:
- لو آلفتنى بتأديبهم لحققت لى أمنية آبيرة وهى أن أخدمك يا معلم، وعلا صوت تمر حنة من وراء باب الربع:
- ربنا على الظالم .
فصاح بها زقلط :
- يا تمر حنة أتحدى أى رجل من حمدان أن يعد الزانين بك .
فهتفت تمر حنة وإن دل آخر آلامها على أن يدا وضعت على فيها لتمنعها من الاستمرار.
- ربنا بيننا وبينك ، حمدان أسياد ال..
ووجه زقلط الخطاب إلى الفتوات بصوت أراد أن يسمعه آل حمدان قال:
- لا يغادر رجل من حمدان داره إلا ضرب .
فصاح قدره مهددا :
- من ير نفسه رجلا فليخرج.
وتساءل حمودة :
- والنسوان يا معلم ؟
فقال زقلط بحدة :
- زقلط يعامل الرجال لا النسوان.
وطلع النهار فلم يغادر الربوع رجل من آل حمدان، وجلس آل فتوة عند باب قهوة حتى يراقب الطريق، وجعل زقلط يمر
بالحارة آل بضع ساعات فيستبق الناس إلى تحيته والتودد إليه والثناء عليه: "والله أسد بين الرجال يافتوة حارتنا"، "عفارم
عليك يازين الرجال ياملبس حمدان الطرح"، "والحمد لله الذى اذل حمدان المتعجرفين بيدك القوية يا زقلط". ولم يكن يعير
أحدًا أدنى اهتمام.
( 29 )
هل يرضيك هذا الظلم يا جبلاوى ؟
تساءل جبل وهو يفترش الأرض أسفل الصخرة التى تقول الحكايات أن عندها آان يخلو قدرى إلى هند، وإن عندها قُتل
همام، ونظر إلى الشفق بعين لم تعد ترى إلا ما يكدر الصفو. لم يكن ممن يرآنون إلى الخلوات لكثرة مشاغله لكنه شعر
أخيرًا برغبة قاهرة فى الخلو بنفسه التى زلزلها ما حاق بآل حمدان، لعل فى الخلاء أن تسكت الأصوات التى تعيره والتى
تعذبه، أصوات تهتف به من النوافذ وهو مار : "ياخائن حمدان يا لئيم"، وأصوات تهتف به من أعماق نفسه: "لن تطيب الحياة
على حساب الغير"، وآل حمدان اهله، ففيهم ولدت أمه وأبوه، وفى مقابرهم دفنا، وهم مظلومون وما أقبح الظلم، اغتصبت
أموالهم ولكن من الظالم؟ إنه ولى نعمته، الرجل الذى انتشلته زوجه من الطين فرفعته إلى مصاف آل البيت الكبير، وجميع
الأمور تجرى فى الحارة على سنة الإرهاب، فليس عجيبا أن يُسجن سادتها فى بيتهم وحارتنا لم تعرف يوما العدالة أو
السلام، هذا ما قضى به عليها زمن طرد أدهم وأميمة من البيت الكبير، ألا تعلم بذلك يا جبلاوى؟ ويبدو أن الظلم ستشتد
آثافة ظلماته آلما طال بك السكوت فحتى متى تسكت يا جبلاوى؟ الرجال سجناء فى البيوت والنساء يتعرضن فى الحارة
لكل سخرية، وأنا أمضغ المهانة فى صمت، ومن عجب أن أهل حارتنا يضحكون! علام يضحكون؟ إنهم يهتفون للمنتصر أيًا
آان المنتصر، ويهللون للقوى أيًا آان القوى، ويسجدون أمام النبابيت، يدارون بذلك آله الرعب الكامن فى أعماقهم ،
غموس اللقمة فى حارتنا الهوان، لا يدرى أحد متى يجئ دوره ليهوى النبوت على هامته، ورفع رأسه إلى السماء فوجدها
صامتة هادئة ناعسة، يوشى أطرافها الغمام، وتودعها أخر حدأة وانقطع المارة وأن للشحرات أن تزحف وفجأة سمع جبل
صوتا غليظا يصيح من قريب: "قف يا ابن الزانية" . استيقظ من أفكاره فنهض قائما وهو يحاول أن يتذآر أين سمع هذا
الصوت، ثم اتجه حول صخرة هند إلى الجنوب فرأى رجلاً يرآض فى رعب وآخر وراءه يطارده ويوشك أن يلحق به، وأمعن
النظر فعرف فى الهارب دعبس وفى المطادر قدرة فتوة حى حمدان، وفى الحال أدرك حقيقة الموقف، ومضى يراقب
المطاردة التى تقترب منه بفؤاد قلق، وما لبث قدرة أن أدرك دعبس فقبض بيده على منكبه وتوقف الاثنان عن العدو هما
يلهثان من الجهد . وصاح قدرة فصوت متقطع من البهر:
- آيف تجرؤ على مغادرة جحرك يا ابن الأفعى؟ لن تعدو سالمًا .
فهتف دعبس وهو يحمى رأسه بذراعه:
- دعنى ياقدرة، أنت فتوة حينا وعليك أن تدافع عنا.
فهزه قدرة هزة أطارت اللاسة عن رأسه وصاح به :
Page 43
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
القديس

avatar


نقاط التميز
عدد المواضيع : 36
نقــــــــاط : 62
تاريخ التسجيل : 08/02/2010

رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا ) Empty
مُساهمةموضوع: رد: رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا )   رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا ) Icon_minitimeالخميس فبراير 11, 2010 7:47 pm

- أنت تعرف يا ابن اللئيمة إنى أدافع عنكم ضد أى مخلوق إلا زقلط.
وحانت من دعبس نظرة نحو موقف جبل فرأه وعرفه فناداه قائلا:
- اغثنى ياجبل، أغثنى فأنت منا قبل أن تكون منهم.
فقال قدرة بلغظة وتحدة :
- لا مغيث لك منى يا أبن الدايخة.
ووجد جبل نفسه يتقدم منهما حتى وقف عندهما ويهو يقول بهدوء:
- ترفق بالرجل يا معلم قدرة.
فحدجة قدرة بنظرة باردة وهو يقول :
- إنى أعرف ما ينبغى أن أفعله.
- لعل أمرًا ضروريا دفعه إلى مغادرة بيته.
- ما دفعه إلا قضاؤه المحتوم.
وشد على منكبه حتى أن دعبس أنينا مسموعا ، فقال جبل بحدة :
- ترفق به ، ألا ترى أنه أآبر منك سنا وأضعف بنية؟
رفع قدرة يده عن منكبه فصفعه على قفاه بقوة تقوس لها ظهره، ثم ضرب برآبته دبره فانكفأ على وجهه، وسرعان ما برك
فوقه وراح يكيل له الضربات وهو يقول بصوت يزفر الغل والحنق:
- ألم تسمع ما قال زقلط ؟
واشتغل الغضب فى دماء جبل فصاح به :
- اللعنة عليك وعلى زقلط اترآه ياقليل الحياء !
فكف قدرة عن ضرب دعبس ورفع رأسه إلى جبل وجها ذاهلاً ثم قال :
- أنت تقول هذا يا حبل؟ ألم تشهد حضرة الناظر وهو يأمر زقلط بتأديب حمدان؟
فصاح جبل وغضبه أخذ فى ازدياد :
- اترآه يا قليل الحياء .
- فقال قدرة بصوت يرتعش من الحنق:
- لا تظن أن خدمتك فى بيت الناظر تحميك منى إذا أردت محاسبتك!
فأنقض عليه جبل آمن فقد وعيه ورآله فألقاه جانبا وصاح به :
- عد إلى أمك قبل أن تثكلك.
وثب قدرة قائما وهو يتناول نبوته من على الأرض، ثم رفعه بخفة ولكن جبل بادره بضربة فى بطنة من يد قوية فترنح متألما،
وانتهز جبل هذه الفرصة فخطف النبوت من يده ووقف وهو ينظر نحوه بحذر، تراجع قدرة خطوتين ، ثم انحنى بسرعة
خاطفة فالتقط حجرًا ولكنه قبل أن يقذف به أصاب النبوت رأسه فصرخ، ودار حول نفسه، ثم سقط على وجهه والدم يتفجر
من جبينه بغزارة، آان الليل يهبط فنظر جبل فيما حوله فلم ير أحدًا إلا دعبس الذى وقف ينفض جلبابه ويتحسس المواضع
التى تؤلمه من جسده، ثم اقترب من جبل وهو يقول ممتنًا:
- عوفيت من أخر آريم يا جبل.
فلم يجبه جبل، وانحنى فوق قدرة فعدله على ظهره، ثم تمتم:
- أغمى عليه!
فانحنى دعبس فوقه آذلك ثم بصق على وجهه، فجذبه جبل بعيدًا عنه، وانحنى فوقه مرة أخرى، وراح يهزه برفق ولكنه لم
يبد أملاً فى الإفاقة ، فتساءل :
- ماله ؟
فانحنى دبعس فوقه والصق أذنه بصدره، ثم قرب وجهه من وجهه، وأشعل عودا من الثقاب، ثم وقف وهو يهمس:
- إنه ميت !
فاقشعر بدن جبل وقال :
- آذبت !
- ميت ابن ميت وحياتك.
- يا خبر أسود .
فقال دعبس مهونا الأمر :
- آم وآم قتل فليذهب إلى الزبانية!
فقال جبل بصوت حزين وآأنه يخاطب نفسه :
- لكننى لم أضرب ولم أقتل .
- آنت تدافع عن نفسك .
- لكننى لم أقصد قتله ولا أردته.
فقال دعبس باهتمام :
- إن يدك لشديدة يا جبل، لاخوف عليك منهم، وبوسعك أن تكون فتوة لو أردت.
فضرب جبل جبينه بيده وهتف:
- يا ويلى ، هل أنقلب قاتلا من أول ضربة؟
- انتبه إلى نفسك ولهم ندفنه وإلا قامت القيامة .
- ستقوم القيامة دفناه أم لم ندفنه.
- لست أسفًا ، عقبى للباقى، عاونى على إخفاء هذا الحيوان.
Page 44
اولاد حارتنا .txt
وتناول دعبس النبوت وراح يحفر فى الأرض غير بعيد من الموضع الذى حفر فيه قدرى من قبل، وما لبث جبل أن انظم إليه
بقلب آئيب.
وتواصل العمل فى صمت حتى قال دعبس ليخفف عن جبل ثقل مشاعره.
- لاتحزن فالقتل فى حارتنا مثل أآل الدوم.
فقال جبل متنهدًا :
- ما وددت أن أآون قاتلاً قط رباه ما آنت أحسب أن غضبى بهذه الفظاعة؟
ولما فرغا من الحفر وقف دعبس يجفف جبينه بكم جلبابه ويتمخط ليطرد الرائحة الترابية التى تملأ خيشومه، قال بحقد :
- هذه الحفرة تسع ابن الزانية والفتوات الآخرين.
فقال جبل بضحر:
- احترم الميت فجميعنا أموات.
فقال دعبس بحدة :
- عندما يحترموننا أحياء نحترمهم أمواتًا .
ورفعا الجثة فأودعاها الحفرة، ووضع جبل النبوت إلى جانبها ، ثم أهالا عليه التراب .
ولما رفع جبل رأسه رأى الليل قد أخفى الدنيا وما عليها فتنهد من الأعمال وهو يكبت نزعا نحو البكاء.
( 30 )
أين قدرة ؟
سأل زقلط نفسه آما سأل الفتوات الأخرين، لكن الفتوات آانوا يتساءلون أيضا عن صاحبهم الذى اختفى من الوجود آما
اختفى رجال حمان من الحارة، آان قدرة يسكن فى الحى التالى لحى حمدان، وآان أعزب يسهر الليل فى الخارج فلا
يعود إلى مسكنة إلا مع الفجر أو بعد ذلك ، ولم يكن من النادر أن يغيب عن مسكنه ليلة أو ليلتين، ولكن لم يحدث أبدًا أن
غاب أسبوعًا آاملاً دون أن يعلم أحد بمكانه وبخاصة فى أيام الحصار هذه التى أوجبت عليه أعباء لا يستهان بها من اليقظة
والمراقبة، وقامت الظنون حول حمدان فتقرر تفتيش بيوتهم، واقتحم الفتوات وعلى رأسهم زقلط ربوعهم ففتشوها تفتيشا
دقيقا من البدروم إلى السطح، وحفرت الأفنية بالطول والعرض، وتعرض رجال حمدان لإهانات شتى، ولم يسلم أحد منهم
من لطمة أو رآلة أو بصقة، ولكنهم لم يعثروا على شئ يريب وتفرقوا فى أطراف الخلاء يسألون فلم يدلهم أحد على أمر
ذى بال، وبات قدرة الموضوع الذى تدور به الجوزة فى غرزة زقلط تحت تكعيبة العنب بحديقة بيته، آان الظلام يغشى
الحديقة عدا نور حيى ينبعث من مصباح صغير قائم على الأرض على بعد شبرين من المجمرة ليستضيئ به برآات وهو
يقطع الحشيش ويبططه ، ويفتت الجمرات، ويرص الحجر ويخشنه ليعد الجوزة، وآان نور المصباح الراقص فى مجرى
النسيم ينعكس على وجوه زقلط وحمودة والليثى وأبو سريع الكالحة فيبدى عن أعين متراخية الجفون، انعقدت فى نظراتها
الشاردة نوايا معتمة، وتعالى نقيق ضفادع آأنه استغاثات خرس فى هدأة الليل. قال الليثى وهو يتناول الجوزة من برآات
ويوجهها نحو زقلط:
- أين ذهب الرجل ؟ آأن الأرض بلعته.
شد زقلط نفسًا عميقا وهو ينقر الغابة بسبابته ثم زفرة دخانا آثيفا وقال :
- قدرة بلعته الأرض وهو راقد فى جوفها منذ أسبوع.
تطلعت إليه الأبصار باهتمام عدا برآات الذى بدا مسلوبا بعمله.
فعاد زقلط يقول :
- لا يختفى فتوة لغير ما سبب ، وللموت رائحة أعرفها.
فتساءل أبو سريع بعد سماع تقوس له ظهره آأنه سنبلة فى مهب ريح عاتية:
- ومن قاتله يا معلم ؟
- عجيبة ! ومن يكون غير رجل من حمدان.
- لكنهم لا يغادرون بيوتهم وقد فتشناها.
فضرب زقلط طرف الشلتة بقبضته وتساءل :
- ماذا يقول أهل الحارة الآخرون ؟
فقال حمودة :
- يعتقد حينا بأن لحمدان يدًا فى اختفاء قدرة.
- أفهموا يا مساطيل! مادام الناس يعتقدون أن قاتل قدرة فى حمدان فالواجب علينا أن نعتبره آذلك!
- ولو آان القاتل من العطوف!
- ولو آان من آفر الزغاوى، نحن لا يهمنا عقاب القاتل بقدر ما يهمنا إرهاب اآخرين.
فهتف أبو سريع بإعجاب :
- الله أآبر .
فقال الليثى وهو ينفض الحجر فى الكوز ويعيد الجوزة إلى برآات :
- الله يرحمكم يا آل حمدان .
فندت عن أفواههم ضحكات جافة اختلطت بنفيق الضفادع وتحرآت منهم الرؤوس حرآات الوعيد على حين هبت نسمة
بقوة طارئة أعقبتها خشخشة فى الأوراق الجافة، وصفق حمودة بيديه وهو يقول:
- لم تعد المسألة صراعًا بين حمدان والناظر ولكنها آرامة الفتوات.
فعاد زقلط يضرب طرف الشلتة بقبضته ويقول :
- لم يقتل فتوة بيد حرته من قبل .
Page 45
اولاد حارتنا .txt
وتصلبت ملامحه من الغضب حتى خاف شره ندماؤه فحذروا أن تند عنهم آلمة أو حرآة تحول غضبه إليهم، وساد الصمت
فلم يعد يسمع إلا قرقرة الجوزة وسعلة أو نحنحة، وإذا ببرآات يسأل:
- وإذا عاد قدرة على غير ما نظن؟
فقال زقلط بحنق :
- أحلق شاربى يا ابن المسطولة .
آان برآات أول من ضحك ثم عادوا إلى الصمت ، تخايلت للأعين المذبحة، والعصى تحطم الرؤوس، والدماء تسيل حتى
تصبغ الأرض ، والصوات يعلو من النوافذ والأسطح ، وعشرات الرجال يصعدون حشرجة الموت، اضطربت فى النفوس رغبة
نمرية فى الافتراس ، وتبادلوا نظرات قاسية لم يهمهم قدرة لذاته، بل لم يكن أحد منهم يحبه، ولكن يكن أحد منهم يحب
الآخر قط، ولكن جمعتهم رغبة واحدة فى الإرهاب والذود عن الفتونة، وتساءل الليثى:
- وبعد ؟
فقال زقلط :
- ينبغى أن أرجع إلى الناظر آالهد بيننا .
Page 46
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
القديس

avatar


نقاط التميز
عدد المواضيع : 36
نقــــــــاط : 62
تاريخ التسجيل : 08/02/2010

رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا ) Empty
مُساهمةموضوع: رد: رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا )   رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا ) Icon_minitimeالخميس فبراير 11, 2010 7:47 pm

رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا ) 730357
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
يو

يو


نقاط التميز
عدد المواضيع : 28
نقــــــــاط : 34
تاريخ التسجيل : 07/02/2010

رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا ) Empty
مُساهمةموضوع: رد: رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا )   رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا ) Icon_minitimeالخميس فبراير 11, 2010 8:58 pm

هذا رواية كفرية

شخصية جبلاوي ترمز لله جل شأنه وهذا اللي خلا علماء الازهر يكفروه فأتمنى منك اخي حذف هذه الرواية الالحادية الكفرية الممنوعة اذا عندك غيرة على دينك
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
رائعة نجيب محفوظ ( اولاد حارتنا )
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» اقتباسات رائعة
» كلمات رائعة
» قصص قصيرة رائعة

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشواجرة :: الفئة الأولى :: اقسام المنتدى :: منتدى القصة والرواية-
انتقل الى: