قمرية
نقاط التميز عدد المواضيع : 69 نقــــــــاط : 85 تاريخ التسجيل : 18/02/2010
| موضوع: الرقصة الاخيرة الثلاثاء فبراير 23, 2010 8:37 am | |
| أقدامهم في لهاث الأرض تكافح، وتنزلق، وفي أيديهم المتخشبة، أخاديد الحصاد المتواضع لسنابل القمح، والشعير، يشمُّ منها رائحة مرارة الفقر، والدم والقروح.. بيوتهم الطينية الواطئة، ذات الأبواب الخشبية المُفلَّقة، بمطارقها البرونزية الثقيلة، تغصُّ بالعديد من الأطفال الحفاة، الباكين، الصارخين.. المشعثي الشعر، الباحثين بلهفة عن الشبع، وقطعة الحلوى، وكرات المرح، في الأزقة المغبرة تارة، والموحلة في معظم أيام الشتاء تارة أخرى.. يتجول فيها الذباب، والبعوض، والمرض.
والموت المتعطش دوماً لأراوح الصغار، يتقحم في براءة الليل، وعند وميض النجوم، وصوت المطر، وعويل الرياح.. يحصد الفقراء المتعبين في هذه القرى البائسة، المتناثرة على الكتف الشرقي لوادي الرقاد.. حيث النسوة لا تبدل (شروشها) المهترئة السوداء، المناسِبة، لكل مناسَبة.
أيدي الصبايا المصبوغة بالحناء، من أجل طقوس احتفالية، لزفاف ساذج قسري، يدخل في مسامات عذابات صراع فض البكارة، المعلن بالزغاريد المحتشدة خارج الباب، وعلى العتبات المخلّعة، وصراعات نيل اللقمة.. وانهيارات الأحلام المتواضعة في الأزمنة الصعبة.. فتنقلب الحناء إلى مزيج من ألوان قبيحة الرائحة.. يفحها روث البقر، من تحت أناملهن، وهن يصنعن من الزبل أرغفة لشدق الشتاء.. فوحش الصقيع، سيقبل مزرق الشفاه.. يلسع الأجساد بسياطه البرقية، المفرقعة.. فتصبح وجوه الشباب، مصاطب لساحات صاخبة بالهجرة المتواصلة، المسافرة، إلى مفاصل المدن الكبرى.. تهرس ظهورهم برادع العتالة، وتسلق السقالات، والتأرجح عند مصاطب الغيم.. تنخر أسنانهم علب السردين الزنخة، وتنفخ بطونهم أقراص الفلافل المتسخة بالزيت الأسود المحروق، وتفح أفواههم بنتن حثالات التبغ.
شهور طويلة أصابته بالإقياء من هذه القرية البائسة (عابدين).. حلم بإجازة يستريح فيها من عناء الأوامر، وإيعازات التدريب، ومشاكل عسكريّيه التي لا تنتهي.
الرجاء الذي تقطَّر من كلمات والده، الذي هاتفه منذ أيام.. فجر في صدره حنيناً إلى جسد المدينة، وشوارعها، وزحامها.. يتنفس فيها الأكسجين المشبع بغاز الفحم المنبعث من عوادم السيارات المتراكضة.. يتدافع في الشوارع مع الوجوه المكتظة، اللامعة، المدهونة بالدسم.
لقد يبسته الوحدة الموحشة في الأزقة الضيقة، المتعرجة، الصامتة، كوقع الضوء المنزلق في الفراغ حين يلامس صدر الأرض العتيقة، التي عجنت ترابها دموع السماء.
ظله وحده يرافقه.. يقصر، يتطاول، يختفي، ينكمش، يسرع، يتوقف، يتأمله في بلاهة، لا يسمع فيه إلا حواراً ذاتياً، مالحاً، لا طعم له، ولا لون، فتتكور الكلمات في فمه فقاعات صابونية.. تلذع حنجرته.. تستدير، وتعلو مبتعدة، تأخذ أشكالاً مبهمة، وتتفرق متلاشية مع مجيء الليل المتثائب، فيغرق في أحلام أنثوية تغمره.. فيصحو مع ابتسامة الفجر.. تضغطه الجدران التوتيائية لبراكته العسكرية.. باردة، متجمدة، فتتشلق صقيعاً موحشاً في ذلك الشتاء الذي لم يسبق له مثيل منذ سنوات.
الأفق الصباحي لم يعد له وجود.. ستائر الضباب تلف كل شيء.. حاول من نافذة براكته رؤية خارجها.. حتى أشجار الكينا الباسقة، المتشامخة بانتظام على الصفين عند مدخل مكتبه.. اختفت بين الذرات المعلقة في الهواء، لتلك العباءة الندية، اللامعة، البيضاء.. التي تعلن عن قدوم يوم دافئ.. ستشرق شمسه بعد قليل كما خمن.. أعطى أوامره بإرجاء الاجتماع الصباحي إلى ما بعد الانقشاع.. ارتدى ثيابه، وخرج متريضاً.
مر بجانبه كالصخرة المتحدرة، وهو ينخر.. لم يفصله عن الأذى الرهيب سوى ذراع.. برغم الضباب الذي بدأ يلملم أطرافه، وينسحب بهدوء.. تابعه بنظراته، وهو يختفي في ظلمةٍ متشابكةٍ من نبتات القصب المتسامقة على كتف الوادي.
-كاد أن يقتلك ذلك الخنزير البري.!!
خرج هو أيضاً، وبشكل مفاجئ من بين العباءة الندية، المشبوكة بأنامل السماء.. حاملاً بندقيته، معلقاً برقبته منظاراً مقرِّباً.. تابع سيره، وغاب خلال أجمة من أشجار الزيتون المعمرة.
عبر الخنزير البري ذاكرته.. وبقي هو بقامته الفارعة، وعينيه الكبيرتين الضاحكتين، وشعره المسترسل على كتفيه كشعر النساء، وبزته المموهة بالبقع الخضراء، والصفراء، والبنية.
انقضى النهار... انطلق يتخبط في ليل وحشي، موحل، يرشده مصباح يدوي، كي لا يتعثر بالصخور المتجهمة، الباردة.. الخشنة حيناً، والملساء كالجليد حيناً آخر.. يقف بعضها متسمراً وسط ذلك الدرب الترابي، الأفعواني اللزج، الذي يأخذه في إحدى تفرعاته لتنفيذ مهمة التأكد من يقظة نقاط الحراسة الإنذارية. المنتشرة، والمشرفة على الوادي السحيق، التي تقف على ضفته الغربية دشم الصهاينة الجاثمة احتلالاً على صدر الهضبة الجولانية.
عاد منهكاً... السير الزلق على شفة الوادي.. يستوجب الحذر الشديد.. إن أي تعثر يمكن أن يكون مهلكاً.. أن تسقط كما سقط الرومان في واقوصة اليرموك أمر يُرجف القلوب.
هوة مخيفة بعمق يقارب المئة متر، يتشلخ الجسد فيها على أنياب الصخور وأضراس الحجارة.. ميتة يرفضها حتى من قرر الانتحار.
زلقت بقرة منذ أيام.. هبط مالكها إلى القعر، فلم يصعد إلا بقطع من جسدها المتناثر.. أفتى إمام الجامع بحرمة لحمها.. إلا أنه رفض الفتوى، وأطعم اللحم لبطون أطفاله الجائعة.
تمدد على سريره.. الساعة تقارب الثامنة.. أعلمه الحرس أن المختار يطلب مقابلته. قرع الباب مستأذناً، ودخل.. صافحة مرحِّباً، وأشار له بالجلوس.
-يا سيدنا.. أعلم أنك تعب، كنت في مهمة.. ولكن قلت لنفسي.. يجب أن أعلمك هل رأيته؟! منذ يومين، وهو يتجول على أطراف الوادي.. يخفي نفسه، ثم ينظر بمنظاره نحو العدو، ويسجل على كراسه شيئاً ما.. في الثلاثين من العمر، شعره مثل النساء! هل يمكن أن يكون جاسوساً؟! إنه جاسوس لا محالة!! وإلا ماذا يفعل هنا على خط النار؟! يبدأ بالتجول منذ مطلع الفجر.. لا يكلم أحداً، القرية كلها تتحدث عنه، وبصفتي مختار القرية، شككت بأمره بالرغم من سخرية معلم المدرسة، الذي قال لي: (شو هالحكي يا أبا محمود.. كبّر عقلك.!) وغادرني ومشى ضاحكاً. وضحك النقيب أمجد بدوره... انتفض أبو محمود، ثم تراخى مصدوماً، وأخذ يسوي بين أنامله سيجارته اللف.
قرأ من خلال نظراته وتجاعيد وجهه السبعينية.. كتاباً مفتوحاً للبساطة والسذاجة، وعدم القدرة على تحليل الأمور تحليلاً منطقياً، بل والغباء الناضح عرقاً من جبين هذا العجوز، الذي ألهبته المدفأة المتأججة في زاوية الغرفة والأمية المعششة في شرايين وتجاويف دماغه... المعادلة غير متوازنة.. إن أبا محمود قادر على حل أية مشكلة يقع فيها أهل بلدته.. من زواج، وطلاق، وشجار، وبيع، وخلاف على حدود قطعة أرض، بل ومعرفته بأحوال الطقس وخصوبة السنة، ويستطيع تنشق المطر من مسافات بعيدة.. قال له مرة:
-(إنني أقرأ رئيس المخفر من أول لقاء بيننا، وأعرف فيما إذا كان نزيهاً، أو مرتشياً.) بل واستطاع إقناع الآباء، والأمهات.. أن تعليم البنات ضروري كما الصبيان، وعندما وقف مودعاً، بعد أن أنهى شرب كوب الشاي، قال متأسياً:
-يا بني.. أنا لا أفهم في السياسة، ولكن أخبرني، وحتى لا يسخر مني الأستاذ ثانية.. هل ظني في محله؟ هل تعرفه؟ إنني لم أر شعر رجل كهذا!!
-مؤكد أن المشكلة في شعره.. إنه فدائي.. يا مختار.. فدائي فلسطيني.
هز رأسه قائلاً: -فدائي هنا؟! لماذا لا يدخل أرضه، ويقاتل عليها، الحرب من بعيد لا تثمر، ولا ترجع حقاً.. مرة دخل حنش داري، فتبعته، وعندما ولج إحدى الغرف، انقضضت عليه، وقتلته.
-الأمر مختلف يا مختار.
-لا ليس مختلفاً! ضخّم الأمور الصغيرة، تصبح قضية كبيرة. أليس في دخول الحنش إلى منزلي.. كدخول الصهاينة إلى فلسطين؟! كل أمر إذا لم تعالجه في بدايته يكبر، ويكبر، وتصبح مواجهته أصعب.. التصميم، والمتابعة المتبصرة وعدم اليأس.. السبيل للنجاح.
سخر من قراءته السابقة لهذا الشيخ، وأدرك أن الرجل ليس كما ظنه.. لقد عركته الحياة، وصقلته التجارب، وقرر، ومنذ تلك اللحظة.. ألا ينظر إلى الآخرين مهما بدوا باستخفاف، وعزم أن يلتقي هذا الفدائي.
...
الفجر يبدو أغبش الجبين.. فإطلالته ما زالت في بداية استيقاظها.. صياح الديكة يملأ فضاء القرية الهاجعة، وكذلك الرذاذ الناعم من الغيث المسافر من سفوح الغيوم البيضاء.. يتهطل مقبّلاً أوراق الشجر، ووجه الصخور الزرقاء فيغسل عنها تجهمها، لتتلامع مبتسمة للفرح النازل، العاري، وهي تبادله القُبل.. رائحة الأرض تملأ صدره، فتبعث في جسده نشاطاً متدفقاً، وحيوية شبابية متوثبة، تنير فيه ذكرى طفولية:
-انهض أيها الولد الكسول.
-آه.. جدي.. اتركني.. أريد أن أنام.
وعندما ينزع عنه لحافه.. ينهض، ويغسل وجهه، فيشعر كما الآن، كم هو الاستيقاظ في تلك اللحظات المبكرة.. رائعاً.!
الفجر، والريح الخفيفة، دفعته للخروج متريضاً.
-سأرافقك يا سيدي النقيب. قال الرقيب المناوب، وهو يتقلد بندقيته، ومنظاره يتأرجح على صدره.
لم يكن يعلم أن الطلقات المغادرة التي ردد الوادي صداها.. على امتداد يفوق المسافة التي قطعتها مرات عدة.. ستكون الرصاصات الخطأ.. للرجل الخطأ!!
عيناه امتدتا عبر سواحل الندم.. لسنوات عدة، ومع أن الزمن يلعب لعبته الماهرة.. النسيان، ولكنه يسمح بين الفينة، والفينة للحدث أن يستيقظ، ويوقع لحناً نادماً.. لماض نتخيله قد مات.
ظل يناقش هذا الأمر.. لوقت طويل.. بل ربما لا يزال.
-هل كنت متسرعاً؟! هل كان الفعل المنطقي؟! الخيار الأوحد؟! هل اللوم يقع على السلطة الأعلى، التي أرسلت إعلامها قبل الحدث بساعة؟!
هل هو عامل البرقيات.. ذلك الجندي الذي تأخر بإعلامه؟! هل هو كلام المختار الذي زرع الشك فيه؟!
في البداية لم يلاحظا شيئاً.. كانا يقفان على حافة الوادي، يتأملان اللوحة البديعة التي رسمتها الطبيعة، وزاد في روعتها وجه الفجر الوضاء، وهو يكشف ستارة الظلمة عن جسد الوادي الفتان، وأثوابه الملونة المزركشة.
-انظر هناك يا سيدي. وأشار الرقيب إلى السفح المقابل. وتابع قائلاً: -هناك يمين ذلك الشق الصخري بإصبع.
رفع قبضة يده، فارِداً سبابتها باتجاه ما أشار.. ورآه: -اعطني المنظار.
كان شعره المسترسل يخفق كراية مؤكدة الانتماء... الدشمة الإسرائيلية فوقه تماماً.. عشر دقائق من الصعود، ويكون عندهم!
-إنه ذاهب إلى العدوّّ هذا ليس استطلاعاً.. ومن المحال أن يكون هجوماً!! إنه بمفرده... إذاً أعطني البندقية أيها الرقيب.
-سيدي.. هل ستطلق..؟!!
قطع التساؤل المستَغرِب لمرافقه قائلاً.. وبصوت حاد، مزمجر:
-أيها الرجل العاري الذاهب إلى هناك.. لن يسترك ثوب في العالم.. لن تخرج من خط تسديدي، ولن تفلت من بين أصابعي الملتهبة بالحقد عليك.. في عيني يتجول الوطن، وفي راحتي تنمو عزيمة الإصرار على درء الخطر.
شعر بالرغبة البدائية، المتوحشة للإنسان الأول المنطلق لصيد فريسته.. كان رامياً ماهراً.. حاز على ميداليات عدة في المباريات.. قدَّر المسافة الأفقية بمئتي متر.. لن يقتله.. يريده حياً، وعندما يحل الظلام، سيجره ككيس زبالة.
جاءته اللحظة المثلى للإطلاق، حبس نفسه، وضغط على الزناد.. رشة قصيرة.. أربعة طلقات.. مرقت تئز.. خارقة هواء الوادي... وسقط الهدف.
الشمس تشرق من عينيه.. وميضها يخطف بصره.. الثواني تتسطح.. تكبر، تثقل تصبح أطناناً.. ترجمه بالدهشة.. غريماً صارت.. قاتلاً يطعنه في صميم فؤاده. والطلقات تعود إليه.. تستقر في رأسه.. موتاً بطيئاً، مثقلاً بالمرارة، والخيبة والذهول.!!.. عندما رآهم يقفزون من بين الأجمات، والصخور، أربعة رجال.. تحدروا متراجعين بقفزات جنونية. عاد اثنان إلى رفيقهم المصاب.
استيقظ العدو.. دفعات هستيرية تقذفها رشاشاته الثقيلة.. تولول على طول الوادي..
خُصَل من شعر الريح.. تخترق بزته الرياضية. يدوس رمش الأرض.. يمرق بين الأشجار، وفوق الصخور منطلقاً كقذيفة.. باتجاه مرصده.
تلقاه جندي البرقيات بوجه شاحب، ويد مرتجفة:
-سيدي.. وصلت هذه البرقية قبل ساعة.
وضع كل غضبه في صوته، وصاح به:
-لماذا لم تعلمني أيها الغبي؟!!
-يا سيدي.. بعد أن فككت الترميز.. جئت إلى مكتبك، ولم أجدك، وبحثت عنك طويلاً، ولم...
أشار له غاضباً: -يكفي. قرأ في عجالة.. إلى قائد السرية الثانية.. ستقوم مجموعة من الفدائيين بمهاجمة المنعة الإسرائيلية رقم 9 ب، وذلك في تمام الساعة الخامسة من فجر يوم السابع عشر من كانون الثاني، عام 1972. كن مستعداً لدعمهم بالنيران عند القيام بالتنفيذ، والمساعدة خلال انسحابهم.
...
الضياء الذي كان يمرج في العيون.. تلفع بالدخان، والغبار، والبقع النارية الملتهبة.. التي سرعان ما تسوَدُّ، وهي تتشظى على صدر الوادي، والرصاص المتبادل بين الطرفين.. يرن على حدود الصخر، أو يصفر ممزقاً أوراق الأشجار، ثم يقتحم التراب، فينثره غباراً في الهواء. غاضباً، مدمدماً.. يأتي معلِناً أن الموت يحوم غراباً في الفجر المصدوم، الحزين، الكالح السحنة.
رد على الهاتف.. صوت القائد يأتيه نزقاً: -ما هو الموقف يا أمجد؟!
وأجاب بالترميز: -الشمس بزغت يا سيدي.
سمعه يهمس لأحد بجانبه: -يبدو أن العملية كُشِفَت.. وتابع معه:
-حسناً ما هي طلباتك يا قائد السرية؟
-أطلب ستارة دخانية من رمايات المدفعية على المربع رقم 10.. قال هذا واضعاً إصبعه على المكان المحدد في الخريطة العسكرية، المفرودة أمامه وتابع قائلاً: -وأطلب رمايات مباشرة من فصيلة الدبابات.. على مزاغل الدشمة المعادية رقم 8 ب.. لأن رماياتها مؤثرة على انسحاب الفدائيين.
عن يمينه، ومن خلفه، ارتج الوادي بالانفجارات المدوية، وأرسلت القنابل سحابة هائلة من الدخان الفضي المتصاعد، حاجباً السفح المعادي للوادي الهادر بالضجيج... بصره يخترق الوادي.. يتجول فيه: -أين هم؟!.. آه إنهم هناك.. في بداية السفح الصديق.
دقق الرؤية بمنظاره.. ها هم.. ثلاثة، والرابع محمول على ظهر أحدهم.. أين الفدائي الخامس؟!! الدخان لم يعد يسترهم!.. سيصطادهم العدو، وهم يصعدون الأرض الصديقة. وتابع قائلاً:
-سيدي المقدم.. أطلب ستارة دخانية.. على الخط الشرقي للمربع رقم 11.. بعد قليل سينكشفون للعدو.
ومرة أخرى.. جدران من القنابل الدخانية.. تتصاعد عند أقدام الجانب الآخر لسفح الوادي.
-ملازم أحمد.. خذ جماعة دعم، مع المُسْعِف، وحمَلَة النقالات، وانطلق لملاقاتهم.
...
البارحة عند الغروب، وفوق غصن شجرة مجاورة لمكتبه.. نعبت مرتين وعندما نظر إليها.. تراشقت العيون بالكُره!.. فردت جناحيها، ورفت محلقة مبتعدة، مخلفة في فؤاده توجساً متشائماً.
سنتان مرتا على وفاة والدته.. كان يوماً بلا مقدمات مرضية.. احتشاء صاعق.. وتوقف القلب المحب، المعطاء. ولكن، وكما تذكَّر الآن.. وقبل يومين من رحيلها.. عندما أطلقت نعيبها المشؤوم فوق سطح الدار.
-ثلاث طلقات من أربع أيها النقيب.!.. أهنئك على دقتك في الرماية.. لقد علمتُ بما جرى.. لست غاضباً منك.. أسفي، وحزني، لأن العملية فشلت، وفقدنا شهيداً من غير قتال!
تقدم منه.. قبّله في جبينه، وقال، وعيناه تتلامع فيهما الدموع:
-أُقدِّمُ اعتذاري، وأرجو لك الشفاء العاجل.
قال له الممرض، عندما انتحى به جانباً: -طلقة في الرجل اليسرى كسرت عظم الساق، وطلقتان في فخذه الأيمن بلا كسور.
تقدم منه مودعاً، وهم يضعونه في عربة الإسعاف:
-سأزورك في المشفى.. إن سمحوا لي.
غابت عربة الجريح، وقَدِم الحُزْن... جلس في عقله، وقلبه، شعر بأن الوادي بكل مغاوره، وقصبه، وأشجار الدفلي، والعليق، ومياهه المتحدرة إلى اليرموك، بل وكل السهول التي تنبسط على حوافيه.. كئيبة، تهاجر نازفة في جسده، تملأ مسافات الأخطاء الإنسانية الصغيرة والكبيرة، بالصوت والحركة تكتب أسماء كثيرة قُتلت على وجه الأرض، جراء التسرع وعدم التعقل.
أما ذلك الشهيد المعلقة عيناه في السماء الزرقاء اللامتناهية، المغسولة جثته في القعر العميق للوادي، بوهج الدم المسفوح من أجل استعادة الحق المستباح من أيدي الطغاة.. فلا بد من يوم يأتي.. تكون فيه ابتسامات النصر مرئية مشرقة، كالعدل.
كان المحقق مُتفهِّماً... السجن لمدة خمسة وأربعين يوماً، مع تأخير ترفيعه ستة أشهر... أما الجندي عامل البرقيات.. فحكمه: السجن لمدة شهر واحد.
أيتها البوم المشؤومة.. ومع ذلك كنت رحيمة بي هذه المرة.. ها هو الحلم الصغير بالإجازة يجثو على ركبتيه المتعبتين.. يتمدد بين جدران السجن المخصّص للضباط.. يتوسد ذراعه، ويغفو.. إلا أن ضميره يرسل إليه أحلاماً ليلية سوداء، وسياطاً لاسعة، مؤلمة، تترك في روحه جراحاً طويلة، وعميقة كعمق الرقاد.
لم يستطع زيارته في المشفى.. لقد ساقوه موقوفاً بعد أيام قليلة.. إلا أنه، وقبل ذلك، ورغم الخطر المتربص.. نزل إلى الوادي مع مجموعة من جنوده، وأحضر جثة الشهيد. لقد صمم على حمل جثمانه البارد، عند الارتقاء الأصعب.
-2-
القذارة في مهجع السجن، الذي يحوي عشرة ضباط، أعلاهم رتبة نقيب... جعلت أعصابه أوتاراً مشدودة.. يمكن لها أن تنقطع في أية لحظة.
هذا ما حصل فعلاً.. لقد اصطدم بأحد النقباء.. الذي من عادته أن يترك.. بقايا طعامه في أوعيتها، ويرمي بأعقاب سجائره كيفما اتفق.!
ضابط آخر قززه بالرائحة الكريهة التي تفحها قدماه، وجواربه التي لم يغسلها ولو لمرة واحدة.!
استطاع بعد أيام، وبمساعدة بعض المهتمين، من التخفيف من هذه الوساخة وخيل إليه أن الأمور جرت بشكل أفضل.
دارت نقاشات متعددة، وأحياناً حامية، وفي مختلف الموضوعات. استطاع أن يتلمس في العيون.. مدى ما قدمته هوايته المحببة إلى قلبه.. المطالعة... مُذ كان طالباً... فبدا لزملائه ضابطاً عارفاً، ملماً.. لقد شاركه في ذلك.. ضابط.. آخر حاز على إعجابه، لنباهته، وقدراته، ودقته، وموضوعيته في طرح المسائل.. وتحليلها.. هذا الضابط كان الملازم الأول جهاد.. وقرر في نفسه.. إنه متميز.!
...
تحدثوا عن العقيدة الشرقية في القتال. أبدى النقيب أمجد رأيه قائلاً:
-لقد أخذناها مقَوْلبة، وطبقناها ببغاوية، وكان من الأجدى لو طورناها بشكل تتلاءم وطبيعة، ونفسية المقاتل العربي.. وبحسب إمكانياتنا، وجغرافية أرضنا ولا بد لي من القول، أن تسييس الجيش أبعد القادة عن الاهتمام بأمور عديدة من المسائل التدريبية.
خالفه في رأيه ضباط آخرون.. قال أحدهم: -نقيب أمجد.. إن الجيش الذي يؤمن بعقيدة (أيديولوجية)، يكون الأقدر على الرؤى السياسية، والأقدر على تحفيز المقاتلين، وتكون المعرفة أعمق بقضايا الأمة من خلال دروس التثقيف والتوجيه السياسي. بينما أكد ضابط آخر أن الإيمان بحب الوطن، وبالوحدة يكفي لشحن الجند بروح القتال، وضرب على ذلك أمثلة... فالمجاهدون ضد الاستعمار العثماني، والثورة السورية الكبرى، ضد المستعمرين الفرنسيين، لم يكونوا ينتمون لأي حزب عقائدي. وطرحت للمناقشة القضية الفلسطينية، وإسرائيل، والمشروع الصهيوني، والمشروع القومي العربي، ونكسة حرب حزيران.. قال أمجد، والكلمات تندفع من فمه حارة، متدفقة:
-لقد وجَّه الاستعمار الغربي ضربة قاصمة للحلم القومي، وآماله في الوحدة من خلال اتفاقية (سايكس- بيكو..) لقد أصبحت الأمة أقطاراً متناحرة، وعلت المصلحة القطرية على القومية، وعمقت شروخها الأنظمة الحاكمة.. حيث الأولوية عندها لسدة الحكم، وتغييب قرارات شعوبها، واللعب على الحبال.. مرة (بالديماغوجية)، ومرة بالاستقواء بالأجنبي مصلحة، وقهراً، ومرة بالوعود والشعارات البراقة.. وقال مؤكداً: -إن قصة الحمار، والجزرة، هي الواقع الذي يحكم الناس.. وعندما تصبح اللعبة مكشوفة.. يكون القمع، والملاحقة وكم الأفواه هو الحل.
أيده بعضهم بتحفظ، وحذر، وكانت العلامة الكبرى للمناقشات نكسة حزيران أسبابها، وبعض ما يعلمون من خفاياها. انبرى أحد الضباط قائلاً:
-برغم أن الاتحاد السوفييتي.. قدم الكثير من المساعدات لنا سواء بالدعم المادي، والعسكري، والمواقف السياسية إلا أنه خُدِع من الغرب.. وخاصة من أمريكا، عندما أصر على جمال عبد الناصر.. ألا يكون البادئ في الهجوم على إسرائيل.. وخاصة في سلاح الجو.. كذلك لم يقدم للعرب الأسلحة المتطورة كالتي قدمتها أمريكا لاسرائيل..لذلك استمر التفوق المعادي مسيطراً، وخاصة أن الدول العربية لم تضع قيد التنفيذ أية استراتيجية موحدة، وأن قصة الدفاع العربي المشترك، خرافة!!
الحوار الذي كان يشارك فيه الجميع بحميمية، هو حديث الحب.. لقد سرد العديد منهم مغامراته، وحكايا عشقه، وآرائه في اختيار شريكة العمر، وشاركهم في ذلك المتزوجون.. الذين نصَّبوا أنفسهم كخبراء في هذا المجال.
أرهقته أسئلة الضباط، ومحاولاتهم المستمرة لمعرفة سبب توقيفه.. إلا أنه تمترس كصخرة خرساء، وبالرغم من أن الكلمات كانت تشرئب في صدره وعلى لسانه.. وكم ود لو ينثر كلامه مطراً فوق رؤوسهم.. فينساب في آذانهم كالطوفان.. ولكنه فضّل ألا يبيع قصته مجاناً لأناس سيغادرهم، ويغادرونه بعد حين.
أما الحضور الأصفى، والأقرب إلى روحه من كل هذه الوجوه الحبيسة كان وجه جهاد... عيناه البراقتان.. تشتعلان ذكاء، وإن كانتا مسكونتين بالحزن الصامت.. تشعان قدراً كبيراً من التعبير الصوفي العميق.. هادئ الملامح، ناعمها.. بينما يتدفق خلف سهوب صمته، وشفيف رقته.. شلال من النور.. يوغل بالحيوية، والوعد.. جسده يشتعل بالنشاط، والمروءة.. مستعد لتقديم خدماته لزملائه في أي وقت، وهي منداة بالتواضع الفروسي النبيل، وقراءاته له.. أنه شاب مشدود إلى حقائق الحياة، وواقعيتها.. في تناغم عملي.. مع ألوان خيالية.. ليست صارخة الآمال، وممكنة التحقيق.
يتعاطف الحزن الإنساني، وتسطع العذابات النابضة في القلوب.. فتقرع أجراس الصداقة في شغاف القلوب، ومآقي العيون في (هارموني) من المشاعر المخلصة. هذا ما حصل في ليلة مقمرة، دافئة... جلسا على مقعد خشبي في حديقة السجن. قال له:
-أخي جهاد.. لِمَ تتوارى، وتجلس وحدك مسكوناً بالألم.؟! ازرع حزنك في صدري، وكلماتك في دمي.. فكلنا في النهاية بشر، ولا بد لنبع الألم من الفيضان.
-هذا كلام شاعر.. هل تكونه؟!
-في بعض أوقات الفراغ.
نظر إلى السماء.. خرجت من فمه تنهيدة حرّى، وارتسمت على وجهه ابتسامة صغيرة، وقال:
-كنت ما زلت طالباً في الكلية الحربية، عندما حصلت نكسة حزيران.. كان والدي رئيس مخفر شرطة في محافظة ريف دمشق.. وهو يعبر الطريق بالقرب من مطار المزة، بدأ الطيران المعادي هجومه.. أصابته شظية أودت بحياته، أما أمي، وأخواي، وأختي.. كانوا يقطنون بيتنا في قرية مجدل شمس عندما احتلها الصهاينة.. لم أرهم منذ أربع سنوات.. ورغم محاولاتهم العديدة لزيارتي، إلا أنهم فشلوا.. نتواصل بالمراسلة عن طريق الصليب الأحمر. أما عمي الذي كان ملاذهم.. فقد أودعه الإسرائيليون السجن لنشاطه ضد الاحتلال ولم يبق لهم سوى جدي.. الذي تجاوز السبعين من العمر... ما رأيك.. هل تجد الأمر محزناً.؟.. إن ذلك مؤلم جداً.. على الأقل بالنسبة لي.. أرجو ألا أكون قد أثقلت عليك؟
أخرج سيجارة.. أشعلها، ونفث مع دخانها زفيراً طويلاً، وتابع: -على أية حال وجودي في الوحدات الخاصة.. يريحني، فالتدريب المستمر، والعنيف حتى الإرهاق غالباً، وندرة أوقات الفراغ.. يشغلني عن التفكير المستمر بهم.
قال له متسائلاً: -وسبب العقوبة؟
-لا.. إنه أمر عادي.. شجار مع رتبة أعلى.
عندما نهضا.. كانا يعرفان بعضهما أكثر. من المؤكد أن رابطاً صداقياً حميماً.. ألف بين قلبيهما بنبض روحي مريح.. لقد سجل كل منهما واسطة الاتصال البريدي، والهاتفي.
...
صوت خطاه تتأوه في جوف الشارع خلفه... وأمامه تبتعد خطوات مسرعة في وحشة صامتة.. مرت سيارة مسرعة.. نثرت مياهاً مطرية متحقنة في جوف الشارع.. تلوث نصفه الأسفل.. نظر إلى نفسه.. وجد الأمر محتملاً.. تمتم بشتيمة. نصف ساعة مرت على امتلاكه حريته. مهمته تؤكد التحاقه الفوري بوحدته.. إلا أنه صمم على رؤية أهله، ولو لدقائق.. عندما دلف إلى التاكسي.. أحس بالدفء يحضنه.. مطر خفيف ينزلق بخجل على زجاج السيارة، والمساحتان تكشطانه برتابة كسولة.
-سيادة النقيب.. يقولون أن عدد القتلى من الضباط في بلدة نوى تجاوز العشرة.
-متى حصل هذا؟!
-البارحة.. في الغارة الجوية على قيادة اللواء.. ألم تعلم.؟!
-يا إلهي.. إنه لوائي.! قال ذلك همساً، وتابع بصوت عال:
-لا.. كنتُ في إجازة.
أهازيج فرح.. زغرودة أطلقتها أخته الكبرى.. احتضنته.. إخوته استقبلوه بفرح راقص.. إنه الأكبر بينهم. أما والده.. الجندي القديم، فقد رحب به بتجهم حاول إخفاءه، وعندما اختلى به.. قال زاجراً:
-أسِجْنٌ في بدء حياتك العسكرية.؟!! يجب ألا يتكرر ذلك.. لقد أمضيت أكثر من ثلاثين عاماً في الجيش، ولم يدون في سجلي سوى عقوبتين عاديتين.. إنه عار أيها النقيب ما حصل لك..!
بعجالة شرح لوالده الموقف.. انبسطت أساريره قليلاً.. إلا أنه علَّق:
-ومع ذلك كان قرارك متسرعاً.. لقد رحموك.
أشارت الساعة إلى الحادية عشرة صباحاً.. عندما حمل حقيبته مودعاً، وغادر ملتحقاً إلى عمله.
خلال زيارته القصيرة لذويه.. حاول مرتين أن يسأل أخته الكبرى عنها.. إلا أن صوته لم يعبر شفتيه.. والسؤال بقي حاراً.. يتعرق خجلاً في فمه.. (قمر) حلم يتكثف.. يتهطل في فؤاده.. كتراكم الندى على قمم السفوح وأهدابها.. ويتجمع.. ليتدفق نهراً من الشوق.. تسبح فيه خيالاته. النافذتان المتقابلتان في منزليهما.. تتناجيان.. تغردان.. ترسلان الإشارات المنداة برحيق الشفاه.. تحلق خافقة في الفضاء الفاصل بينهما، والرسائل الصغيرة العجولة، المختبئة بأيادي الأطفال.. تدخل غرفتيهما مزقزقة بالكلمات الحنونة، الرقيقة.. زارعة الأحلام في القلبين الخافقين بالحب المترع باللهفة للقاء.
عندما اجتمعا لأول مرة في نادي (الكريزي كات) واحتوتهما الأضواء الخافتة.. لم يتحدثا خلال النصف الساعة الأولى.. لأن شفاههما أشعلت حريقاً ملتهباً من القُبل الظمأى لرحيق العشق.
بدأ حديثه جدياً: -لماذا اخترت الحقوق.. يا قمر؟
-الحقوق يا أمجد (جوكر) فروع الجامعة.. إنه الأقوى.
ضحك للتشبيه بقهقهة عالية لفتت انتباه الحاضرين.. اعتذر عن تصرفه وأردف قائلاً: -وما هي مخططاتك المستقبلية؟
-حلمي الأكبر أن أصبح محامية.
-المحاماة للمرأة عمل لم يتقبله مجتمعنا بعد، والثقة في قدرتها خوض هذا المجال.. متواضعة جداً.
-الثقة يبنيها الإنسان بجده، وتصميمه على إثبات ذاته.
-صحيح ولكن للناس رأي آخر.
-الناس تحترمك، وتعترف بك، بعد أن تبرهن أنك الأجدر.. إن وقوف محامية في قاعة المحكمة متسلحة بالعلم، والفصاحة، والحضور القوي، يعطيها مهابة واحتراماً يفوق الرجال.
أثنى على طموحها، وحماسها، وزاد ذلك من تعلقه بها.
ناقشا خططاً مستقبلية.. كان خوفه.. أن يصلها خبر سجنه مشوهاً.. ومع ذلك لم يخبرها بحقيقة ما جرى.
... | |
|
قمرية
نقاط التميز عدد المواضيع : 69 نقــــــــاط : 85 تاريخ التسجيل : 18/02/2010
| موضوع: رد: الرقصة الاخيرة الثلاثاء فبراير 23, 2010 8:39 am | |
| عندما وصل وحدته عصر ذلك اليوم.. كان استعراض القوة، والبطش، يحوم في السماء.. رفان معاديان من طائرات الميراج، والمستير، يهدران في فضاء المنطقة.. ويخترقان خط الجبهة.
استقبلته سريته بابتهاج.. جاء (الحنبلي) كان هذا لقبه عندهم. أسلوب قيادته حديث مرؤوسيه طيلة غيابه.. مدحوا اهتمامه الشديد بروحهم المعنوية.. وقتاله العنيد مع السلطة الأعلى عند أي تقصير بحق سريته.. وتحمله مسؤولية قراره وتندروا طويلاً بأوامره التي يصدرها سيوفاً قاطعة، تبتر كل مخالفة مهما صغرت.. في الانضباط.. واحترام الوقت.. والتدريب. اللافت في شخصيته حرصه الشديد على أناقته في كافة الظروف.
لمدة يومين.. قام بتفقد كل شيء.. شكر نائبه، وضباطه على اهتمامهم.. ألقى كلمة في الاجتماع الصباحي.. إلا أنه لم يتعرض لما حصل عند الوادي، بعكس ما توقعه الجميع، بل ركز على التدريب، والأخطاء التي لاحظها إبان الاشتباك مع العدو.. أثنى على العسكريين الذين نفذوا مهامهم بكفاءة.. تهللت وجوههم وتوردت كأرغفة خبز طازجة.. خرجت لتوها من نار الفرن.. عندما أمر بمنح المجيدين إجازات مع التقيد بنسب الغياب.. وقع إجازات لثمانية منهم.. حملتهم أجنحة الفرح.. فطاروا من المعسكر برفة عين.
انتهى العمل اليومي.. دخل براكته.. بدأ بتوقيع البريد.. انتابه نعاس مرهق، هو أيضاً شعر بالحاجة إلى الاستراحة، بعد تلك المدة التي هرسته بين الجدران المعتمة، والنوافذ الدائرية الصغيرة.. التي لا تسمح لأشعة الشمس بالمرور إلا بجواز سفر مؤقت.. يحمله شعاع مريض.. ملأه بالضيق، والكآبة. قرر أن يقابل قائد الكتيبة.. سيستغل وجوده مناوباً، ويزوره هذا المساء.. خمسة كيلو مترات تفصله عنه.. ليست مشكلة.. سيجد وسيلة تنقله إليه.. حتى لو اضطر لقطعها على قدميه. عندما هاتفه.. فوجئ به يقول:
-أعتقد أن ثمانية أيام كافية لتنسيك ما جرى يا أمجد.. قابلني غداً عند الواحدة ظهراً.. مع تقرير عن وضع وحدتك، وستجد إجازتك بانتظارك.
قناعات، ورؤى مشتركة.. ربطته بهذا القائد.. صداقة، واحترام متبادلين. والذي وطد ذلك.. حرصه على إبقاء فارق العمر، والرتبة، متوَّجين بالجدية والانضباط، ولم يفكر مرة باختراق هذه القاعدة.
سأله مرة أحد الزملاء الذي نقل حديثاً، كقائد لإحدى السرايا عن رأيه فيه أجابه: -من المفضل أن تكوِّن رأيك بمفردك.. عن المقدم محمود.
وعندما أصر على ذلك، قال: -من وجهة نظري.. إنه قائد يؤمن بالحوار الديمقراطي.. لا يتخذ قراره متسرعاً.. يحكمه المنطق، لكنه عندما يصدر أمره يصبح جبلاً لا يتزحزح.
عندما حياه مودعاً، وإجازته تزغرد في جيبه.. قال له: -نقيب أمجد.. لو كنت مكانك، وفي الظروف عينها.. لاتخذت نفس قرارك.. مع العلم أنني لست في مهارتك في الرمي.
-شكراً يا سيدي.. لكن معنوياتي لا بأس بها.!
-ما أقولـه هو الحقيقة، وأنا لا أجامل في أمور كهذه.. وأنت تعلم ذلك.. على أية حال.. لست متفرداً في هذا الرأي.
كان قول قائده مدهشاً، بل رائع الدهشة! أزاح عن فؤاده الكثير من أثقال الشعور بالذنب، والإحباط. تحدثا عن الغارة الجوية على قيادة اللواء، وأكد المقدم محمود.. أن المكان، وبما يجري فيه.. كان مكشوفاً لأعين الرصد المعادي، وأنه نجا، ومجموعة من الضباط.. حين تأخروا عن الدخول إلى القاعة دقائق عدة كونهم من المدخنين، وقال مازحاً:
- ويتحدثون عن مساوئ التدخين.
...
- سيجبر عظم ساقه خلال خمسة عشر يوماً.. حصل على نقاهة لمدة شهر أما أين سيقضيها، فهذا ما لا نعلمه.
هكذا قالوا لـه في المشفى الحكومي، بمدينة درعا، عندما عرج لزيارته قبيل انطلاقه إلى دمشق، لقضاء إجازته.. أسف كثيراً.. لكم ودَّ لو رآه.
-3-
صعد الدم إلى رأسه، وازدادت عيناه اتساعاً من شدة الذهول.. وجهه تحول إلى لوحة مشدوهة الملامح.
الشال الصوفي الرقيق، المزغرد بالابتسامة البيضاء المشرقة، والذي طوق عنقها بشياكة.. لم يستطع إخفاء تقويرة الكنزة الحمراء، التي تبرز سفحي نهديها العاجيين الموردين، وتنورتها (الميكروجيب).. انشمرت كاشفة نصف فخذيها المكتنزين بحمرة متوهجة.. يتلامعان تحت جرابين من (النايلون) الشفاف.. بلون البن المحمص.
لحظات من الصمت الجاثم على شفتيه أرطالاً.. منعته من الترحيب بها.! صوته عبر الهواء بعد حين، وهو يصافح يدها الحارة بدفق من دم ساخن، غض: -أهلاً (قمر).
هبطا الدرجات القليلة، ودخلا في خفوت ملون لمصابيح النور، وضباب نشرته السجائر المتوهجة كنجوم صغيرة تشع هنا، وهناك في فضاء هذا (النايت كلوب) من بعد ظهر يوم ربيعي دافئ. فاجأها بسؤاله:
-ألم تغالي كثيراً.. أنت نصف عارية.!!
-يبدو وأنت تعسكر في تلك البقاع الجافة، البعيدة عن الحضارة.. أنك لا تعيش العصر.! إنها الموضة يا صديقي.. أو أنك إنسان رجعي التفكير.. وغيور..!
رغم تحفظه على ما ترتديه.. إلا أنه اعترف بسريرته.. أنها تبدو أكثر أناقة وإثارة عما كانت عليه في لقائهما السابق.
تحدثا في معنى التحرر، والدين، وأحكامه في المرأة.. سلوكاً، وثياباً.
قالت بكل وضوح: -إن الفتاة المحصنة بالعلم، والعقل الراجح، والخلق، لا يعيبها ما ترتديه، وأردفت: -في الجامعة كثيرات هن الفتيات اللواتي فرض عليهن الأهل ما يرتدينه.. تارة باسم الشرع، وتارة باسم الخوف من المجتمع.. وحكي الناس. في قرارتهن لسن بمقتنعات، ولكنهن يخشين المواجهة، والتصريح.. لي ابنة خالة ما إن تصبح بعيدة عن حيها تخلع حجابها، وتخفيه في حقيبتها ومثلها تفعل العشرات.. لقد مضى عصر الحريم يا صديقي!.. إنني لا أختلف عنك مقدرة، وعلماً... أنظر هناك.. وأشارت بعينيها إلى فتاة جالسة بالقرب منهما: -لولا الحلق بأذنيها لخلتها شاباً.. بشعرها، وثيابها. وعندما أجاب.. أن الشرع وضع حدوداً لعورة المرأة. انتفضت قائلة: منذ قديم الزمان، ارتدى البشر ثيابهم حسب الجغرافيا.
فتحت حقيبة يدها.. تناولت علبة تبغها.. أشعلت سيجارة.. نفثت دخانها بهدوء، وهي ترمقه مستكشفة. جاء النادل.. بعد سؤالها.. طلب فنجانين من القهوة.. تسلل الدخان إلى عينيه.. فركهما، وتساءل: -وما علاقة الجغرافيا بالثياب؟!
قالت متبرمة: -دعك من هذا شرحه يطول.
أحس بانزعاجها، ولكنه أعاد السؤال قائلاً بإصرار، وسخرية مبطنة:
-من عِلْمِك نستفيد.!
-الجغرافية تعني أيضاً المناخ.. فلنأخذ الصحراء مثلاً.. أشعة الشمس المحرقة اضطرت الإنسان لوقاية رأسه بغطاء.. الرجل كما المرأة.. والثوب الطويل الأبيض اللون، والفضفاض، يعكس الأشعة، ويسمح للهواء بالدخول إلى الجسد ليبقى رطباً.. وجاء اللثام بمثابة الكمامة لاتقاء الغبار، والعواصف الرملية.. أما الإنسان الإفريقي فقد تحرر من ثيابه.. أو بالأحرى لم يرتد منها إلا ما يستر عورته.. وخاصة من كان يعيش بقرب خط الاستواء.. الحرارة، والجو المشبع بالرطوبة التي تسببها كثرة الأمطار، والغابات التي فرضت على جسده أن يبقى دبقاً.. وخذ الأسكيمو، وطراز لباسهم.. إلى آخر الأمثلة.. وهذا جرى قبل أن تقول الأديان كلمتها بآلاف السنين.
قال وهو يحدِّق بعينيها: -إلام تهدفين في النهاية؟
-أن تقرأني قراءة واضحة، شفافة.. إني هنا أدافع عن الشمس، عن مشروعية الضوء، عن الوضوح.. فأنا عاشقة للنور.. أكره الظلمة.. هل تعلم
بماذا أحلم؟ أحلم بالحق، بالعدل، بالحرية، بالمساواة.. تسود مجتمعنا.. أحلم بسيارة بيضاء بمنزل مدهون باللون الأبيض.. مفروش بأثاث أبيض.. لأن ذلك يشبه لون روحي.
في شلال كلامها.. بهره الألق الذي يشع صراحة، وصفاء، وجمالاً.. أثمله عبق عطرها، واعترف في سره.. أن منطقها، وتفكيرها، صافيان كينبوع نقي التدفق. أراد ضمها، ومعانقتها.. إلا أنها ابتعدت عنه بخفة.. دهش لتصرفها، وشعر كأنما جداراً ضبابياً.. بارد الملمس، فصله عنها.!
في داخله.. أخافته جرأتها، وصراحتها القاطعة كحد السيف، وعشقها لحريتها المتفجر كبركان.!
في مجتمعاتنا.. معظم الناس.. يقولون ما لا يفعلون، ويؤمنون بما لا يصرحون لعلها التربية الخطأ، والتعليم الخطأ، والكم الهائل من موروث الخوف، والتعصب والتقاليد، والعادات.. التي تحكم رقابنا.. لكن هذه الفتاة.. شلال هادر من الوضوح، والشفافية.!
فكر، وهو يتأملها.. هل يجرؤ على تحدي هذا الواقع مع زوجة مثل هذه.؟؟ سلوكه الاجتماعي، العسكري.. المراقب بدقة من أسرته، أقاربه، أهل حيه، طبيعة عمله، لأول مرة.. أحس أنه يجبن أمام اقتحام عالمها الفسيح، وبحرها الهائج الأمواج، وسمائها المشتعلة بشهب جرأتها المتعبة.
بميزان إحساس المرأة.. لمست هزات التردد الوجلة.. تتماوج في فكره، وقلبه. أرادت أن تبعده عن الموضوع.. تساءلت: -سمعت أنك قضيت مدة في السجن.. السبب.. إذا لم يكن ذلك محرجاً؟
مموهاً جوابه، قال: -تأخرت بنجدة فدائي جريح.. أصابه الصهاينة في ساقه.
-آه يا إلهي.. لعله (وفا) قريبي.. إنه يقضي نقاهة في منزله للسبب عينه.!
-وأين يقطن قريبك هذا؟.. سجَّل عنوانه، ورقم هاتفه، وقال لها.. أنه سوف يقوم بعيادته. بقيا صامتين لفترة.. بدت وكأن كل منهما يعيش في عالمه الخاص. فاجأته بقولها:
-اسمع يا أمجد.. لقد استطعت أن تأخذ حيِّزاً من عواطفي.. وكان من الممكن أن ترتقي إلى رباط من الحب أبدي.. ولكن ما بدا لي أنك لست النسر الذي أحلق بجناحيه إلى الأمداء التي أعشقها، ولست المقاتل الصلب الذي يحطم متاريس التخلف، ولست إلا عربة مقرونة بقطارات مهترئة تعبر مسافرة إلى محطات خلفية.!
دافع عن آرائه.. حاول إقناعها بكل حجة ممكنة.. قال لها:
-في نمط سلوكنا، وعاداتنا.. الكثير من مساحات الزهور الرائعة، الفواحة.
-لعل في بعض ما تقوله حقيقة، ولكن المياه الجارية، المتغيرة.. لا تأسن أبداً.
-حسناً.. فلنترك لعواطفنا، وتفكيرنا فرصة أكبر للقاء.. أعتقد أننا في النهاية سوف نصبّ في خليج واحد.
-أرى أن تبحث لك عن فتاة لينة، مطواعة.. تجبلها أناملك كما تريد، إن كنت في عجلة من أمرك.. وإلا فلندع للأيام الحُكْم بيننا.. أغادرك الآن، وصداقتنا مستمرة بالخفقان.. مع نسائم الأخوة.
أجهش وجهه بالحزن.. يدها تركت يده.. دفعة واحدة.. معلنة نهاية قصة حب نبتت أوراقها، ولم تزهر.
...
قام بالتعريف عن نفسه... الصوت ذو اللكنة الأجنبية.. الذي سمعه عبر الهاتف.. أدهشه.. خيل إليه أنه أخطأ الرقم.. أعاد السؤال مؤكداً: -منزل السيد (وفا)؟.. وجاءه الجواب: -نعم.. لست مخطئاً.
-أرغب بزيارته للاطمئنان عليه. فترة صمت مرت... -في الوقت الذي يناسبكم.. إنني في إجازة.
-نرحب بك.. السادسة من مساء الغد.. عنوان البيت.. تعرفه.. حسناً.. أهلاً وسهلاً.
هل يرافقه أحد.. صديق.. قريب.. فكر بالاتصال بالملازم أول جهاد.. عاد وحزم أمره.. لن يرافقه أحد.. ارتدى بزة مدنية، وانطلق.
مخيم فلسطين في دمشق... أزقة ضيقة، متعرجة.. تتداخل معتمة في إقسومات عدة... لا يمكن للمرء أن يرى نهاية لها. رأى فيها.. كل تعرجات وظلمة قضيتهم، وصراعهم منذ حل الصهاينة بوطنهم. قال محدثاً نفسه:
-بل إننا جميعاً نسير في دروبها الوعرة، الشائكة، الملتفة، كمتاهة.. أريد لنا ألا نخرج منها.. حتى نفقد القدرة على تطوير بلادنا، وتنميتها.
فاجأه الاستقبال المُرحِّب.. نهض، صافحه بحرارة، وقال موجهاً الكلام لها: -هذا هو الجاني الذي حدثتكِ عنه.
والشعور بالذنب ما زال يتنفس في صدره.. ناظراً إلى يديها كي لا يخطئ الخطاب: -أجل آنستي.. أنا هو.
لم يلاحظ سواهما في المنزل.. الغرف الثلاثة مرئية بأبوابها المشرعة. الفرش بسيط، على جِدته، وأناقته.. بعض طاقات الورد التي ذبل قسم منها ما زالت تحمل بطاقات إهدائها.. تناولت منه الورد شاكرة.. لقد حرص على أن تكون فخمة، وملفتة.
ما زال كما هو بشعره الطويل.. المرتاح على كتفيه.. أسود لامعاً، كجنح الغراب، وبعينيه الواسعتين، البراقتين، وبجسده المتشامخ، الرشيق.
قدَّمها له: -أختي ليلى.. مدرسة أدب انكليزي.. قضت طفولتها، وصباها مع أمها البريطانية الأصل في لندن.. وبعد وفاة أمها منذ عامين.. قررت العودة إلي هنا في سورية. إنها تحمل الجنسية البريطانية.
بدا النقيب أمجد متلجلجاً في بداية حديثه، ولكنه استعاد سيطرته على كلامه واسترسل موضحاً ما جرى بشكل منطقي.. مقنع.. وبعد تردد أخبرهما أن عقاب ضميره.. كان أشد من سجنه.
انطباع مريح غلف وجهيهما.. وشع في نظراتهما.. مرسلاً إليه تفهماً وقبولاً ودوداً. شخص مختار قرية عابدين.. أخذ مكانه بينهم بانفراجات طريفة، مضحكة، إلا أنه أعلن لهما بثقة.. أن رفقة ذلك العجوز مفيدة، وممتعة ومسلية.
قال وفا، وهو يمضغ قطعة تفاح: -سوف أزور ذلك المختار بعد عودتي إلى القاعدة. قدَّر أن وفا قد تجاوز الثلاثين من العمر.. تساءل مستوضحاً:
-أرجو ألا أكون متطفلاً.. لماذا لم تتزوج حتى الآن؟! قال ذلك وهو ينظر إلى يديه اللتين خلتا من أي شيء يلمع. ردت عليه ضاحكة: -لقد تزوج القضية.! نظر إليها مؤنباً، وقال: -ألا ترى أن الزواج لمن كان على شاكلتي غاية في الصعوبة، على الأقل لمن ستبتلي بي..! على أية حال لنا هدف صممنا على المضي إليه... هو.. أرض شعب، وكرامة شعب، وحق شعب، ومصير أمة غافلة.. وأنا بشكل خاص لي ثأر كبير.
قال أمجد معمِّماً الأمر: -نادرة هي الأسر التي ليس لها ثأر عند العدو الإسرائيلي!
-صحيح.. لكنني تركت أمي، وأبي هناك.. عند طبريا شهيدين لم يدفنهما أحد وصارا طعاماً للكواسر.!!
-إنني آسف جداً.. لقد ذكّرتك بأوقات حزينة مؤسية.
وقف وفا، ونظر إلى صورة معلقة على الجدار.. فيها رجل، وامرأة وطفلان يضحكان، وهما في حضنيهما.. قال وفا: -كنت يوم ذاك في الخامسة من عمري، وأختي زمردة في السابعة.. وهي متزوجة الآن في الأردن.. طفلان جائعان.. يرتجفان خوفاً، وهلعاً بين الصخور.. واقفان يبكيان، وليس لهما معين.. ينتظران وحيدين عودة أمهما التي رجعت بالزورق إلى الشاطئ الفلسطيني، لتنقذ زوجها.. ولكنها لم تعد.!.. عطف علينا الفلاحون السوريون، وأنقذونا، وحقيبتين هما كل ما نملك. نظر إلى ضيفه قائلاً: -آسف لاندفاعي في سرد آلامي. ثم إلى أخته قائلاً: -ليلى قهوتها مميزة.. ما رأيك؟
-على شرط.. بالمناسبة، هل أصبحت قادراً على المسير.؟
-أجل، ولكن لمسافات قصيرة.
-حسناً.. اشرب القهوة إذا قبلتما دعوتي للغداء، أو العشاء في نادي الضباط.
-حسناً.. أيها الرفيق النقيب.. ليكن عشاء.. ليلى تهوى الليل، والسهر.
تملاها وهي قادمة بالقهوة.. عينان تشعان وميضاً عميقاً، آسراً. جمال هادئ، رزين في الوجه.. لكنه يسجد مشدوهاً، خاشعاً، أمام التدفق الصاخب في الجسد المتناسق، والقد المائد.. الثائر، في الصدر المتوثب النهدين.
تلك الليلة، وفي دفتر مذكراته كتب:
ليلى.. أيتها النخلة المخضلة بالصوت العذب..
المتأود شلالاً من رفيف الموسيقى..
أيتها الحقول الذهبية.. المتماوجة كخصلات شعرها..
أيها الفجر المبتسم.. لخطواتي المقتربة من محرابها..
خذوني، وازرعوا قلبي سنبلة عطشى للحب.. في سفوح نهديها المتدفقين.. بعصير العسل.
جلست بقربه.. منارة متلألئة بالألوان الزاهية، وهي تطل شقراء، مشعة على محيط شرقي أسمر.. حقل قمح قطف حزمة من نور الشمس، يتوِّج رأسها وبحر مخملي، مشجر، يرسم خليجاً مرمرياً عند صدرها، تتثنى عند حوافه أمواج متكسرة من الدانتيلا السوداء، تناثرت في ليلها نجوم ذهبية صغيرة، براقة، وذراعان بضَّتان، موردتان، تحررتا بأناقة، وليونة خلال المخمل الناعم.
سهام الإعجاب ترشق المائدة الثلاثية.. تتناثر من بعيد، وقريب، باتجاه الغادة المشرقة. تعمد العديد من زملائه، ومعارفه تحيته بإشارات ملؤها الغيرة، والحسد لهذه الصحبة الفاتنة.
تحدثوا في الموسيقى، والأدب، والرياضة.. بعد أن رجتهما الابتعاد عن السياسة.. أخبرته عن طفولتها، وحياتها، وهواياتها، وعادات المجتمع البريطاني.. حبه للنظام، ودقته في العمل، وأداء الواجب، واحترام القانون، وحرية الإنسان، والنظافة التي يحرص عليها الجميع في كل مكان.
لقد أنشأتها أمها الجميلة، على عشق اللغة العربية.. كانت تتكلمها، وتكتبها. ربتها على حب الشرق، ولكم حدثتها عن دفئه، وسحره، وحضارته.
أخبرته عن (صالون) منزلها في لندن.. وتباهيها أمام أصدقائها، وصديقاتها بالصورة الجدارية الفخمة لوالدها الفلسطيني، وبالقرب منها صورة لزوج أمها البريطاني، الكابتن (فيليب) الذي تتلامع على صدره الأوسمة العسكرية.
لكن حديثها لم يكن يزهو، ويتفتح في عيني أمها.. بريقاً، متألقاً بالشوق الخافق، الحزين إلا عندما تحدثها عن والدها (أبو الوفا) لقد منعت الحكومة البريطانية أمها من العودة إلى فلسطين بعد مقتل زوجها الكابتن فيليب، المتهم بالتعاطف مع الفلسطينيين حتى رسائلها إلى حبيبها أبو الوفا حجبت، والحقيقة أن الصهاينة كانوا خلف ذلك انتقاماً منها بعد أن اكتشفوا علاقتها بالفلسطيني الشامخ، الذي رفض أن يكون عميلاً لحكومة جلالتها.
كانت أمي تجلس ساهمة، وهي تحدق بصورته:
-ماذا أخبرك عنه يا بنتي.. صوته الذي يتوزع في شراييني. عنفوانه المتدفق كشلال في حقول جسدي.. بحار صخبه الهادرة.. صمته المتدلي من جبينه كالتعب اليتيم.. إنه وشم لا يزول، طُبِع على شغاف قلبي.. حب أبدي لعرزاله، لزورقه، لتراب بلاده، ولأسماكه المتقافزة في شباكه، عند شاطئ طبريا التي شهدت ولادة حبي.
حديث ليلى.. هذه الغادة نصف الأوروبية، ورؤياه لها.. أيقظت في ذاكرته سنين خلت.. فتاة "ديرية" سمراء يافعة، يانعة، كثيرة الشبه بها قداً وجمالاً، والتي فتّحت فيه بواكير الرجولة الغامضة، المتدفقة، بولادة غضة، ساذجة، وحرضت فيه حباً للموسيقى، والأدب، وعلى قمته الأدب الروسي الذي ترشرش في وجدانه، وعقله، كزخات مطرية ناعمة، فنمت في روحه رياضاً إنسانية، رائعة، عن الحب، والوطن والطبيعة، والتضحية، والحب.
...
غفا وخياله يطارد طيفها في مروج شاسعة، مخضرة، تهب فيها روائح عطرية، آسرة، وتصدح في أمدائها ريح طرية، ناعمة، تعزف ألحانها على قيثارة سحابة مبتسمة لشعاع الشفق. عندما استيقظ تمطى قبالة نافذة (قمر) المشرعة. رآها، حياها كعادته. دخلت أخته.. سألت: كيف حال الغرام؟ أجابها: -طار إلى زهرة شقراء.
على مائدة الإفطار، قال والده: -كم تبقى من إجازتك؟
-أربعة أيام.
-(شو رأيك).. برحلة لصيد الحجل، إنه موسمه.
-متى.. وأين؟
-إلى اللجاة، وخاصة أنك لم تدخلها أبداً.. غداً مع الفجر نكون هناك.
تدبر والده بندقية صيد ثانية. عندما ناما كان كل شيء جاهزاً لانطلاقة الغد.
اللجاة هذا الركام الهائل، المتوحش، المتبرد، من الحمم المندفعة من أفواه الجبال، وخاصراتها المحتقنة بالغضب الجحيمي، التي رسمت في المدى ومنذ آلاف السنين.. لوحات الوعر المذهلة، القاسية، المتوشحة بالرهبة.
مساطب، ومدرجات، وشقفان، وحقاف ملتوية، متقاطعة بالمسيلات والجروف، وقد تلونت خدودها، وجباهها بالطحالب المفروشة بألوانها المتعانقة، والتي تزهو بقبل من شعاع الشمس. وقد برزت من شفاه الصخر النبتات، والأزهار البرية المنداة، وتلألأت في عيونه مياه شفافة خلفها المطر.. تترجرج بفعل هبات النسيم البارد، المنعش.. في تلك الإشراقة الربيعية لذلك اليوم.
دخلا بطن الوعر.. لم يعد يراه، لكنه.. بعد مدة سمع دوي طلقته الأولى.
هبط منحدراً قاسياً.. أخذه إلى منبسط دائري واسع، التهبت خدوده بأجمات نارية من زهور شقائق النعمان، تطل متمايلة.. مع دفقات الريح.. من بين الأعشاب الندية الخضراء. وتسامقت حول المنبسط.. صخور عالية كالأسوار، وقد ملأتها الشقوق العميقة.. كل شق يتسع لجمل.! إنها قلعة من الصخر!.. قال متعجباً.
سمع شقرقة طيور الحجل.. تربص.. تقدم حذراً.. من أمامه، ومن مسافة قريبة.. طار رف في تحليق مصفق، مفاجئ. صوَّب على أكثف تجمع.. أطلق.. سقط ثلاثة طيور.. صرخ فرحاً.. بلا عناء التقط اثنين. أما الثالث فقد وجده بعد جهد متخفياً، مكسور الجناح، تحت نبتة شيح كثة.
كانا قد اتفقا على الالتقاء عند الواحدة للاستراحة، وتناول الطعام، نقطة الإزدلاف منطار عال من الحجارة شاهداه منذ لحظة انطلاقهما.
خرج من الحصن الصخري. نشطت هبات الريح. انتعش صدره بعد هذه الخنقة في ذلك الجرف. ذهب بصره بعيداً خلال هذا البحر الصخري بأمواجه الساكنة، العابسة.
حكايا، وحكايا، سمعها عن معارك، وأهوال دارت على جسد هذا البازلت. تتمترس خلف صخوره عيون البزاة، ويتردد خلاله زئير الأسود من ثوار الجبل الأشم.. تنقض حاملة الموت على شفارها القاطعة، وبلطاتها الباترة، تفتك بشجاعة خرافية بجيوش الترك الظالمة والفرنسيين المستعمرين. في تلك الأيام التي دخلوا فيها رحم الوعر ترصعوا بالصلابة والبأس، وعلى مراياه التي تألقت بالنور، أضاءت أرواحهم بحب الوطن، وأصبحت أقدامهم راسخة، ثابتة، منغرسة فيه. لم تزحزحهم قنابل المدافع، ولا الشلالات الملتهبة من أفواه الرشاشات.
أما متاهات اللجاة فكم كانت حانية، تدرأ بصدورها الصلبة صليات الموت عنهم، وتسقيهم من حقافها الحانية ماء الحياة.
أوغل في مساره.. فوجئ بذئب يعوي عواء ناحباً، وهو يتمدد على جنبه فوق فسحة معشوشبة. الذئب لم يتحرك برغم تقربه منه. حدس أنه يعاني من أمر ما.. أدهشه ما رأى.. ريشة نيص انغرست في محجر عينه.. قرر أن يخلصه من عذابه. غادره مهشم الرأس، وهو يقول لنفسه: -وللحيوانات الضعيفة أسلحتها القاتلة أيضاً.!
اصطاد زوجاً آخر من الحجل.. المنطار أمامه.. قطع المسافة المتبقية وبعد دقائق قليلة جلس والده بجانبه. فتح براد الشاي.. وشربا بتلذذ كأسين ساخنين، وهما يهزجان فرحاً بتسعة ديوك من الحجل.
فرشا طعامهما، وبدآ يلتهمان غداءهما بشهية التعب الجائع. كان أشهى ما في ذلك الطعام نبتات العكّوب، والدردار، وقرص العنة التي جمعها والده أثناء تجواله. الماء المتجمع في حقف صخري، كان أطيب ماء شربه أمجد.. بارداً، شفافاً، كقطر الندى.. كما قال لوالده.
هجعا تحت ظل صخرة متشامخة بجبروت عملاق. من المحتمل أنهما غفوا في تلك اللحظة الهادرة، الراعدة، المزمجرة، التي مرقت فوقهما تماماً، وعلى ارتفاع قليل منهما، وكادت الريح العاصفة التي أحدثها هذا السرب الجامح أن تقذفهما بعيداً.! أصاب الصمم المؤقت آذانهم. تابعا بنظراتهم تسلق الطائرات نحو السماء، التي اتخذت شكلاً سهمياً.
(ميغ 21) صاح أمجد. بعد قليل، وفي عين الشمس، واضعاً يده فوق عينيه، قال أبوه: -إنها معركة جوية، والعدد لصالح العدو.
صفَّق النقيب أمجد فرحاً: -هناك طائرة تهوي محترقة.. ها هي تنفجر في الجو.. ضربة معلم.!
قال والده: -لم أشاهد الطيار يقفز منها.. لا بد أنه احترق معها.
-انظر يا أبي.. ها هي الأخرى تشتعل.. إنها من طائراتنا.
رد أبوه بحزن: ها هو الطيار يقفز منها.. أرجو ألا يكون مصاباً.. مظلته فتحت.. الريح تدفعه باتجاهنا.. سوف يسقط قريباً منا لا محالة.
لملما حوائجهما، واستعدا للانطلاق إلى المكان المحتمل لهبوطه. نظراتهما ترافقه بخوف.. جسده يتأرجح في هتاف الريح.. مجهول كأسرار السماء ينزل.. إلى أرضه الحانية يتحدر.. وحب تتساوى فيه مفردات الألم تحتويه.
-إنه ينزل إلى الحصن. قال أمجد هاتفاً.
-أي حصن هذا إني لا أراه؟
-ستراه.. هيا بنا.
هدير الطائرات الصديقة يرج الهواء فوقهما.. يبدو أن المعركة الجوية انتهت.. عشر دقائق مضت، وهما يقفزان فوق الصخور، وديوك الحجل تتأرجح على فخذيهما. وصل النقيب أمجد أولاً. مظلة الطيار مشتبكة بسنام صخرة أكثر ما يشبهها.. الفيل.. وجسده معلق في الهواء على ارتفاع يقارب الثلاثة أمتار.. يبدو أنه قد أغمي عليه.. يوجد دماء على صدره، وكتفه.. قال أمجد:
-الوصول إليه خلال هذا الجدار الأملس مستحيل.! لنحاول تخليص مظلته العالقة، وننزله ببطء.
بواسطة سكين قطعا الحبال المعيقة، واستطاعا، وهما يلهثان تحرير "النايلون" الملتف، واضعين كل عزمهما كي ينزل بهدوء.
جسداً ممدداً، استقبلته الأرض على فراش مندى من الأعشاب.
خيط صغير من الدم ما يزال ينبع من كتفه. رش أمجد الماء على وجهه إلا أن الطيار لم يستجب إلا في رشقة الماء الثانية.. أين أنا؟
-إنك في أمان، ولست بعيداً جداً عن قاعدتك. قال أمجد.
والده ذلك الجندي القديم، الذي يحسب حساب كل شيء، فتح حقيبته أخرج قطناً وشاشاً، ومطهراً، ولاصقاً. كشف عن جرحه.. إنها طلقة نافذة خرقت الكتف. أحزمة المظلة ضغطت الثياب عليه، فخففت من النزيف.. طهر الإصابة، وضع القطن، والشاش، ثبتها باللاصق، ثم قال مبتسماً:
-إذا لم يكن يؤلمك شيء آخر، يمكنك المسير.
ساعدا الطيار على الوقوف. شاب.. قدراه في الخامسة والعشرين من العمر. ربع القامة، نحيفها، خيل لأمجد أنه يستطيع حمله حتى الطريق العام، وبلا كلل. سمعا هدير حوامة.. ها هم يبحثون عني. صعد أمجد إلى الأعلى برشاقة، وخفة قط بري، شاهد الطائرة تحوم إلى الغرب منهم، وهي ترسم في الهواء حلقات التفتيش الدائرية.
صاح عليهما: يجب أن نشعل ناراً، الدخان سيهديهم إلينا. قال الطيار بصوت خافت، عليل، لكنه كان مسموعاً إليه: لديّ شهب إشارة.
أخرجها والده من سترة الطيار، وقال لأمجد: عندما تستدير الطائرة باتجاهنا.. أنذرني. شد والده الخيط، فانطلق الشهاب في الهواء أرجواني اللون، وهو يرسل نجوماً متناثرة، متلألئة.
لم يكن هناك حاجة لإطلاق شهاب آخر، لقد اهتدوا إليهم.. مكان مثالي للهبوط.. وسط هذا البحر الصخري.! قال قائد الحوامة.
قدم الطيار الجريح نفسه إليهما: -الملازم.. غازي.. سأذكر دوماً مساعدتكما لي.
حمل اسم هذا الطيار النقيب أمجد.. إلى طيار آخر، أو بالأحرى غازي آخر.. لسوف تمضي السنون، ولن ينساه.. يومها ساعد الضفادع البشرية بعد أن انتشلوه من مياه بحيرة طبريا.. ممدداً على الرمل بوجهه الأزرق المنتفخ، وعينيه المفتوحتين، اللتين تحجرتا في سكون أزلي.
الأمر مضى عليه أكثر من خمس سنوات.. تقدمت الزوارق الإسرائيلية اقتربت من الشاطئ السوري، واحتدمت معركة كبيرة، أذنيه حتى الآن تدوي بصيحات الفرح بين جنود فصيلته لتدخّل الطيران الصديق الذي هاجم الزوارق المعادية. كان الطيار غازي فريداً في هجماته.! في الانقضاض الثالث له لم يستطع الخروج منه لأنه كان انقضاضاً عمودياً فانغرز مع طائرته في الماء.
طبريا، البطيحة، الحمة، فيق، والخنادق، والتحصينات، والدشم، لقد شارك جنوده في حفرها، وتجهيزها عمل معهم في الصيف، والشتاء، أمسك بالمعول، وضرب الأرض بالمهدة.. فلق الصخر لقد تعاونوا في تجهيز تلك المواقع، وسقوها بعرق أجسادهم. إنه لا يزال يذكر كيف قاتل جنوده في معركة الزوارق. لقد كانوا أبطالاً، لا يهابون شيئاً.
مع رجال أمثال هؤلاء.. كان يجدر بنا أن لا نخسر الجولان.!! وبمثل ذلك العار.!! وتذكر أمجد ما قاله له ذلك القائد، الزيتي الوجه، في اجتماع للضباط، وهو ينفش ريشه، وكان ذلك بعد النكسة بشهر واحد عندما سأله: -كيف خسرنا الجولان بتفوقه الطبوغرافي، وتحصيناته ونحن في وضع دفاعي.!!
-أيها الملازم.. الجبهة السورية.. كانت (خرابيش).
هذا الجواب المهزلة.. الذي قاله ذلك القائد الطاووسي، فاجأ جميع الحضور. تمنى أمجد حينها لو يبصق في عينيه، وقال لزميل له، يجلس بجواره: -إن كانت كذلك طيلة السنين الماضية، لماذا لم يحسِّنها، أو على الأقل لماذا لم يتكلم..؟!!
وعندما حكى لجده عن ذلك، ابتسم، وقال:
-المقاتل يا ولدي الذي صمم على النصر، أو الصمود حتى الشهادة يقاتل بأسنانه، ولا يهمه المكان، أو الظرف.
ويذكر أنه أورد مثالاً عن الثائر الأعزل الذي اقتحم الجندي الفرنسي رغم الرصاص المنهمر، وكما روى (قرَط جوزته بأسنانه، وأخذ سلاحه) ولا يزال يحفظ حداءه (العدو حِنّا نجيه، ولا يجينا). وختم الجد كلامه:
-يا بني.. يموت الرجال دفاعاً عن كلمة قالوها، أو كلمة قيلت لهم أو من أجل مبدأ اعتنقوه، أو وعد قطعوه، فكيف بالوطن..؟!!
...
كانت الشمس قد توارت منذ وقت بعيد وراء العمائم البيضاء لمرتفعات جبل الشيخ.. السماء في زرقة لامعة، وهنا، وهناك، سكنت بلا حراك سحب صفراوية، وبنفسجية، بدت وكأنها قطع ضخمة من الصوف المندوف، وعلى الأرض حل غسق ثقيل، بارد.
في تلك اللحظات كانت سرية النقيب أمجد جاهزة للتبديل مع السرية الصاعدة. شعر بالسعادة، فعزلته التي دامت ستة شهور في قرية عابدين قد انتهت. ولسوف يكون أكثر إنسانية بالتواصل مع زملائه الذين حن إلى سهراتهم، وأحاديثهم، ومزاحهم، ولم يخطر بباله أبداً أن ذلك لن يكون لوقت طويل.
تم التبديل، وعند منتصف الليل كانت آلياته المحملة بالجنود والسلاح، والعتاد، تتحرك ببطء إلى مقرها القديم في منطقة قرية الشجرة لتنضم إلى قوام كتيبته المعسكرة هناك. الأنوار الحربية الخافتة تكشف محور التحرك.
قائد اللواء.. الرجل الذي عسكرت الجندية في أدق خلاياه، بوجهه الذي لا يضحك للرغيف السخن كما يقولون عنه.. يقلِّب بأوراق إضبارته، ناظراً إلى الصفحات الممتلئة بالوصوفات، والمعلومات عنه. سمعه يقول: دورة معلم صاعقة، قفز مظلات، قائد سرية، ما كتبوه عنك جيد.
تابع، وهو يحيطه بنظراته: -لقد اخترناك يا أمجد كقائد معسكر تدريبي لعناصر مهمات خاصة، وعلى مستوى التدريب يتوقف نجاحهم في مهامهم، بل وحياتهم. إن أثبت جدارة في مهمتك.. سأناقش القيادة ترقيتك مع أبناء دورتك. توقف قائد اللواء عن الحديث معه.. لدخول أحد الضباط وقّع على أمر قدّمه له، وغادر المكان.
الأمر سري للغاية أيها النقيب. هذا برنامج لدورة مدتها ثلاثة شهور. ضع ملاحظاتك عليه. سنناقش أفكارك غداً في الثانية عشرة. شد أمجد قامته.. حياه، وانصرف.
...
إنه لم يعزف بعد أي نشيد رجولي.. فوق أية منصة حارة لصدر امرأة. | |
|
قمرية
نقاط التميز عدد المواضيع : 69 نقــــــــاط : 85 تاريخ التسجيل : 18/02/2010
|
| صلاحيات هذا المنتدى: | لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| |