منتدى الشواجرة
منتدى الشواجرة
منتدى الشواجرة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى الشواجرة


 
الرئيسيةبوابتيأحدث الصوردخولالتسجيل

 

 الرقصة الاخيرة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
قمرية

قمرية


نقاط التميز
عدد المواضيع : 69
نقــــــــاط : 85
تاريخ التسجيل : 18/02/2010

الرقصة الاخيرة Empty
مُساهمةموضوع: الرقصة الاخيرة   الرقصة الاخيرة Icon_minitimeالثلاثاء فبراير 23, 2010 8:37 am

أقدامهم في لهاث الأرض تكافح، وتنزلق، وفي
أيديهم المتخشبة، أخاديد الحصاد المتواضع لسنابل القمح، والشعير، يشمُّ منها رائحة
مرارة الفقر، والدم والقروح.. بيوتهم الطينية الواطئة، ذات الأبواب الخشبية المُفلَّقة،
بمطارقها البرونزية الثقيلة، تغصُّ بالعديد من الأطفال الحفاة، الباكين،
الصارخين.. المشعثي الشعر، الباحثين بلهفة عن الشبع، وقطعة الحلوى، وكرات المرح،
في الأزقة المغبرة تارة، والموحلة في معظم أيام الشتاء تارة أخرى.. يتجول فيها
الذباب، والبعوض، والمرض.



والموت المتعطش دوماً لأراوح الصغار، يتقحم في
براءة الليل، وعند وميض النجوم، وصوت المطر، وعويل الرياح.. يحصد الفقراء المتعبين
في هذه القرى البائسة، المتناثرة على الكتف الشرقي لوادي الرقاد.. حيث النسوة لا
تبدل (شروشها) المهترئة السوداء، المناسِبة، لكل مناسَبة.



أيدي الصبايا المصبوغة بالحناء، من أجل طقوس
احتفالية، لزفاف ساذج قسري، يدخل في مسامات عذابات صراع فض البكارة، المعلن
بالزغاريد المحتشدة خارج الباب، وعلى العتبات المخلّعة، وصراعات نيل اللقمة..
وانهيارات الأحلام المتواضعة في الأزمنة الصعبة.. فتنقلب الحناء إلى مزيج من ألوان
قبيحة الرائحة.. يفحها روث البقر، من تحت أناملهن، وهن يصنعن من الزبل أرغفة لشدق
الشتاء.. فوحش الصقيع، سيقبل مزرق الشفاه.. يلسع الأجساد بسياطه البرقية،
المفرقعة.. فتصبح وجوه الشباب، مصاطب لساحات صاخبة بالهجرة المتواصلة، المسافرة،
إلى مفاصل المدن الكبرى.. تهرس ظهورهم برادع العتالة، وتسلق السقالات، والتأرجح
عند مصاطب الغيم.. تنخر أسنانهم علب السردين الزنخة، وتنفخ بطونهم أقراص الفلافل
المتسخة بالزيت الأسود المحروق، وتفح أفواههم بنتن حثالات التبغ.



شهور طويلة أصابته بالإقياء من هذه القرية البائسة
(عابدين).. حلم بإجازة يستريح فيها من عناء الأوامر، وإيعازات التدريب، ومشاكل
عسكريّيه التي لا تنتهي.



الرجاء الذي تقطَّر من كلمات والده، الذي هاتفه
منذ أيام.. فجر في صدره حنيناً إلى جسد المدينة، وشوارعها، وزحامها.. يتنفس فيها
الأكسجين المشبع بغاز الفحم المنبعث من عوادم السيارات المتراكضة.. يتدافع في
الشوارع مع الوجوه المكتظة، اللامعة، المدهونة بالدسم.



لقد يبسته الوحدة الموحشة في الأزقة الضيقة،
المتعرجة، الصامتة، كوقع الضوء المنزلق في الفراغ حين يلامس صدر الأرض العتيقة،
التي عجنت ترابها دموع السماء.



ظله وحده يرافقه.. يقصر، يتطاول، يختفي، ينكمش،
يسرع، يتوقف، يتأمله في بلاهة، لا يسمع فيه إلا حواراً ذاتياً، مالحاً، لا طعم له،
ولا لون، فتتكور الكلمات في فمه فقاعات صابونية.. تلذع حنجرته.. تستدير، وتعلو
مبتعدة، تأخذ أشكالاً مبهمة، وتتفرق متلاشية مع مجيء الليل المتثائب، فيغرق في
أحلام أنثوية تغمره.. فيصحو مع ابتسامة الفجر.. تضغطه الجدران التوتيائية لبراكته
العسكرية.. باردة، متجمدة، فتتشلق صقيعاً موحشاً في ذلك الشتاء الذي لم يسبق له
مثيل منذ سنوات.



الأفق الصباحي لم يعد له وجود.. ستائر الضباب
تلف كل شيء.. حاول من نافذة براكته رؤية خارجها.. حتى أشجار الكينا الباسقة،
المتشامخة بانتظام على الصفين عند مدخل مكتبه.. اختفت بين الذرات المعلقة في
الهواء، لتلك العباءة الندية، اللامعة، البيضاء.. التي تعلن عن قدوم يوم دافئ..
ستشرق شمسه بعد قليل كما خمن.. أعطى أوامره بإرجاء الاجتماع الصباحي إلى ما بعد
الانقشاع.. ارتدى ثيابه، وخرج متريضاً.



مر بجانبه كالصخرة المتحدرة، وهو ينخر.. لم
يفصله عن الأذى الرهيب سوى ذراع.. برغم الضباب الذي بدأ يلملم أطرافه، وينسحب
بهدوء.. تابعه بنظراته، وهو يختفي في ظلمةٍ متشابكةٍ من نبتات القصب المتسامقة على
كتف الوادي.



-كاد أن يقتلك ذلك الخنزير البري.!!


خرج هو أيضاً، وبشكل مفاجئ من بين العباءة
الندية، المشبوكة بأنامل السماء.. حاملاً بندقيته، معلقاً برقبته منظاراً
مقرِّباً.. تابع سيره، وغاب خلال أجمة من أشجار الزيتون المعمرة.



عبر الخنزير البري ذاكرته.. وبقي هو بقامته
الفارعة، وعينيه الكبيرتين الضاحكتين، وشعره المسترسل على كتفيه كشعر النساء،
وبزته المموهة بالبقع الخضراء، والصفراء، والبنية.



انقضى النهار... انطلق يتخبط في ليل وحشي، موحل،
يرشده مصباح يدوي، كي لا يتعثر بالصخور المتجهمة، الباردة.. الخشنة حيناً، والملساء
كالجليد حيناً آخر.. يقف بعضها متسمراً وسط ذلك الدرب الترابي، الأفعواني اللزج،
الذي يأخذه في إحدى تفرعاته لتنفيذ مهمة التأكد من يقظة نقاط الحراسة الإنذارية.
المنتشرة، والمشرفة على الوادي السحيق، التي تقف على ضفته الغربية دشم الصهاينة
الجاثمة احتلالاً على صدر الهضبة الجولانية.



عاد منهكاً... السير الزلق على شفة الوادي..
يستوجب الحذر الشديد.. إن أي تعثر يمكن أن يكون مهلكاً.. أن تسقط كما سقط الرومان
في واقوصة اليرموك أمر يُرجف القلوب.



هوة مخيفة بعمق يقارب المئة متر، يتشلخ الجسد
فيها على أنياب الصخور وأضراس الحجارة.. ميتة يرفضها حتى من قرر الانتحار.



زلقت بقرة منذ أيام.. هبط مالكها إلى القعر، فلم
يصعد إلا بقطع من جسدها المتناثر.. أفتى إمام الجامع بحرمة لحمها.. إلا أنه رفض
الفتوى، وأطعم اللحم لبطون أطفاله الجائعة.



تمدد على سريره.. الساعة تقارب الثامنة.. أعلمه الحرس
أن المختار يطلب مقابلته. قرع الباب مستأذناً، ودخل.. صافحة مرحِّباً، وأشار له
بالجلوس.



-يا سيدنا.. أعلم أنك تعب، كنت في مهمة.. ولكن
قلت لنفسي.. يجب أن أعلمك هل رأيته؟! منذ يومين، وهو يتجول على أطراف الوادي..
يخفي نفسه، ثم ينظر بمنظاره نحو العدو، ويسجل على كراسه شيئاً ما.. في الثلاثين من
العمر، شعره مثل النساء! هل يمكن أن يكون جاسوساً؟! إنه جاسوس لا محالة!! وإلا
ماذا يفعل هنا على خط النار؟! يبدأ بالتجول منذ مطلع الفجر.. لا يكلم أحداً،
القرية كلها تتحدث عنه، وبصفتي مختار القرية، شككت بأمره بالرغم من سخرية معلم
المدرسة، الذي قال لي: (شو هالحكي يا أبا محمود.. كبّر عقلك.!) وغادرني ومشى
ضاحكاً. وضحك النقيب أمجد بدوره... انتفض أبو محمود، ثم تراخى مصدوماً، وأخذ يسوي
بين أنامله سيجارته اللف.



قرأ من خلال نظراته وتجاعيد وجهه السبعينية..
كتاباً مفتوحاً للبساطة والسذاجة، وعدم القدرة على تحليل الأمور تحليلاً منطقياً،
بل والغباء الناضح عرقاً من جبين هذا العجوز، الذي ألهبته المدفأة المتأججة في
زاوية الغرفة والأمية المعششة في شرايين وتجاويف دماغه... المعادلة غير متوازنة..
إن أبا محمود قادر على حل أية مشكلة يقع فيها أهل بلدته.. من زواج، وطلاق، وشجار،
وبيع، وخلاف على حدود قطعة أرض، بل ومعرفته بأحوال الطقس وخصوبة السنة، ويستطيع
تنشق المطر من مسافات بعيدة.. قال له مرة:



-(إنني أقرأ رئيس المخفر من أول لقاء بيننا،
وأعرف فيما إذا كان نزيهاً، أو مرتشياً.) بل واستطاع إقناع الآباء، والأمهات.. أن
تعليم البنات ضروري كما الصبيان، وعندما وقف مودعاً، بعد أن أنهى شرب كوب الشاي،
قال متأسياً:



-يا بني.. أنا لا أفهم في السياسة، ولكن أخبرني،
وحتى لا يسخر مني الأستاذ ثانية.. هل ظني في محله؟ هل تعرفه؟ إنني لم أر شعر رجل
كهذا!!



-مؤكد أن المشكلة في شعره.. إنه فدائي.. يا
مختار.. فدائي فلسطيني.



هز رأسه قائلاً: -فدائي هنا؟! لماذا لا يدخل
أرضه، ويقاتل عليها، الحرب من بعيد لا تثمر، ولا ترجع حقاً.. مرة دخل حنش داري،
فتبعته، وعندما ولج إحدى الغرف، انقضضت عليه، وقتلته.



-الأمر مختلف يا مختار.


-لا ليس مختلفاً! ضخّم الأمور الصغيرة، تصبح
قضية كبيرة. أليس في دخول الحنش إلى منزلي.. كدخول الصهاينة إلى فلسطين؟! كل أمر
إذا لم تعالجه في بدايته يكبر، ويكبر، وتصبح مواجهته أصعب.. التصميم، والمتابعة
المتبصرة وعدم اليأس.. السبيل للنجاح.



سخر من قراءته السابقة لهذا الشيخ، وأدرك أن
الرجل ليس كما ظنه.. لقد عركته الحياة، وصقلته التجارب، وقرر، ومنذ تلك اللحظة..
ألا ينظر إلى الآخرين مهما بدوا باستخفاف، وعزم أن يلتقي هذا الفدائي.



...








الفجر يبدو أغبش الجبين.. فإطلالته ما زالت في
بداية استيقاظها.. صياح الديكة يملأ فضاء القرية الهاجعة، وكذلك الرذاذ الناعم من
الغيث المسافر من سفوح الغيوم البيضاء.. يتهطل مقبّلاً أوراق الشجر، ووجه الصخور
الزرقاء فيغسل عنها تجهمها، لتتلامع مبتسمة للفرح النازل، العاري، وهي تبادله
القُبل.. رائحة الأرض تملأ صدره، فتبعث في جسده نشاطاً متدفقاً، وحيوية شبابية متوثبة،
تنير فيه ذكرى طفولية:



-انهض أيها الولد الكسول.


-آه.. جدي.. اتركني.. أريد أن أنام.


وعندما ينزع عنه لحافه.. ينهض، ويغسل وجهه،
فيشعر كما الآن، كم هو الاستيقاظ في تلك اللحظات المبكرة.. رائعاً.!



الفجر، والريح الخفيفة، دفعته للخروج متريضاً.


-سأرافقك يا سيدي النقيب. قال الرقيب المناوب،
وهو يتقلد بندقيته، ومنظاره يتأرجح على صدره.



لم يكن يعلم أن الطلقات المغادرة التي ردد
الوادي صداها.. على امتداد يفوق المسافة التي قطعتها مرات عدة.. ستكون الرصاصات
الخطأ.. للرجل الخطأ!!



عيناه امتدتا عبر سواحل الندم.. لسنوات عدة، ومع
أن الزمن يلعب لعبته الماهرة.. النسيان، ولكنه يسمح بين الفينة، والفينة للحدث أن
يستيقظ، ويوقع لحناً نادماً.. لماض نتخيله قد مات.



ظل يناقش هذا الأمر.. لوقت طويل.. بل ربما لا
يزال.



-هل كنت متسرعاً؟! هل كان الفعل المنطقي؟!
الخيار الأوحد؟! هل اللوم يقع على السلطة الأعلى، التي أرسلت إعلامها قبل الحدث
بساعة؟!



هل هو عامل البرقيات.. ذلك الجندي الذي تأخر
بإعلامه؟! هل هو كلام المختار الذي زرع الشك فيه؟!



في البداية لم يلاحظا شيئاً.. كانا يقفان على
حافة الوادي، يتأملان اللوحة البديعة التي رسمتها الطبيعة، وزاد في روعتها وجه
الفجر الوضاء، وهو يكشف ستارة الظلمة عن جسد الوادي الفتان، وأثوابه الملونة
المزركشة.



-انظر هناك يا سيدي. وأشار الرقيب إلى السفح
المقابل. وتابع قائلاً: -هناك يمين ذلك الشق الصخري بإصبع.



رفع قبضة يده، فارِداً سبابتها باتجاه ما أشار..
ورآه: -اعطني المنظار.



كان شعره المسترسل يخفق كراية مؤكدة الانتماء...
الدشمة الإسرائيلية فوقه تماماً.. عشر دقائق من الصعود، ويكون عندهم!



-إنه ذاهب إلى العدوّّ هذا ليس استطلاعاً.. ومن
المحال أن يكون هجوماً!! إنه بمفرده... إذاً أعطني البندقية أيها الرقيب.



-سيدي.. هل ستطلق..؟!!


قطع التساؤل المستَغرِب لمرافقه قائلاً.. وبصوت
حاد، مزمجر:



-أيها الرجل العاري الذاهب إلى هناك.. لن يسترك
ثوب في العالم.. لن تخرج من خط تسديدي، ولن تفلت من بين أصابعي الملتهبة بالحقد
عليك.. في عيني يتجول الوطن، وفي راحتي تنمو عزيمة الإصرار على درء الخطر.



شعر بالرغبة البدائية، المتوحشة للإنسان الأول
المنطلق لصيد فريسته.. كان رامياً ماهراً.. حاز على ميداليات عدة في المباريات..
قدَّر المسافة الأفقية بمئتي متر.. لن يقتله.. يريده حياً، وعندما يحل الظلام،
سيجره ككيس زبالة.



جاءته اللحظة المثلى للإطلاق، حبس نفسه، وضغط
على الزناد.. رشة قصيرة.. أربعة طلقات.. مرقت تئز.. خارقة هواء الوادي... وسقط
الهدف.



الشمس تشرق من عينيه.. وميضها يخطف بصره..
الثواني تتسطح.. تكبر، تثقل تصبح أطناناً.. ترجمه بالدهشة.. غريماً صارت.. قاتلاً
يطعنه في صميم فؤاده. والطلقات تعود إليه.. تستقر في رأسه.. موتاً بطيئاً، مثقلاً
بالمرارة، والخيبة والذهول.!!.. عندما رآهم يقفزون من بين الأجمات، والصخور، أربعة
رجال.. تحدروا متراجعين بقفزات جنونية. عاد اثنان إلى رفيقهم المصاب.



استيقظ العدو.. دفعات هستيرية تقذفها رشاشاته
الثقيلة.. تولول على طول الوادي..



خُصَل من شعر الريح.. تخترق بزته الرياضية. يدوس
رمش الأرض.. يمرق بين الأشجار، وفوق الصخور منطلقاً كقذيفة.. باتجاه مرصده.



تلقاه جندي البرقيات بوجه شاحب، ويد مرتجفة:


-سيدي.. وصلت هذه البرقية قبل ساعة.


وضع كل غضبه في صوته، وصاح به:


-لماذا لم تعلمني أيها الغبي؟!!


-يا سيدي.. بعد أن فككت الترميز.. جئت إلى
مكتبك، ولم أجدك، وبحثت عنك طويلاً، ولم...



أشار له غاضباً: -يكفي. قرأ في عجالة.. إلى قائد
السرية الثانية.. ستقوم مجموعة من الفدائيين بمهاجمة المنعة الإسرائيلية رقم 9 ب،
وذلك في تمام الساعة الخامسة من فجر يوم السابع عشر من كانون الثاني، عام 1972. كن
مستعداً لدعمهم بالنيران عند القيام بالتنفيذ، والمساعدة خلال انسحابهم.



...


الضياء الذي كان يمرج في العيون.. تلفع بالدخان،
والغبار، والبقع النارية الملتهبة.. التي سرعان ما تسوَدُّ، وهي تتشظى على صدر
الوادي، والرصاص المتبادل بين الطرفين.. يرن على حدود الصخر، أو يصفر ممزقاً أوراق
الأشجار، ثم يقتحم التراب، فينثره غباراً في الهواء. غاضباً، مدمدماً.. يأتي
معلِناً أن الموت يحوم غراباً في الفجر المصدوم، الحزين، الكالح السحنة.



رد على الهاتف.. صوت القائد يأتيه نزقاً: -ما هو
الموقف يا أمجد؟!



وأجاب بالترميز: -الشمس بزغت يا سيدي.


سمعه يهمس لأحد بجانبه: -يبدو أن العملية
كُشِفَت.. وتابع معه:



-حسناً ما هي طلباتك يا قائد السرية؟


-أطلب ستارة دخانية من رمايات المدفعية على
المربع رقم 10.. قال هذا واضعاً إصبعه على المكان المحدد في الخريطة العسكرية،
المفرودة أمامه وتابع قائلاً: -وأطلب رمايات مباشرة من فصيلة الدبابات.. على مزاغل
الدشمة المعادية رقم 8 ب.. لأن رماياتها مؤثرة على انسحاب الفدائيين.



عن يمينه، ومن خلفه، ارتج الوادي بالانفجارات
المدوية، وأرسلت القنابل سحابة هائلة من الدخان الفضي المتصاعد، حاجباً السفح
المعادي للوادي الهادر بالضجيج... بصره يخترق الوادي.. يتجول فيه: -أين هم؟!.. آه
إنهم هناك.. في بداية السفح الصديق.



دقق الرؤية بمنظاره.. ها هم.. ثلاثة، والرابع
محمول على ظهر أحدهم.. أين الفدائي الخامس؟!! الدخان لم يعد يسترهم!.. سيصطادهم
العدو، وهم يصعدون الأرض الصديقة. وتابع قائلاً:



-سيدي المقدم.. أطلب ستارة دخانية.. على الخط
الشرقي للمربع رقم 11.. بعد قليل سينكشفون للعدو.



ومرة أخرى.. جدران من القنابل الدخانية.. تتصاعد
عند أقدام الجانب الآخر لسفح الوادي.



-ملازم أحمد.. خذ جماعة دعم، مع المُسْعِف،
وحمَلَة النقالات، وانطلق لملاقاتهم.



...















البارحة عند الغروب، وفوق غصن شجرة مجاورة
لمكتبه.. نعبت مرتين وعندما نظر إليها.. تراشقت العيون بالكُره!.. فردت جناحيها،
ورفت محلقة مبتعدة، مخلفة في فؤاده توجساً متشائماً.



سنتان مرتا على وفاة والدته.. كان يوماً بلا
مقدمات مرضية.. احتشاء صاعق.. وتوقف القلب المحب، المعطاء. ولكن، وكما تذكَّر
الآن.. وقبل يومين من رحيلها.. عندما أطلقت نعيبها المشؤوم فوق سطح الدار.



-ثلاث طلقات من أربع أيها النقيب.!.. أهنئك على
دقتك في الرماية.. لقد علمتُ بما جرى.. لست غاضباً منك.. أسفي، وحزني، لأن العملية
فشلت، وفقدنا شهيداً من غير قتال!



تقدم منه.. قبّله في جبينه، وقال، وعيناه تتلامع
فيهما الدموع:



-أُقدِّمُ اعتذاري، وأرجو لك الشفاء العاجل.


قال له الممرض، عندما انتحى به جانباً: -طلقة في
الرجل اليسرى كسرت عظم الساق، وطلقتان في فخذه الأيمن بلا كسور.



تقدم منه مودعاً، وهم يضعونه في عربة الإسعاف:


-سأزورك في المشفى.. إن سمحوا لي.


غابت عربة الجريح، وقَدِم الحُزْن... جلس في
عقله، وقلبه، شعر بأن الوادي بكل مغاوره، وقصبه، وأشجار الدفلي، والعليق، ومياهه
المتحدرة إلى اليرموك، بل وكل السهول التي تنبسط على حوافيه.. كئيبة، تهاجر نازفة
في جسده، تملأ مسافات الأخطاء الإنسانية الصغيرة والكبيرة، بالصوت والحركة تكتب
أسماء كثيرة قُتلت على وجه الأرض، جراء التسرع وعدم التعقل.



أما ذلك الشهيد المعلقة عيناه في السماء الزرقاء
اللامتناهية، المغسولة جثته في القعر العميق للوادي، بوهج الدم المسفوح من أجل
استعادة الحق المستباح من أيدي الطغاة.. فلا بد من يوم يأتي.. تكون فيه ابتسامات
النصر مرئية مشرقة، كالعدل.



كان المحقق مُتفهِّماً... السجن لمدة خمسة
وأربعين يوماً، مع تأخير ترفيعه ستة أشهر... أما الجندي عامل البرقيات.. فحكمه:
السجن لمدة شهر واحد.



أيتها البوم المشؤومة.. ومع ذلك كنت رحيمة بي
هذه المرة.. ها هو الحلم الصغير بالإجازة يجثو على ركبتيه المتعبتين.. يتمدد بين
جدران السجن المخصّص للضباط.. يتوسد ذراعه، ويغفو.. إلا أن ضميره يرسل إليه
أحلاماً ليلية سوداء، وسياطاً لاسعة، مؤلمة، تترك في روحه جراحاً طويلة، وعميقة
كعمق الرقاد.



لم يستطع زيارته في المشفى.. لقد ساقوه موقوفاً
بعد أيام قليلة.. إلا أنه، وقبل ذلك، ورغم الخطر المتربص.. نزل إلى الوادي مع
مجموعة من جنوده، وأحضر جثة الشهيد. لقد صمم على حمل جثمانه البارد، عند الارتقاء
الأصعب.





















-2-










القذارة في مهجع السجن، الذي يحوي عشرة ضباط،
أعلاهم رتبة نقيب... جعلت أعصابه أوتاراً مشدودة.. يمكن لها أن تنقطع في أية لحظة.



هذا ما حصل فعلاً.. لقد اصطدم بأحد النقباء..
الذي من عادته أن يترك.. بقايا طعامه في أوعيتها، ويرمي بأعقاب سجائره كيفما
اتفق.!



ضابط آخر قززه بالرائحة الكريهة التي تفحها
قدماه، وجواربه التي لم يغسلها ولو لمرة واحدة.!



استطاع بعد أيام، وبمساعدة بعض المهتمين، من
التخفيف من هذه الوساخة وخيل إليه أن الأمور جرت بشكل أفضل.



دارت نقاشات متعددة، وأحياناً حامية، وفي مختلف
الموضوعات. استطاع أن يتلمس في العيون.. مدى ما قدمته هوايته المحببة إلى قلبه..
المطالعة... مُذ كان طالباً... فبدا لزملائه ضابطاً عارفاً، ملماً.. لقد شاركه في
ذلك.. ضابط.. آخر حاز على إعجابه، لنباهته، وقدراته، ودقته، وموضوعيته في طرح
المسائل.. وتحليلها.. هذا الضابط كان الملازم الأول جهاد.. وقرر في نفسه.. إنه
متميز.!



...


تحدثوا عن العقيدة الشرقية في القتال. أبدى
النقيب أمجد رأيه قائلاً:



-لقد أخذناها مقَوْلبة، وطبقناها ببغاوية، وكان
من الأجدى لو طورناها بشكل تتلاءم وطبيعة، ونفسية المقاتل العربي.. وبحسب
إمكانياتنا، وجغرافية أرضنا ولا بد لي من القول، أن تسييس الجيش أبعد القادة عن
الاهتمام بأمور عديدة من المسائل التدريبية.









خالفه في رأيه ضباط آخرون.. قال أحدهم: -نقيب
أمجد.. إن الجيش الذي يؤمن بعقيدة (أيديولوجية)، يكون الأقدر على الرؤى السياسية،
والأقدر على تحفيز المقاتلين، وتكون المعرفة أعمق بقضايا الأمة من خلال دروس
التثقيف والتوجيه السياسي. بينما أكد ضابط آخر أن الإيمان بحب الوطن، وبالوحدة
يكفي لشحن الجند بروح القتال، وضرب على ذلك أمثلة... فالمجاهدون ضد الاستعمار
العثماني، والثورة السورية الكبرى، ضد المستعمرين الفرنسيين، لم يكونوا ينتمون لأي
حزب عقائدي. وطرحت للمناقشة القضية الفلسطينية، وإسرائيل، والمشروع الصهيوني،
والمشروع القومي العربي، ونكسة حرب حزيران.. قال أمجد، والكلمات تندفع من فمه
حارة، متدفقة:



-لقد وجَّه الاستعمار الغربي ضربة قاصمة للحلم
القومي، وآماله في الوحدة من خلال اتفاقية (سايكس- بيكو..) لقد أصبحت الأمة
أقطاراً متناحرة، وعلت المصلحة القطرية على القومية، وعمقت شروخها الأنظمة
الحاكمة.. حيث الأولوية عندها لسدة الحكم، وتغييب قرارات شعوبها، واللعب على
الحبال.. مرة (بالديماغوجية)، ومرة بالاستقواء بالأجنبي مصلحة، وقهراً، ومرة
بالوعود والشعارات البراقة.. وقال مؤكداً: -إن قصة الحمار، والجزرة، هي الواقع
الذي يحكم الناس.. وعندما تصبح اللعبة مكشوفة.. يكون القمع، والملاحقة وكم الأفواه
هو الحل.



أيده بعضهم بتحفظ، وحذر، وكانت العلامة الكبرى
للمناقشات نكسة حزيران أسبابها، وبعض ما يعلمون من خفاياها. انبرى أحد الضباط
قائلاً:



-برغم أن الاتحاد السوفييتي.. قدم الكثير من
المساعدات لنا سواء بالدعم المادي، والعسكري، والمواقف السياسية إلا أنه خُدِع من
الغرب.. وخاصة من أمريكا، عندما أصر على جمال عبد الناصر.. ألا يكون البادئ في
الهجوم على إسرائيل.. وخاصة في سلاح الجو.. كذلك لم يقدم للعرب الأسلحة المتطورة
كالتي قدمتها أمريكا لاسرائيل..لذلك استمر التفوق المعادي مسيطراً، وخاصة أن الدول
العربية لم تضع قيد التنفيذ أية استراتيجية موحدة، وأن قصة الدفاع العربي المشترك،
خرافة!!






الحوار الذي كان يشارك فيه الجميع بحميمية، هو
حديث الحب.. لقد سرد العديد منهم مغامراته، وحكايا عشقه، وآرائه في اختيار شريكة
العمر، وشاركهم في ذلك المتزوجون.. الذين نصَّبوا أنفسهم كخبراء في هذا المجال.



أرهقته أسئلة الضباط، ومحاولاتهم المستمرة
لمعرفة سبب توقيفه.. إلا أنه تمترس كصخرة خرساء، وبالرغم من أن الكلمات كانت تشرئب
في صدره وعلى لسانه.. وكم ود لو ينثر كلامه مطراً فوق رؤوسهم.. فينساب في آذانهم
كالطوفان.. ولكنه فضّل ألا يبيع قصته مجاناً لأناس سيغادرهم، ويغادرونه بعد حين.



أما الحضور الأصفى، والأقرب إلى روحه من كل هذه
الوجوه الحبيسة كان وجه جهاد... عيناه البراقتان.. تشتعلان ذكاء، وإن كانتا
مسكونتين بالحزن الصامت.. تشعان قدراً كبيراً من التعبير الصوفي العميق.. هادئ
الملامح، ناعمها.. بينما يتدفق خلف سهوب صمته، وشفيف رقته.. شلال من النور.. يوغل
بالحيوية، والوعد.. جسده يشتعل بالنشاط، والمروءة.. مستعد لتقديم خدماته لزملائه
في أي وقت، وهي منداة بالتواضع الفروسي النبيل، وقراءاته له.. أنه شاب مشدود إلى
حقائق الحياة، وواقعيتها.. في تناغم عملي.. مع ألوان خيالية.. ليست صارخة الآمال،
وممكنة التحقيق.



يتعاطف الحزن الإنساني، وتسطع العذابات النابضة
في القلوب.. فتقرع أجراس الصداقة في شغاف القلوب، ومآقي العيون في (هارموني) من
المشاعر المخلصة. هذا ما حصل في ليلة مقمرة، دافئة... جلسا على مقعد خشبي في حديقة
السجن. قال له:



-أخي جهاد.. لِمَ تتوارى، وتجلس وحدك مسكوناً
بالألم.؟! ازرع حزنك في صدري، وكلماتك في دمي.. فكلنا في النهاية بشر، ولا بد لنبع
الألم من الفيضان.



-هذا كلام شاعر.. هل تكونه؟!


-في بعض أوقات الفراغ.


نظر إلى السماء.. خرجت من فمه تنهيدة حرّى،
وارتسمت على وجهه ابتسامة صغيرة، وقال:



-كنت ما زلت طالباً في الكلية الحربية، عندما
حصلت نكسة حزيران.. كان والدي رئيس مخفر شرطة في محافظة ريف دمشق.. وهو يعبر
الطريق بالقرب من مطار المزة، بدأ الطيران المعادي هجومه.. أصابته شظية أودت
بحياته، أما أمي، وأخواي، وأختي.. كانوا يقطنون بيتنا في قرية مجدل شمس عندما
احتلها الصهاينة.. لم أرهم منذ أربع سنوات.. ورغم محاولاتهم العديدة لزيارتي، إلا
أنهم فشلوا.. نتواصل بالمراسلة عن طريق الصليب الأحمر. أما عمي الذي كان ملاذهم..
فقد أودعه الإسرائيليون السجن لنشاطه ضد الاحتلال ولم يبق لهم سوى جدي.. الذي
تجاوز السبعين من العمر... ما رأيك.. هل تجد الأمر محزناً.؟.. إن ذلك مؤلم جداً..
على الأقل بالنسبة لي.. أرجو ألا أكون قد أثقلت عليك؟



أخرج سيجارة.. أشعلها، ونفث مع دخانها زفيراً
طويلاً، وتابع: -على أية حال وجودي في الوحدات الخاصة.. يريحني، فالتدريب المستمر،
والعنيف حتى الإرهاق غالباً، وندرة أوقات الفراغ.. يشغلني عن التفكير المستمر بهم.



قال له متسائلاً: -وسبب العقوبة؟


-لا.. إنه أمر عادي.. شجار مع رتبة أعلى.


عندما نهضا.. كانا يعرفان بعضهما أكثر. من
المؤكد أن رابطاً صداقياً حميماً.. ألف بين قلبيهما بنبض روحي مريح.. لقد سجل كل
منهما واسطة الاتصال البريدي، والهاتفي.



...















صوت خطاه تتأوه في جوف الشارع خلفه... وأمامه
تبتعد خطوات مسرعة في وحشة صامتة.. مرت سيارة مسرعة.. نثرت مياهاً مطرية متحقنة في
جوف الشارع.. تلوث نصفه الأسفل.. نظر إلى نفسه.. وجد الأمر محتملاً.. تمتم بشتيمة.
نصف ساعة مرت على امتلاكه حريته. مهمته تؤكد التحاقه الفوري بوحدته.. إلا أنه صمم
على رؤية أهله، ولو لدقائق.. عندما دلف إلى التاكسي.. أحس بالدفء يحضنه.. مطر خفيف
ينزلق بخجل على زجاج السيارة، والمساحتان تكشطانه برتابة كسولة.



-سيادة النقيب.. يقولون أن عدد القتلى من الضباط
في بلدة نوى تجاوز العشرة.



-متى حصل هذا؟!


-البارحة.. في الغارة الجوية على قيادة اللواء..
ألم تعلم.؟!



-يا إلهي.. إنه لوائي.! قال ذلك همساً، وتابع
بصوت عال:



-لا.. كنتُ في إجازة.


أهازيج فرح.. زغرودة أطلقتها أخته الكبرى..
احتضنته.. إخوته استقبلوه بفرح راقص.. إنه الأكبر بينهم. أما والده.. الجندي
القديم، فقد رحب به بتجهم حاول إخفاءه، وعندما اختلى به.. قال زاجراً:



-أسِجْنٌ في بدء حياتك العسكرية.؟!! يجب ألا
يتكرر ذلك.. لقد أمضيت أكثر من ثلاثين عاماً في الجيش، ولم يدون في سجلي سوى
عقوبتين عاديتين.. إنه عار أيها النقيب ما حصل لك..!



بعجالة شرح لوالده الموقف.. انبسطت أساريره
قليلاً.. إلا أنه علَّق:



-ومع ذلك كان قرارك متسرعاً.. لقد رحموك.


أشارت الساعة إلى الحادية عشرة صباحاً.. عندما
حمل حقيبته مودعاً، وغادر ملتحقاً إلى عمله.



خلال زيارته القصيرة لذويه.. حاول مرتين أن يسأل
أخته الكبرى عنها.. إلا أن صوته لم يعبر شفتيه.. والسؤال بقي حاراً.. يتعرق خجلاً
في فمه.. (قمر) حلم يتكثف.. يتهطل في فؤاده.. كتراكم الندى على قمم السفوح
وأهدابها.. ويتجمع.. ليتدفق نهراً من الشوق.. تسبح فيه خيالاته. النافذتان
المتقابلتان في منزليهما.. تتناجيان.. تغردان.. ترسلان الإشارات المنداة برحيق
الشفاه.. تحلق خافقة في الفضاء الفاصل بينهما، والرسائل الصغيرة العجولة، المختبئة
بأيادي الأطفال.. تدخل غرفتيهما مزقزقة بالكلمات الحنونة، الرقيقة.. زارعة الأحلام
في القلبين الخافقين بالحب المترع باللهفة للقاء.



عندما اجتمعا لأول مرة في نادي (الكريزي كات)
واحتوتهما الأضواء الخافتة.. لم يتحدثا خلال النصف الساعة الأولى.. لأن شفاههما
أشعلت حريقاً ملتهباً من القُبل الظمأى لرحيق العشق.



بدأ حديثه جدياً: -لماذا اخترت الحقوق.. يا قمر؟


-الحقوق يا أمجد (جوكر) فروع الجامعة.. إنه
الأقوى.



ضحك للتشبيه بقهقهة عالية لفتت انتباه
الحاضرين.. اعتذر عن تصرفه وأردف قائلاً: -وما هي مخططاتك المستقبلية؟



-حلمي الأكبر أن أصبح محامية.


-المحاماة للمرأة عمل لم يتقبله مجتمعنا بعد،
والثقة في قدرتها خوض هذا المجال.. متواضعة جداً.



-الثقة يبنيها الإنسان بجده، وتصميمه على إثبات
ذاته.



-صحيح ولكن للناس رأي آخر.


-الناس تحترمك، وتعترف بك، بعد أن تبرهن أنك
الأجدر.. إن وقوف محامية في قاعة المحكمة متسلحة بالعلم، والفصاحة، والحضور القوي،
يعطيها مهابة واحتراماً يفوق الرجال.



أثنى على طموحها، وحماسها، وزاد ذلك من تعلقه
بها.



ناقشا خططاً مستقبلية.. كان خوفه.. أن يصلها خبر
سجنه مشوهاً.. ومع ذلك لم يخبرها بحقيقة ما جرى.



...
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
قمرية

قمرية


نقاط التميز
عدد المواضيع : 69
نقــــــــاط : 85
تاريخ التسجيل : 18/02/2010

الرقصة الاخيرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: الرقصة الاخيرة   الرقصة الاخيرة Icon_minitimeالثلاثاء فبراير 23, 2010 8:39 am

عندما وصل وحدته عصر ذلك اليوم.. كان استعراض
القوة، والبطش، يحوم في السماء.. رفان معاديان من طائرات الميراج، والمستير،
يهدران في فضاء المنطقة.. ويخترقان خط الجبهة.



استقبلته سريته بابتهاج.. جاء (الحنبلي) كان هذا
لقبه عندهم. أسلوب قيادته حديث مرؤوسيه طيلة غيابه.. مدحوا اهتمامه الشديد بروحهم
المعنوية.. وقتاله العنيد مع السلطة الأعلى عند أي تقصير بحق سريته.. وتحمله
مسؤولية قراره وتندروا طويلاً بأوامره التي يصدرها سيوفاً قاطعة، تبتر كل مخالفة
مهما صغرت.. في الانضباط.. واحترام الوقت.. والتدريب. اللافت في شخصيته حرصه
الشديد على أناقته في كافة الظروف.



لمدة يومين.. قام بتفقد كل شيء.. شكر نائبه،
وضباطه على اهتمامهم.. ألقى كلمة في الاجتماع الصباحي.. إلا أنه لم يتعرض لما حصل
عند الوادي، بعكس ما توقعه الجميع، بل ركز على التدريب، والأخطاء التي لاحظها إبان
الاشتباك مع العدو.. أثنى على العسكريين الذين نفذوا مهامهم بكفاءة.. تهللت وجوههم
وتوردت كأرغفة خبز طازجة.. خرجت لتوها من نار الفرن.. عندما أمر بمنح المجيدين
إجازات مع التقيد بنسب الغياب.. وقع إجازات لثمانية منهم.. حملتهم أجنحة الفرح..
فطاروا من المعسكر برفة عين.



انتهى العمل اليومي.. دخل براكته.. بدأ بتوقيع
البريد.. انتابه نعاس مرهق، هو أيضاً شعر بالحاجة إلى الاستراحة، بعد تلك المدة
التي هرسته بين الجدران المعتمة، والنوافذ الدائرية الصغيرة.. التي لا تسمح لأشعة
الشمس بالمرور إلا بجواز سفر مؤقت.. يحمله شعاع مريض.. ملأه بالضيق، والكآبة. قرر
أن يقابل قائد الكتيبة.. سيستغل وجوده مناوباً، ويزوره هذا المساء.. خمسة كيلو
مترات تفصله عنه.. ليست مشكلة.. سيجد وسيلة تنقله إليه.. حتى لو اضطر لقطعها على
قدميه. عندما هاتفه.. فوجئ به يقول:



-أعتقد أن ثمانية أيام كافية لتنسيك ما جرى يا
أمجد.. قابلني غداً عند الواحدة ظهراً.. مع تقرير عن وضع وحدتك، وستجد إجازتك
بانتظارك.



قناعات، ورؤى مشتركة.. ربطته بهذا القائد..
صداقة، واحترام متبادلين. والذي وطد ذلك.. حرصه على إبقاء فارق العمر، والرتبة،
متوَّجين بالجدية والانضباط، ولم يفكر مرة باختراق هذه القاعدة.



سأله مرة أحد الزملاء الذي نقل حديثاً، كقائد
لإحدى السرايا عن رأيه فيه أجابه: -من المفضل أن تكوِّن رأيك بمفردك.. عن المقدم
محمود.



وعندما أصر على ذلك، قال: -من وجهة نظري.. إنه
قائد يؤمن بالحوار الديمقراطي.. لا يتخذ قراره متسرعاً.. يحكمه المنطق، لكنه عندما
يصدر أمره يصبح جبلاً لا يتزحزح.



عندما حياه مودعاً، وإجازته تزغرد في جيبه.. قال
له: -نقيب أمجد.. لو كنت مكانك، وفي الظروف عينها.. لاتخذت نفس قرارك.. مع العلم
أنني لست في مهارتك في الرمي.



-شكراً يا سيدي.. لكن معنوياتي لا بأس بها.!


-ما أقولـه هو الحقيقة، وأنا لا أجامل في أمور
كهذه.. وأنت تعلم ذلك.. على أية حال.. لست متفرداً في هذا الرأي.



كان قول قائده مدهشاً، بل رائع الدهشة! أزاح عن
فؤاده الكثير من أثقال الشعور بالذنب، والإحباط. تحدثا عن الغارة الجوية على قيادة
اللواء، وأكد المقدم محمود.. أن المكان، وبما يجري فيه.. كان مكشوفاً لأعين الرصد
المعادي، وأنه نجا، ومجموعة من الضباط.. حين تأخروا عن الدخول إلى القاعة دقائق
عدة كونهم من المدخنين، وقال مازحاً:



- ويتحدثون عن مساوئ التدخين.


...


- سيجبر عظم ساقه خلال خمسة عشر يوماً.. حصل على
نقاهة لمدة شهر أما أين سيقضيها، فهذا ما لا نعلمه.



هكذا قالوا لـه في المشفى الحكومي، بمدينة درعا،
عندما عرج لزيارته قبيل انطلاقه إلى دمشق، لقضاء إجازته.. أسف كثيراً.. لكم ودَّ
لو رآه.





















-3-










صعد الدم إلى رأسه، وازدادت عيناه اتساعاً من
شدة الذهول.. وجهه تحول إلى لوحة مشدوهة الملامح.



الشال الصوفي الرقيق، المزغرد بالابتسامة
البيضاء المشرقة، والذي طوق عنقها بشياكة.. لم يستطع إخفاء تقويرة الكنزة الحمراء،
التي تبرز سفحي نهديها العاجيين الموردين، وتنورتها (الميكروجيب).. انشمرت كاشفة
نصف فخذيها المكتنزين بحمرة متوهجة.. يتلامعان تحت جرابين من (النايلون) الشفاف..
بلون البن المحمص.



لحظات من الصمت الجاثم على شفتيه أرطالاً..
منعته من الترحيب بها.! صوته عبر الهواء بعد حين، وهو يصافح يدها الحارة بدفق من
دم ساخن، غض: -أهلاً (قمر).



هبطا الدرجات القليلة، ودخلا في خفوت ملون
لمصابيح النور، وضباب نشرته السجائر المتوهجة كنجوم صغيرة تشع هنا، وهناك في فضاء
هذا (النايت كلوب) من بعد ظهر يوم ربيعي دافئ. فاجأها بسؤاله:



-ألم تغالي كثيراً.. أنت نصف عارية.!!


-يبدو وأنت تعسكر في تلك البقاع الجافة، البعيدة
عن الحضارة.. أنك لا تعيش العصر.! إنها الموضة يا صديقي.. أو أنك إنسان رجعي
التفكير.. وغيور..!



رغم تحفظه على ما ترتديه.. إلا أنه اعترف
بسريرته.. أنها تبدو أكثر أناقة وإثارة عما كانت عليه في لقائهما السابق.



تحدثا في معنى التحرر، والدين، وأحكامه في
المرأة.. سلوكاً، وثياباً.



قالت بكل وضوح: -إن الفتاة المحصنة بالعلم،
والعقل الراجح، والخلق، لا يعيبها ما ترتديه، وأردفت: -في الجامعة كثيرات هن
الفتيات اللواتي فرض عليهن الأهل ما يرتدينه.. تارة باسم الشرع، وتارة باسم الخوف
من المجتمع.. وحكي الناس. في قرارتهن لسن بمقتنعات، ولكنهن يخشين المواجهة،
والتصريح.. لي ابنة خالة ما إن تصبح بعيدة عن حيها تخلع حجابها، وتخفيه في حقيبتها
ومثلها تفعل العشرات.. لقد مضى عصر الحريم يا صديقي!.. إنني لا أختلف عنك مقدرة،
وعلماً... أنظر هناك.. وأشارت بعينيها إلى فتاة جالسة بالقرب منهما: -لولا الحلق
بأذنيها لخلتها شاباً.. بشعرها، وثيابها. وعندما أجاب.. أن الشرع وضع حدوداً لعورة
المرأة. انتفضت قائلة: منذ قديم الزمان، ارتدى البشر ثيابهم حسب الجغرافيا.



فتحت حقيبة يدها.. تناولت علبة تبغها.. أشعلت
سيجارة.. نفثت دخانها بهدوء، وهي ترمقه مستكشفة. جاء النادل.. بعد سؤالها.. طلب
فنجانين من القهوة.. تسلل الدخان إلى عينيه.. فركهما، وتساءل: -وما علاقة
الجغرافيا بالثياب؟!



قالت متبرمة: -دعك من هذا شرحه يطول.


أحس بانزعاجها، ولكنه أعاد السؤال قائلاً
بإصرار، وسخرية مبطنة:



-من عِلْمِك نستفيد.!


-الجغرافية تعني أيضاً المناخ.. فلنأخذ الصحراء
مثلاً.. أشعة الشمس المحرقة اضطرت الإنسان لوقاية رأسه بغطاء.. الرجل كما المرأة..
والثوب الطويل الأبيض اللون، والفضفاض، يعكس الأشعة، ويسمح للهواء بالدخول إلى
الجسد ليبقى رطباً.. وجاء اللثام بمثابة الكمامة لاتقاء الغبار، والعواصف
الرملية.. أما الإنسان الإفريقي فقد تحرر من ثيابه.. أو بالأحرى لم يرتد منها إلا
ما يستر عورته.. وخاصة من كان يعيش بقرب خط الاستواء.. الحرارة، والجو المشبع
بالرطوبة التي تسببها كثرة الأمطار، والغابات التي فرضت على جسده أن يبقى دبقاً..
وخذ الأسكيمو، وطراز لباسهم.. إلى آخر الأمثلة.. وهذا جرى قبل أن تقول الأديان
كلمتها بآلاف السنين.



قال وهو يحدِّق بعينيها: -إلام تهدفين في
النهاية؟



-أن تقرأني قراءة واضحة، شفافة.. إني هنا أدافع
عن الشمس، عن مشروعية الضوء، عن الوضوح.. فأنا عاشقة للنور.. أكره الظلمة.. هل
تعلم









بماذا
أحلم؟ أحلم بالحق، بالعدل، بالحرية، بالمساواة.. تسود مجتمعنا.. أحلم بسيارة بيضاء
بمنزل مدهون باللون الأبيض.. مفروش بأثاث أبيض.. لأن ذلك يشبه لون روحي.



في شلال كلامها.. بهره الألق الذي يشع صراحة،
وصفاء، وجمالاً.. أثمله عبق عطرها، واعترف في سره.. أن منطقها، وتفكيرها، صافيان
كينبوع نقي التدفق. أراد ضمها، ومعانقتها.. إلا أنها ابتعدت عنه بخفة.. دهش
لتصرفها، وشعر كأنما جداراً ضبابياً.. بارد الملمس، فصله عنها.!



في داخله.. أخافته جرأتها، وصراحتها القاطعة كحد
السيف، وعشقها لحريتها المتفجر كبركان.!



في مجتمعاتنا.. معظم الناس.. يقولون ما لا
يفعلون، ويؤمنون بما لا يصرحون لعلها التربية الخطأ، والتعليم الخطأ، والكم الهائل
من موروث الخوف، والتعصب والتقاليد، والعادات.. التي تحكم رقابنا.. لكن هذه
الفتاة.. شلال هادر من الوضوح، والشفافية.!



فكر، وهو يتأملها.. هل يجرؤ على تحدي هذا الواقع
مع زوجة مثل هذه.؟؟ سلوكه الاجتماعي، العسكري.. المراقب بدقة من أسرته، أقاربه،
أهل حيه، طبيعة عمله، لأول مرة.. أحس أنه يجبن أمام اقتحام عالمها الفسيح، وبحرها
الهائج الأمواج، وسمائها المشتعلة بشهب جرأتها المتعبة.



بميزان إحساس المرأة.. لمست هزات التردد
الوجلة.. تتماوج في فكره، وقلبه. أرادت أن تبعده عن الموضوع.. تساءلت: -سمعت أنك
قضيت مدة في السجن.. السبب.. إذا لم يكن ذلك محرجاً؟



مموهاً جوابه، قال: -تأخرت بنجدة فدائي جريح..
أصابه الصهاينة في ساقه.



-آه يا إلهي.. لعله (وفا) قريبي.. إنه يقضي
نقاهة في منزله للسبب عينه.!



-وأين يقطن قريبك هذا؟.. سجَّل عنوانه، ورقم
هاتفه، وقال لها.. أنه سوف يقوم بعيادته. بقيا صامتين لفترة.. بدت وكأن كل منهما
يعيش في عالمه الخاص. فاجأته بقولها:



-اسمع يا أمجد.. لقد استطعت أن تأخذ حيِّزاً من
عواطفي.. وكان من الممكن أن ترتقي إلى رباط من الحب أبدي.. ولكن ما بدا لي أنك لست
النسر الذي أحلق بجناحيه إلى الأمداء التي أعشقها، ولست المقاتل الصلب الذي يحطم
متاريس التخلف، ولست إلا عربة مقرونة بقطارات مهترئة تعبر مسافرة إلى محطات
خلفية.!



دافع عن آرائه.. حاول إقناعها بكل حجة ممكنة..
قال لها:



-في نمط سلوكنا، وعاداتنا.. الكثير من مساحات
الزهور الرائعة، الفواحة.



-لعل في بعض ما تقوله حقيقة، ولكن المياه
الجارية، المتغيرة.. لا تأسن أبداً.



-حسناً.. فلنترك لعواطفنا، وتفكيرنا فرصة أكبر
للقاء.. أعتقد أننا في النهاية سوف نصبّ في خليج واحد.



-أرى أن تبحث لك عن فتاة لينة، مطواعة.. تجبلها
أناملك كما تريد، إن كنت في عجلة من أمرك.. وإلا فلندع للأيام الحُكْم بيننا..
أغادرك الآن، وصداقتنا مستمرة بالخفقان.. مع نسائم الأخوة.



أجهش وجهه بالحزن.. يدها تركت يده.. دفعة
واحدة.. معلنة نهاية قصة حب نبتت أوراقها، ولم تزهر.



...















قام بالتعريف عن نفسه... الصوت ذو اللكنة
الأجنبية.. الذي سمعه عبر الهاتف.. أدهشه.. خيل إليه أنه أخطأ الرقم.. أعاد السؤال
مؤكداً: -منزل السيد (وفا)؟.. وجاءه الجواب: -نعم.. لست مخطئاً.



-أرغب بزيارته للاطمئنان عليه. فترة صمت مرت...
-في الوقت الذي يناسبكم.. إنني في إجازة.



-نرحب بك.. السادسة من مساء الغد.. عنوان
البيت.. تعرفه.. حسناً.. أهلاً وسهلاً.



هل يرافقه أحد.. صديق.. قريب.. فكر بالاتصال
بالملازم أول جهاد.. عاد وحزم أمره.. لن يرافقه أحد.. ارتدى بزة مدنية، وانطلق.



مخيم فلسطين في دمشق... أزقة ضيقة، متعرجة..
تتداخل معتمة في إقسومات عدة... لا يمكن للمرء أن يرى نهاية لها. رأى فيها.. كل
تعرجات وظلمة قضيتهم، وصراعهم منذ حل الصهاينة بوطنهم. قال محدثاً نفسه:



-بل إننا جميعاً نسير في دروبها الوعرة،
الشائكة، الملتفة، كمتاهة.. أريد لنا ألا نخرج منها.. حتى نفقد القدرة على تطوير
بلادنا، وتنميتها.



فاجأه الاستقبال المُرحِّب.. نهض، صافحه بحرارة،
وقال موجهاً الكلام لها: -هذا هو الجاني الذي حدثتكِ عنه.



والشعور بالذنب ما زال يتنفس في صدره.. ناظراً
إلى يديها كي لا يخطئ الخطاب: -أجل آنستي.. أنا هو.



لم يلاحظ سواهما في المنزل.. الغرف الثلاثة مرئية
بأبوابها المشرعة. الفرش بسيط، على جِدته، وأناقته.. بعض طاقات الورد التي ذبل قسم
منها ما زالت تحمل بطاقات إهدائها.. تناولت منه الورد شاكرة.. لقد حرص على أن تكون
فخمة، وملفتة.



ما زال كما هو بشعره الطويل.. المرتاح على
كتفيه.. أسود لامعاً، كجنح الغراب، وبعينيه الواسعتين، البراقتين، وبجسده
المتشامخ، الرشيق.



قدَّمها له: -أختي ليلى.. مدرسة أدب انكليزي..
قضت طفولتها، وصباها مع أمها البريطانية الأصل في لندن.. وبعد وفاة أمها منذ
عامين.. قررت العودة إلي هنا في سورية. إنها تحمل الجنسية البريطانية.



بدا النقيب أمجد متلجلجاً في بداية حديثه، ولكنه
استعاد سيطرته على كلامه واسترسل موضحاً ما جرى بشكل منطقي.. مقنع.. وبعد تردد
أخبرهما أن عقاب ضميره.. كان أشد من سجنه.



انطباع مريح غلف وجهيهما.. وشع في نظراتهما..
مرسلاً إليه تفهماً وقبولاً ودوداً. شخص مختار قرية عابدين.. أخذ مكانه بينهم
بانفراجات طريفة، مضحكة، إلا أنه أعلن لهما بثقة.. أن رفقة ذلك العجوز مفيدة،
وممتعة ومسلية.



قال وفا، وهو يمضغ قطعة تفاح: -سوف أزور ذلك
المختار بعد عودتي إلى القاعدة. قدَّر أن وفا قد تجاوز الثلاثين من العمر.. تساءل
مستوضحاً:



-أرجو ألا أكون متطفلاً.. لماذا لم تتزوج حتى
الآن؟! قال ذلك وهو ينظر إلى يديه اللتين خلتا من أي شيء يلمع. ردت عليه ضاحكة:
-لقد تزوج القضية.! نظر إليها مؤنباً، وقال: -ألا ترى أن الزواج لمن كان على
شاكلتي غاية في الصعوبة، على الأقل لمن ستبتلي بي..! على أية حال لنا هدف صممنا
على المضي إليه... هو.. أرض شعب، وكرامة شعب، وحق شعب، ومصير أمة غافلة.. وأنا
بشكل خاص لي ثأر كبير.



قال أمجد معمِّماً الأمر: -نادرة هي الأسر التي
ليس لها ثأر عند العدو الإسرائيلي!



-صحيح.. لكنني تركت أمي، وأبي هناك.. عند طبريا
شهيدين لم يدفنهما أحد وصارا طعاماً للكواسر.!!



-إنني آسف جداً.. لقد ذكّرتك بأوقات حزينة
مؤسية.



وقف وفا، ونظر إلى صورة معلقة على الجدار.. فيها
رجل، وامرأة وطفلان يضحكان، وهما في حضنيهما.. قال وفا: -كنت يوم ذاك في الخامسة
من عمري، وأختي زمردة في السابعة.. وهي متزوجة الآن في الأردن.. طفلان جائعان..
يرتجفان خوفاً، وهلعاً بين الصخور.. واقفان يبكيان، وليس لهما معين.. ينتظران
وحيدين عودة أمهما التي رجعت بالزورق إلى الشاطئ الفلسطيني، لتنقذ زوجها.. ولكنها
لم تعد.!.. عطف علينا الفلاحون السوريون، وأنقذونا، وحقيبتين هما كل ما نملك. نظر
إلى ضيفه قائلاً: -آسف لاندفاعي في سرد آلامي. ثم إلى أخته قائلاً: -ليلى قهوتها
مميزة.. ما رأيك؟



-على شرط.. بالمناسبة، هل أصبحت قادراً على
المسير.؟



-أجل، ولكن لمسافات قصيرة.


-حسناً.. اشرب القهوة إذا قبلتما دعوتي للغداء،
أو العشاء في نادي الضباط.



-حسناً.. أيها الرفيق النقيب.. ليكن عشاء.. ليلى
تهوى الليل، والسهر.



تملاها وهي قادمة بالقهوة.. عينان تشعان وميضاً
عميقاً، آسراً. جمال هادئ، رزين في الوجه.. لكنه يسجد مشدوهاً، خاشعاً، أمام
التدفق الصاخب في الجسد المتناسق، والقد المائد.. الثائر، في الصدر المتوثب
النهدين.



تلك الليلة، وفي دفتر مذكراته كتب:


ليلى.. أيتها النخلة المخضلة بالصوت العذب..


المتأود شلالاً من رفيف الموسيقى..


أيتها الحقول الذهبية.. المتماوجة كخصلات
شعرها..



أيها الفجر المبتسم.. لخطواتي المقتربة من
محرابها..



خذوني، وازرعوا قلبي سنبلة عطشى للحب.. في سفوح
نهديها المتدفقين.. بعصير العسل.



جلست بقربه.. منارة متلألئة بالألوان الزاهية،
وهي تطل شقراء، مشعة على محيط شرقي أسمر.. حقل قمح قطف حزمة من نور الشمس، يتوِّج
رأسها وبحر مخملي، مشجر، يرسم خليجاً مرمرياً عند صدرها، تتثنى عند حوافه أمواج
متكسرة من الدانتيلا السوداء، تناثرت في ليلها نجوم ذهبية صغيرة، براقة، وذراعان
بضَّتان، موردتان، تحررتا بأناقة، وليونة خلال المخمل الناعم.



سهام الإعجاب ترشق المائدة الثلاثية.. تتناثر من
بعيد، وقريب، باتجاه الغادة المشرقة. تعمد العديد من زملائه، ومعارفه تحيته
بإشارات ملؤها الغيرة، والحسد لهذه الصحبة الفاتنة.



تحدثوا في الموسيقى، والأدب، والرياضة.. بعد أن
رجتهما الابتعاد عن السياسة.. أخبرته عن طفولتها، وحياتها، وهواياتها، وعادات
المجتمع البريطاني.. حبه للنظام، ودقته في العمل، وأداء الواجب، واحترام القانون،
وحرية الإنسان، والنظافة التي يحرص عليها الجميع في كل مكان.



لقد أنشأتها أمها الجميلة، على عشق اللغة
العربية.. كانت تتكلمها، وتكتبها. ربتها على حب الشرق، ولكم حدثتها عن دفئه،
وسحره، وحضارته.



أخبرته عن (صالون) منزلها في لندن.. وتباهيها
أمام أصدقائها، وصديقاتها بالصورة الجدارية الفخمة لوالدها الفلسطيني، وبالقرب
منها صورة لزوج أمها البريطاني، الكابتن (فيليب) الذي تتلامع على صدره الأوسمة
العسكرية.



لكن حديثها لم يكن يزهو، ويتفتح في عيني أمها..
بريقاً، متألقاً بالشوق الخافق، الحزين إلا عندما تحدثها عن والدها (أبو الوفا)
لقد منعت الحكومة البريطانية أمها من العودة إلى فلسطين بعد مقتل زوجها الكابتن
فيليب، المتهم بالتعاطف مع الفلسطينيين حتى رسائلها إلى حبيبها أبو الوفا حجبت،
والحقيقة أن الصهاينة كانوا خلف ذلك انتقاماً منها بعد أن اكتشفوا علاقتها
بالفلسطيني الشامخ، الذي رفض أن يكون عميلاً لحكومة جلالتها.



كانت أمي تجلس ساهمة، وهي تحدق بصورته:


-ماذا أخبرك عنه يا بنتي.. صوته الذي يتوزع في
شراييني. عنفوانه المتدفق كشلال في حقول جسدي.. بحار صخبه الهادرة.. صمته المتدلي
من جبينه كالتعب اليتيم.. إنه وشم لا يزول، طُبِع على شغاف قلبي.. حب أبدي
لعرزاله، لزورقه، لتراب بلاده، ولأسماكه المتقافزة في شباكه، عند شاطئ طبريا التي
شهدت ولادة حبي.



حديث ليلى.. هذه الغادة نصف الأوروبية، ورؤياه
لها.. أيقظت في ذاكرته سنين خلت.. فتاة "ديرية" سمراء يافعة، يانعة،
كثيرة الشبه بها قداً وجمالاً، والتي فتّحت فيه بواكير الرجولة الغامضة، المتدفقة،
بولادة غضة، ساذجة، وحرضت فيه حباً للموسيقى، والأدب، وعلى قمته الأدب الروسي الذي
ترشرش في وجدانه، وعقله، كزخات مطرية ناعمة، فنمت في روحه رياضاً إنسانية، رائعة،
عن الحب، والوطن والطبيعة، والتضحية، والحب.



...















غفا وخياله يطارد طيفها في مروج شاسعة، مخضرة،
تهب فيها روائح عطرية، آسرة، وتصدح في أمدائها ريح طرية، ناعمة، تعزف ألحانها على
قيثارة سحابة مبتسمة لشعاع الشفق. عندما استيقظ تمطى قبالة نافذة (قمر) المشرعة.
رآها، حياها كعادته. دخلت أخته.. سألت: كيف حال الغرام؟ أجابها: -طار إلى زهرة
شقراء.



على مائدة الإفطار، قال والده: -كم تبقى من
إجازتك؟



-أربعة أيام.


-(شو رأيك).. برحلة لصيد الحجل، إنه موسمه.


-متى.. وأين؟


-إلى اللجاة، وخاصة أنك لم تدخلها أبداً.. غداً
مع الفجر نكون هناك.



تدبر والده بندقية صيد ثانية. عندما ناما كان كل
شيء جاهزاً لانطلاقة الغد.



اللجاة هذا الركام الهائل، المتوحش، المتبرد، من
الحمم المندفعة من أفواه الجبال، وخاصراتها المحتقنة بالغضب الجحيمي، التي رسمت في
المدى ومنذ آلاف السنين.. لوحات الوعر المذهلة، القاسية، المتوشحة بالرهبة.



مساطب، ومدرجات، وشقفان، وحقاف ملتوية، متقاطعة
بالمسيلات والجروف، وقد تلونت خدودها، وجباهها بالطحالب المفروشة بألوانها
المتعانقة، والتي تزهو بقبل من شعاع الشمس. وقد برزت من شفاه الصخر النبتات،
والأزهار البرية المنداة، وتلألأت في عيونه مياه شفافة خلفها المطر.. تترجرج بفعل
هبات النسيم البارد، المنعش.. في تلك الإشراقة الربيعية لذلك اليوم.



دخلا بطن الوعر.. لم يعد يراه، لكنه.. بعد مدة
سمع دوي طلقته الأولى.



هبط منحدراً قاسياً.. أخذه إلى منبسط دائري
واسع، التهبت خدوده بأجمات نارية من زهور شقائق النعمان، تطل متمايلة.. مع دفقات
الريح.. من بين الأعشاب الندية الخضراء. وتسامقت حول المنبسط.. صخور عالية
كالأسوار، وقد ملأتها الشقوق العميقة.. كل شق يتسع لجمل.! إنها قلعة من الصخر!..
قال متعجباً.



سمع شقرقة طيور الحجل.. تربص.. تقدم حذراً.. من
أمامه، ومن مسافة قريبة.. طار رف في تحليق مصفق، مفاجئ. صوَّب على أكثف تجمع..
أطلق.. سقط ثلاثة طيور.. صرخ فرحاً.. بلا عناء التقط اثنين. أما الثالث فقد وجده
بعد جهد متخفياً، مكسور الجناح، تحت نبتة شيح كثة.



كانا قد اتفقا على الالتقاء عند الواحدة
للاستراحة، وتناول الطعام، نقطة الإزدلاف منطار عال من الحجارة شاهداه منذ لحظة
انطلاقهما.



خرج من الحصن الصخري. نشطت هبات الريح. انتعش
صدره بعد هذه الخنقة في ذلك الجرف. ذهب بصره بعيداً خلال هذا البحر الصخري بأمواجه
الساكنة، العابسة.



حكايا، وحكايا، سمعها عن معارك، وأهوال دارت على
جسد هذا البازلت. تتمترس خلف صخوره عيون البزاة، ويتردد خلاله زئير الأسود من ثوار
الجبل الأشم.. تنقض حاملة الموت على شفارها القاطعة، وبلطاتها الباترة، تفتك
بشجاعة خرافية بجيوش الترك الظالمة والفرنسيين المستعمرين. في تلك الأيام التي
دخلوا فيها رحم الوعر ترصعوا بالصلابة والبأس، وعلى مراياه التي تألقت بالنور،
أضاءت أرواحهم بحب الوطن، وأصبحت أقدامهم راسخة، ثابتة، منغرسة فيه. لم تزحزحهم
قنابل المدافع، ولا الشلالات الملتهبة من أفواه الرشاشات.



أما متاهات اللجاة فكم كانت حانية، تدرأ بصدورها
الصلبة صليات الموت عنهم، وتسقيهم من حقافها الحانية ماء الحياة.



أوغل في مساره.. فوجئ بذئب يعوي عواء ناحباً،
وهو يتمدد على جنبه فوق فسحة معشوشبة. الذئب لم يتحرك برغم تقربه منه. حدس أنه
يعاني من أمر ما.. أدهشه ما رأى.. ريشة نيص انغرست في محجر عينه.. قرر أن يخلصه من
عذابه. غادره مهشم الرأس، وهو يقول لنفسه: -وللحيوانات الضعيفة أسلحتها القاتلة
أيضاً.!



اصطاد زوجاً آخر من الحجل.. المنطار أمامه.. قطع
المسافة المتبقية وبعد دقائق قليلة جلس والده بجانبه. فتح براد الشاي.. وشربا
بتلذذ كأسين ساخنين، وهما يهزجان فرحاً بتسعة ديوك من الحجل.



فرشا طعامهما، وبدآ يلتهمان غداءهما بشهية التعب
الجائع. كان أشهى ما في ذلك الطعام نبتات العكّوب، والدردار، وقرص العنة التي
جمعها والده أثناء تجواله. الماء المتجمع في حقف صخري، كان أطيب ماء شربه أمجد..
بارداً، شفافاً، كقطر الندى.. كما قال لوالده.



هجعا تحت ظل صخرة متشامخة بجبروت عملاق. من
المحتمل أنهما غفوا في تلك اللحظة الهادرة، الراعدة، المزمجرة، التي مرقت فوقهما
تماماً، وعلى ارتفاع قليل منهما، وكادت الريح العاصفة التي أحدثها هذا السرب
الجامح أن تقذفهما بعيداً.! أصاب الصمم المؤقت آذانهم. تابعا بنظراتهم تسلق
الطائرات نحو السماء، التي اتخذت شكلاً سهمياً.



(ميغ 21) صاح أمجد. بعد قليل، وفي عين الشمس،
واضعاً يده فوق عينيه، قال أبوه: -إنها معركة جوية، والعدد لصالح العدو.



صفَّق النقيب أمجد فرحاً: -هناك طائرة تهوي
محترقة.. ها هي تنفجر في الجو.. ضربة معلم.!



قال والده: -لم أشاهد الطيار يقفز منها.. لا بد
أنه احترق معها.



-انظر يا أبي.. ها هي الأخرى تشتعل.. إنها من
طائراتنا.



رد أبوه بحزن: ها هو الطيار يقفز منها.. أرجو
ألا يكون مصاباً.. مظلته فتحت.. الريح تدفعه باتجاهنا.. سوف يسقط قريباً منا لا
محالة.



لملما حوائجهما، واستعدا للانطلاق إلى المكان
المحتمل لهبوطه. نظراتهما ترافقه بخوف.. جسده يتأرجح في هتاف الريح.. مجهول كأسرار
السماء ينزل.. إلى أرضه الحانية يتحدر.. وحب تتساوى فيه مفردات الألم تحتويه.



-إنه ينزل إلى الحصن. قال أمجد هاتفاً.


-أي حصن هذا إني لا أراه؟


-ستراه.. هيا بنا.


هدير الطائرات الصديقة يرج الهواء فوقهما.. يبدو
أن المعركة الجوية انتهت.. عشر دقائق مضت، وهما يقفزان فوق الصخور، وديوك الحجل
تتأرجح على فخذيهما. وصل النقيب أمجد أولاً. مظلة الطيار مشتبكة بسنام صخرة أكثر
ما يشبهها.. الفيل.. وجسده معلق في الهواء على ارتفاع يقارب الثلاثة أمتار.. يبدو
أنه قد أغمي عليه.. يوجد دماء على صدره، وكتفه.. قال أمجد:



-الوصول إليه خلال هذا الجدار الأملس مستحيل.!
لنحاول تخليص مظلته العالقة، وننزله ببطء.



بواسطة سكين قطعا الحبال المعيقة، واستطاعا،
وهما يلهثان تحرير "النايلون" الملتف، واضعين كل عزمهما كي ينزل بهدوء.



جسداً ممدداً، استقبلته الأرض على فراش مندى من
الأعشاب.



خيط صغير من الدم ما يزال ينبع من كتفه. رش أمجد
الماء على وجهه إلا أن الطيار لم يستجب إلا في رشقة الماء الثانية.. أين أنا؟



-إنك في أمان، ولست بعيداً جداً عن قاعدتك. قال
أمجد.



والده ذلك الجندي القديم، الذي يحسب حساب كل
شيء، فتح حقيبته أخرج قطناً وشاشاً، ومطهراً، ولاصقاً. كشف عن جرحه.. إنها طلقة
نافذة خرقت الكتف. أحزمة المظلة ضغطت الثياب عليه، فخففت من النزيف.. طهر الإصابة،
وضع القطن، والشاش، ثبتها باللاصق، ثم قال مبتسماً:



-إذا لم يكن يؤلمك شيء آخر، يمكنك المسير.


ساعدا الطيار على الوقوف. شاب.. قدراه في
الخامسة والعشرين من العمر. ربع القامة، نحيفها، خيل لأمجد أنه يستطيع حمله حتى
الطريق العام، وبلا كلل. سمعا هدير حوامة.. ها هم يبحثون عني. صعد أمجد إلى الأعلى
برشاقة، وخفة قط بري، شاهد الطائرة تحوم إلى الغرب منهم، وهي ترسم في الهواء حلقات
التفتيش الدائرية.



صاح عليهما: يجب أن نشعل ناراً، الدخان سيهديهم
إلينا. قال الطيار بصوت خافت، عليل، لكنه كان مسموعاً إليه: لديّ شهب إشارة.



أخرجها والده من سترة الطيار، وقال لأمجد: عندما
تستدير الطائرة باتجاهنا.. أنذرني. شد والده الخيط، فانطلق الشهاب في الهواء
أرجواني اللون، وهو يرسل نجوماً متناثرة، متلألئة.



لم يكن هناك حاجة لإطلاق شهاب آخر، لقد اهتدوا
إليهم.. مكان مثالي للهبوط.. وسط هذا البحر الصخري.! قال قائد الحوامة.



قدم الطيار الجريح نفسه إليهما: -الملازم..
غازي.. سأذكر دوماً مساعدتكما لي.



حمل اسم هذا الطيار النقيب أمجد.. إلى طيار آخر،
أو بالأحرى غازي آخر.. لسوف تمضي السنون، ولن ينساه.. يومها ساعد الضفادع البشرية
بعد أن انتشلوه من مياه بحيرة طبريا.. ممدداً على الرمل بوجهه الأزرق المنتفخ،
وعينيه المفتوحتين، اللتين تحجرتا في سكون أزلي.



الأمر مضى عليه أكثر من خمس سنوات.. تقدمت
الزوارق الإسرائيلية اقتربت من الشاطئ السوري، واحتدمت معركة كبيرة، أذنيه حتى
الآن تدوي بصيحات الفرح بين جنود فصيلته لتدخّل الطيران الصديق الذي هاجم الزوارق
المعادية. كان الطيار غازي فريداً في هجماته.! في الانقضاض الثالث له لم يستطع
الخروج منه لأنه كان انقضاضاً عمودياً فانغرز مع طائرته في الماء.



طبريا، البطيحة، الحمة، فيق، والخنادق،
والتحصينات، والدشم، لقد شارك جنوده في حفرها، وتجهيزها عمل معهم في الصيف،
والشتاء، أمسك بالمعول، وضرب الأرض بالمهدة.. فلق الصخر لقد تعاونوا في تجهيز تلك
المواقع، وسقوها بعرق أجسادهم. إنه لا يزال يذكر كيف قاتل جنوده في معركة الزوارق.
لقد كانوا أبطالاً، لا يهابون شيئاً.



مع رجال أمثال هؤلاء.. كان يجدر بنا أن لا نخسر
الجولان.!! وبمثل ذلك العار.!! وتذكر أمجد ما قاله له ذلك القائد، الزيتي الوجه،
في اجتماع للضباط، وهو ينفش ريشه، وكان ذلك بعد النكسة بشهر واحد عندما سأله: -كيف
خسرنا الجولان بتفوقه الطبوغرافي، وتحصيناته ونحن في وضع دفاعي.!!



-أيها الملازم.. الجبهة السورية.. كانت
(خرابيش).



هذا الجواب المهزلة.. الذي قاله ذلك القائد
الطاووسي، فاجأ جميع الحضور. تمنى أمجد حينها لو يبصق في عينيه، وقال لزميل له،
يجلس بجواره: -إن كانت كذلك طيلة السنين الماضية، لماذا لم يحسِّنها، أو على الأقل
لماذا لم يتكلم..؟!!



وعندما حكى لجده عن ذلك، ابتسم، وقال:


-المقاتل يا ولدي الذي صمم على النصر، أو الصمود
حتى الشهادة يقاتل بأسنانه، ولا يهمه المكان، أو الظرف.



ويذكر أنه أورد مثالاً عن الثائر الأعزل الذي اقتحم
الجندي الفرنسي رغم الرصاص المنهمر، وكما روى (قرَط جوزته بأسنانه، وأخذ سلاحه)
ولا يزال يحفظ حداءه (العدو حِنّا نجيه، ولا يجينا). وختم الجد كلامه:



-يا بني.. يموت الرجال دفاعاً عن كلمة قالوها،
أو كلمة قيلت لهم أو من أجل مبدأ اعتنقوه، أو وعد قطعوه، فكيف بالوطن..؟!!



...















كانت الشمس قد توارت منذ وقت بعيد وراء العمائم
البيضاء لمرتفعات جبل الشيخ.. السماء في زرقة لامعة، وهنا، وهناك، سكنت بلا حراك
سحب صفراوية، وبنفسجية، بدت وكأنها قطع ضخمة من الصوف المندوف، وعلى الأرض حل غسق
ثقيل، بارد.



في تلك اللحظات كانت سرية النقيب أمجد جاهزة
للتبديل مع السرية الصاعدة. شعر بالسعادة، فعزلته التي دامت ستة شهور في قرية
عابدين قد انتهت. ولسوف يكون أكثر إنسانية بالتواصل مع زملائه الذين حن إلى
سهراتهم، وأحاديثهم، ومزاحهم، ولم يخطر بباله أبداً أن ذلك لن يكون لوقت طويل.



تم التبديل، وعند منتصف الليل كانت آلياته
المحملة بالجنود والسلاح، والعتاد، تتحرك ببطء إلى مقرها القديم في منطقة قرية
الشجرة لتنضم إلى قوام كتيبته المعسكرة هناك. الأنوار الحربية الخافتة تكشف محور
التحرك.



قائد اللواء.. الرجل الذي عسكرت الجندية في أدق
خلاياه، بوجهه الذي لا يضحك للرغيف السخن كما يقولون عنه.. يقلِّب بأوراق إضبارته،
ناظراً إلى الصفحات الممتلئة بالوصوفات، والمعلومات عنه. سمعه يقول: دورة معلم
صاعقة، قفز مظلات، قائد سرية، ما كتبوه عنك جيد.



تابع، وهو يحيطه بنظراته: -لقد اخترناك يا أمجد
كقائد معسكر تدريبي لعناصر مهمات خاصة، وعلى مستوى التدريب يتوقف نجاحهم في
مهامهم، بل وحياتهم. إن أثبت جدارة في مهمتك.. سأناقش القيادة ترقيتك مع أبناء
دورتك. توقف قائد اللواء عن الحديث معه.. لدخول أحد الضباط وقّع على أمر قدّمه له،
وغادر المكان.



الأمر سري للغاية أيها النقيب. هذا برنامج لدورة
مدتها ثلاثة شهور. ضع ملاحظاتك عليه. سنناقش أفكارك غداً في الثانية عشرة. شد أمجد
قامته.. حياه، وانصرف.



...


إنه لم يعزف بعد أي نشيد رجولي.. فوق أية منصة
حارة لصدر امرأة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
قمرية

قمرية


نقاط التميز
عدد المواضيع : 69
نقــــــــاط : 85
تاريخ التسجيل : 18/02/2010

الرقصة الاخيرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: الرقصة الاخيرة   الرقصة الاخيرة Icon_minitimeالثلاثاء فبراير 23, 2010 8:42 am

ولم يبذر فوق جسدها أي حقل من قمحه السري، ولم
يرتحل ولو لمرة واحدة فوق سفوحها المتوارية خلف ثنايا أثوابها الناعمة المتوهجة
بالأنوثة. وجهه ما يزال مختبئاً، متورداً بالحياء.. في ظلمة الكلمات المتلفعة
بالشهوة، وعيناه ما زالتا ترمشان في صومعة العيب.



مرة.. ولم تدخل في تعداد التجربة المتبادلة..
عندما اقتحمت (أماني) بنت الجيران عليه حمام منزله الخالي من أهله، وهي لا ترتدي
إلا قطعة شفت.. تلامع جسدها من خلالها نارياً، لاهثاً بالمراهقة، حينها احتوته،
وجسدها يتماوج زاحفاً فوق جسده الطفولي، المكتنز، العاري.. وهي تأكله بشفتيها،
بأسنانها، ويومها لم يدرك لماذا تأوهت، وزفرت وشهقت، ثم تراخت فوقه ذابلة، ناعسة..
بينما كان يردد جملة مكررة راجية.. قومي عني، (خنقتيني).!!



لكن الشيء الوحيد الذي أدركه برغم سنواته الثلاث
عشرة، أن ما جرى هو أمر محرّم البوح عنه.



إنها (أماني) تعود إليه مرّة ثانية، في شخص ليلى
الشقراء، كالعسل تزحف فوقه في أحلامه، تحرقه بشواظها، وتفيض غلمتها فوّارة في دمه
فينصبان جسدين توحّدا في شلاّل من النشوة الهاطلة.



في داخله شيء لا ينام.. يواصل الضجيج، يواصل
الحركة.. أعمق من الإحساس، متعطش لرائحة ذلك العبق الأنثوي الذي ملأ صدره مفوّحاً
من تلك الغادة، التي حلم بها منصهرة بين ذراعيه.



أدار قرص الهاتف، وطلب رقمها.. جاءه صوتها
ناعماً، متعثراً باللكنة:



-أهلاً (كابتن أمجد) كيفك.. اشتقنا إليك.


أسعدته هذه البداية، سأل عن وفا.. أعلمته أنه
خارج المنزل. قال لها مازحاً: -الشمس لا تشرق هنا أبداً. وعندما استوضحت مستغربة:



-هل تحدثني من القطب؟! أجابها: -أي مكان لا تتواجدين
فيه لا يحدث فيه شروق!



-آه.. إنك تبالغ كثيراً، كأي شرقيّ.. تفضّل.. قل
ما تريد.



-رغبتي، متوّجة بأشواقي.. تدفعاني كي أدعوك.


-ولم لا.. إن ذلك يسعدني، وخاصة مع من ارتحت
إليه.



كان اللقاء بها عذباً، ناعماً، تخلله البوح
بإعجابه بها.



تقبلت إطراءه بابتسامة راضية، توحي بالقبول، مع
محافظتها على مسافة دبلوماسية من السيطرة، والقدرة على المناورة.



فاجأته عندما قالت: -سأغيب لعدة أشهر.


-أتنوين السفر إلى بريطانيا؟!


-ليس بهذا المعنى تماماً، ولكنه سفر على كل
حال.. واعذرني، فأنا مضطرة لكتمان المكان الذي سأرتحل إليه.



استغرب قولها، ولكنه احترم رغبتها، وافترقا
بمشاعر مريحة لكليهما.






***

















-4-










وضع ملاحظاته على منهاج الدورة. وطلب زيادة كمية
الذخيرة المخصصّة. وخاصة للرمي الغريزي. وإطالة مسافة الدوريات حتى خمسين كيلو
متراً، ولفقرة تطعيم المعركة في نهاية المعسكر.. خطّط لقفزة ثقة فوق بحيرة
المزيريب من ارتفاع عشرين متراً، ومن متن حوامة، وأن يخصّص ساعتين من مساء كل يوم
لتعليم العبرية.



وافقت القيادة على ذلك، وبعد ثلاثة أيام، انطلق
بعربته الجيب إلى معسكره في منطقة بصر الحرير.



عندما اجتمع بالمدربين، والذي كان من بينهم
نائبه الملازم أول جهاد الذي طلبه بالاسم من القيادة.. تكلّم متوغلاً في أدق
التفاصيل، وهو يقطع بساطور تجاربهم كل العوائق التي تحول دون الوصول إلى الهدف
المنشود.



خِيَم المعسكر البعيدة عن الطريق العام مسافة
ثلاثة كيلو مترات والمموّهة بالطين، والشِباك. منصوبة فوق حفر إسمنتية بعمق يفوق
المترين.. بينما جُهِّزت برّاكتان كبيرتان، خصصتا واحدة للمطعم والثانية، قاعة
للدروس النظرية.



وقد بدا في الفسحة الشمالية، والملاصقة لغابة من
أشجار البلوط والزعرور، وتوزعت في أطرافها أشجار التين، والبطم. حقل الحواجز يقف
مهيباً، شامخاً، بل ومخيفاً في عدد من أجهزته. قريباً منه استدارت حلبة القتال
القريب، لامعة برمالها الناعمة، الصفراء.



تفقد الخيم، والأسرّة الحديدية، وصهاريج المياه،
والمطعم، وقاعة الدراسة وحرص على الدخول إلى الغابة.. حتى خرج منها إلى صخور
اللجاة. مفكّرته سوّدتها الملاحظات، والجُمَلُ القصيرة الهامة.. حدّد خطة الدفاع
عن المعسكر، ورأى أن الساتر الترابي المحيط به، يقدِّم فائدة جيدة.



كانت الأوامر، والتعليمات الواردة إليه، معنونة
دوماً بالترويسة التاليه:



إلى قائد معسكر تدريب المجندين الأغرار.


لم يعد أي أمر يعنيه.. محا من ذاكرته أي شيء
يمكن أن يأخذه بعيداً عن قطعة الأرض هذه.. في داخله كل أمر يتحرك باتجاه واحد
ومحدّد.. لا يتجاوز حدود مهمته.



يومان من الانتظار الممل لـه، ولضباطه، ولضباط
صفه.. تمايلت بعدهما على المحور الترابي، غير المستوي، ثلاث شاحنات قادمة معلنة عن
ذلك بزوابع من الغُبار المتطاير من تحت إطاراتها، وهي تحمل في جوفها تسعين
متدرِّباً.. بدؤوا عند وصولها، وتوقفها في ساحة المعسكر بالقفز منها بنشاط باد..
في ذلك الصباح الذي رفع رايات شمس أوائل الصيف الحارة. كل واحد منهم يحمل كيسه
الكتاني، المزدحم بمهماته العسكرية.



تفقد الضباط أغراض القادمين.. صودرت منهم وسائل
الترفيه حتى الكتب، والمجلات.. قال أحد الضباط معلّقاً: -لا وقت لديكم ستغفون
كالقتلى.



خصَص اليوم الأول لتوزيعهم على الخيم.. قُسَموا
إلى جماعات.. كان الحشد قوميّاً.. سوريون، فلسطينيون، عراقيون، أردنيون، جزائريون
ليبيون، يمنيون، ويتبعون منظمات فدائية مختلفة.



خُصِصَت للفتيات الخمس عشرة.. خيمتان، وبرنامج
خاص في بعض المواد.



لم يخرج قائد الدورة من خيمته في ذلك اليوم..
فانشغاله بتوزيع ساعات التدريب، ومواده، وتوزيع المدربين.. منعه حتى من تناول
طعامه، حتى أصبح كل شيء جاهزاً، وعندما خرج لاستنشاق مزيدٍ من الهواء.. كانت
النجوم تتلألأ في السماء.



ما حصل في اليوم التالي لم يكن صدفة إن اللقاء
الذي تمَّ على أرض المعسكر.. لم يكن كذلك أبداً. فلو حلّلنا تسلسل الأحداث،
والوقائع بشكل علمي، ومنطقي، لخرجنا بأن الأمر كان وارداً بنسبة مئوية عالية أعني
بذلك لقاء قائد الدورة بالفدائي وفا. أما أن يلتقي بأخته ليلى.. ذلك هو الأمر الذي
لم يخطر بباله أبداً..!!



كان الحدث مدهشاً لـه ولها.. لمعت العيون،
وارتسمت على وجهيهما أمارات الاستغراب. أسرع بإخفاء تعابير وجهه، وهو يقوم بتفقد
أرتال المتدربين، ويتعرف على أسمائهم، ووجوههم. قال لنفسه: هنا لا يعرف النقيب
أمجد أحداً.. إنهم جميعاً في منزلة واحدة.



ابتدأ التدريب متدرجاً في الصعوبة، والقسوة..
الأسبوع الأول لاختبار القدرات على التحمل، والصبر. في نهايته انسحب أربعة شبان،
وفتاتان.



هاتفه قائد اللواء. سمعه يقول له: -يا أمجد..
حتى ولو انسحب النصف.. نريد الصفوة منهم.



***


وجوه مغبرّة، مندّاة بعرق الجري، والقفز،
والوثوب. تصرخُ تصمتُ، ترقبُ، تُنفِّذ، تصعدُ جدرانا عمودية، تدلت منها حبال
كتانية وسلالم معدنية، شاهقة، تتوهج في عين الشمس، تلسع الأيادي الصاعدة إلى
القمة، أو النازلة منها. عيون تبرق باحثة عن خطوة أمان، في لجج الخطر الكامن عند
كل حاجز. وفي قعر كل حفرة ملأتها الأسلاك الشائكة. الليل زمن معطوب، متشلخ
بانفجارات القنابل الصوتية وأزيز الرصاص الذي أصبح بوقا للنفير، ودعوة تستفزُّ
الأجساد المنهكة، والعيون الغافية الحالمة بالراحة!.



عينا ليلى.. تبحثان عنه، ترمقه، تتحداه، في
صولاته، وأوامره المتشامخة، المعتدّة بالقيادة، والخبرة، لتثبت له أن هذا الصبيب
اليومي الخشن، القاسي، من التدريب.. لم يفتّ من صلابتها. بل زادها تماسكاً وقوة،
وأعطى جسدها ليونة، ورشاقة، تحسدها عليها فتيات نوادي الرشاقة، وراقصات الباليه
المحترفات.



مضت عشرة أيام.. ازدادت حركات القتال القريب
كثافة، وتعقيداً وكذلك دروس الهندسة العسكرية، وخاصة الألغام، والطبوغرافيا وقراءة
الخريطة العسكرية، واستخدام الأجهزة اللاسلكية، وفن الشيفرة وتعلم اللغة العبرية.



اقتصرت الدورة بعد الانسحابات على ستين شاباً،
وعشر فتيات. بدت لياقتهم البدنية قادرة على احتمال الشوط حتى النهاية.



***















ضحك العجوز الذي شابه جبل الشيخ بعمامته، ولحيته
الكثّة البيضاء.. ساخراً، وقال للجنرال دايان.. الذي فاجأه بأخذ يده، وتقبيلها
أمام الجمع المتواجد في ساحة بلدة مجدل شمس، في صبيحة منتصف تموز من عام 1967م. –أتعلم
بماذا أحسست يا جنرال دايان؟!



-بماذا يا شيخنا؟


-كأنما لدغتني أفعى!!


ذهل القائد الصهيوني، الذي تمتم بغضب: -لدغتك
أفعى إذاً؟! ثم تابع رافعاً صوته:-لو كان الوقت مناسباً.. لأرغمتكَ على الاعتذار
راكعاً.



ردّ الشيخ، مشيراً بعكازه: -أترى تلك التلة..
اسمها عين التينة.. هناك، وفي ذلك السهل من حولها، جرت معركة هائلة ضد الفرنجة
المحتلين. ولقد رحلوا من هنا، ومن فلسطين، ومن كل بلاد الشام.. ولم نركع، وكذلك
جرى للتتار.. وهنا، وهناك، وفي بقاع عديدة من حولك.. جرت ملاحم مع الترك،
والفرنسيين، وذهبوا مدحورين، ولم نركع.. إنك مجنون أيها الجنرال.. اذهب لشأنك..
ودعني جالساً في شمسي.



لاحقت قهقهات عدد من الشبان، والصبية سمع القائد
الإسرائيلي الذي أدار ظهره، وتابع سيره متجهماً، للاجتماع بوجهاء المنطقة المحتلة،
المتواجدين في مخفر الشرطة الفارغ.. بناء على أوامر قوّات الاحتلال. صوت دايان
يجعجع في الحاضرين.. إسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط..
دليلي على ذلك.. أننا سنقيم للفلسطينيين في الضفة الغربية حكماً ذاتياً، وسنعمل
على أن تقوم في كل طائفة دولة وأنتم في طليعة ذلك.. وسأضعكم بين خيارين.. إما أن
تقبلوا بذلك، وهذا لمصلحتكم، أو نرحلّكم إلى سوريا.. عندها سوف نهدم قراكم ونقيم
عليها مستعمرات لنا.



وقف أحد الحاضرين، وقال: -حسناً إذا أقمتم دولة
لنا، فكيف سنحمي حدودنا، ولا سلاح معنا؟!



ردّ الجنرال الإسرائيلي بصلف: -طبعاً سيكون
عندها قوّات شرطة لحماية الأمن.. أما الأمن الخارجي فسيقع على عاتق الدولة
الإسرائيلية وهي التي ستحميكم من أعدائكم.



نهض رجل من آخر القاعة متسائلاً: -ومن هم
أعداؤنا؟!.



التفت الجنرال إليه، وكأنه يستغرب السؤال:
-العرب طبعاً!! وضحك الحاضرون.



وقف شيخ في الأربعين من عمره.. بدا حليق الرأس،
من تحت طاقيته البيضاء.. شارباه يملآن نصف وجهه، وقال: -وما حدود هذه الدولة
العتيدة..؟!!



-ستضم أقاربكم في سوريا.. امتداداً إلى جبل
الشيخ.. إلى جبل الشوف إلى البحر.. هل هذا يكفي.؟



ردّ أحدهم ساخراً: -يكفي وزيادة.. إنه كرم
منكم..!!



-حسناً.. سأتحدث إلى عدد من قادتكم في
التفاصيل.. آه تذكرت.. من المستحسن أن تمحوا اسم سورية من أذهانكم، والآن انتهى
الاجتماع.



فوجئ الجنرال الصهيوني لحظة خروجه من باب المخفر
بحشود من الرجال، والنساء، والأطفال وما إن شاهدوه، حتى انطلقت حناجرهم بهتاف
مدوي.. مجدل شمس ثوري ثوريّ الجولان عربي سوري وصفعت عينيه الأعلام السورية
الخافقة فوق الأشجار.



اتفق وجهاء منطقة مجدل شمس على مهادنة الصهاينة،
وانتظار ما سوف تأتي به الأيام.



***


قال أبو كنج.. لعقيد الموساد: -سنحتاج رجلاً
قادراً على القيام بالاتصالات مع الزعماء في لبنان، وجبل العرب.. إنني أعرف شخصية
ذكيّة، ومناسبة.. محامٍ معروف مقيم في لبنان، ولا نستطيع أن نلتقيه هنا، أو هناك.



-نلتقيه في مكان آخر.. إيطاليا مثلاً.


عدّل الفدائي نضال جلسته في خيمة النقيب أمجد،
وتابع قائلاً وهو ينظر إلى ساعته: -أعتقد أنني أطلت عليك، ووقتك لا يسمح بذلك.



-أكمل.. أنا من طلب سماع قصّة اعتقال والدك لدى
العدو الصهيوني.



تابع نضال قصته، وهو يزفر متألماً: -أتعلم يا
سيدي أن قلبي، وكلماتي تضج بالحسرة، والغضب، لأن كُتَّابنا، وإعلامنا يغفلون، بل
يهملون أولئك الرجال الذين بمواقفهم، وصلابتهم، وتضحياتهم، غيّروا مسارات، ومفاصل
خطيرة، لو نجحت لتمزّقت أوطاننا إلى أكثر من سايكس-بيكو جديدة. لقد عمل العدو
جاهداً، وما يزال، وراهن، وما يزال مع العديد من المتآمرين، الذين تحت عباءة
ليلهم، يَنْصُبُ العدوُّ شراكه القاتلة.



***


في شهقة الفجر عند روما الغافية على الواقع
الصاخب لليل مضى.. حطَّت طائرة (الميدل إيست) على أحد مدارج مطارها الدولي. ترجّل
منها المحامي كمال.. مشى مسرعاً إلى أقرب تاكسي نقلته إلى عنوان (البنسيون)
المدوّن في ذاكرته. تمدد على سريره، وهو يتساءل عن معنى الإصرار الذي وصل إلى حد
الرجاء من صديقه الحميم أبو كنج كي يأتي إلى العاصمة الإيطالية، ولأمر خطير جداً!!
تبادل الرجلان تحية اللقاء.. قال المحامي باندفاع غاضب: -يا رجل (جبتني على قفاي،
كما يقول إخواننا المصريون، وهل الأمر بيستاهل هذه السرعة..؟!!)



-إن الإسرائيليين يريدون فصلنا عن قومنا العرب..
إنهم يعملون على صنع فزّاعة تحمي حدودهم، وتكرّس أمنهم، أهم ما في الأمر أن نتعاون
سوياً كي نكتشف الخطة من عقيد الموساد، ومن ثم تقوم أنت بإبلاغ القادة في سورية،
ولبنان، وجمال عبد الناصر في مصر كي يعملوا على إفشال هذه المؤامرة.



-حسناً.. يجب أن نماشي أفكاره، وإيهامه بأننا
معه، حتى نصل إلى ذلك.



-هل ترى الآن أن الأمر "بيستاهل"
قدومك..؟!



في أحد البارات الإيطالية.. قدّما له مزيداً من
الكرم، وتلألأت على الطاولة زجاجتان من أفخر الخمور المعتقة.



دار الحديث متشعباً.. تخللته بعض النكات. قال
المحامي مستفزّاً عقيد الموساد: -لا يأخذنك الغرور أيها الكولونيل بقدراتكم العسكرية..
العرب أمة هائلة القوى، والموارد، وهم لم يحاربوا في أيامكم الستة.



ضرب الطاولة بيده غاضباً، وبصوت عالٍ قال: -حتى
لو حاربوا.. جيش إسرائيل لا يقهر!!



قال أبو كنج معلّقاً، وقد أَحسَّ بأن الخمرة قد
تعتعت الرجل: حسناً أيُّها الكولونيل.. والآن ما هي خطتكم لإقامة دولتنا.. حتى
نناقش مدى جدّيتها، وقدرتها على التطبيق على أرض الواقع؟ ونكون قادرين على الحركة
في النور.. لأن أيادينا هي التي ستكون في النار، وليس أنتم.. لا نريد هدر الوقت،
وتلك الحسناء تنتظر دعوتنا لها إلى الطاولة. أجاب عقيد الموساد: -كل شيء في وقته..
لا أستطيع قول المزيد.. إنه أمر سريّ جداً!



قال المحامي كمال محاولاً إثارته: -أخي أبو كنج،
دعنا منه، إنني متأكد من عدم معرفته لأي شيء.. يبدو لي أنه ضابط موساد من الدرجة
الثانية لي مشاغلي الجمّة في بيروت، لذلك قرَّرتُ السفر الآن، على أول رحلة مغادرة
إلى لبنان.



نهض العقيد مترنحاً، ثائراً، وقال: -هذه إهانة
لا اقبلها.! إنني أعرف الخطة بأدق تفاصيلها.



قال أبو كنج مُعقِّباً: -إذاً.. قلها يا رجل،
وخلِّصنا!!



أجلساه.. فكر قليلاً، ثم قال مقرِّباً رأسه
منهما: -اسمعا.. سيقوم الجيش الإسرائيلي خلال شهر بالهجوم باتجاه حوران، وصولاً
إلى جبل العرب، وبعد ذلك يقوم حشد من المتعاملين معنا بالتصدي له ننسحب نحن،
وعندها تعلنون دولتكم.. وستكون الولايات المتحدة من أوائل الدول المعترفة بكم.



غمر الفرح الرجلين، وشربا نخب انتصارهما.


في اليوم التالي عاد المحامي كمال.. إلى لبنان،
وتم إبلاغ القيادات العربية الثلاث بالمؤامرة، وقامت على إثر ذلك الجبهة الشرقية،
وعلمت القيادة الإسرائيلية أن مخططها كُشِف.



في صبيحة يوم بيروتيّ جميل.. أدار المحامي
كمال..، مفتاح التشغيل في سيارته، وهو يبادل الابتسام، وتحية الوداع زوجته،
وأطفاله ولكنه كان الوداع الأخير.. تطاير، ومركبته في فضاء الشارع أشلاء مدّماة..
لقد فعلت أصابع (الموساد) فعلها الإجرامي المتفجّر!!



وهكذا أيّها الرفيق النقيب أمجد ألقى هذان
الرجلان قفازيهما في وجه إسرائيل، وأثبت أبناء الجبال ولآلاف المرات عمق تجذرهم
العربي وأنهم مدججون بالقلوب الأبية، الصادقة، والأيادي البيضاء المفرودة كالسحب
الداجنة بالنضال البطولي، المتسربل بالدماء، وبالمضافات المرحّبة، المعطرة بعبق
البن، الهادرة بالحداء المدوي فوق الصهيل المطارد من جبال اليمن، وسفوح نجد حتى
(بواتييه) مشرعين السيوف الدمشقية، واليمانية الموطدة للعدل، والحق، والمساواة.
صمت الفدائيّ نضال قليلاً، ثم قال:



-أترى كم أخذنا الوقت من أجل طلب إجازة قصيرة،
كي أبعث بهذه الرسالة، وعن طريق الصليب الأحمر إلى ولدي أبو كنج المعتقل في أحد
السجون الإسرائيلية، ومنذ ذلك التاريخ، وهذه الفرصة لا تسنح لي إلا كل ثلاثة أشهر.



***















اخترق معهم الغابة المتضوّعة على حرف الصخور.
دخل اللجاة وهم يتقافزون حولـه، وخلفه، كقطيع فهود رشيقة. أصبح الجري عبيراً
يتفوّح في الصدور، وأقدامهم المتواثبة ترشم على المسرح الصلد.. دفق الشباب وعنفوان
دمه. يتقدمون في حلق الوعر. يستكشفون سرّه الخالد، ويستشعرون نبضه الجليل، الوقور،
ويتنشقون رائحته المعطّرة بالزعتر، والرشاد، والشيح.



كانت ليلى غزالة رشيقة، ترقص ضاحكة، صارخة،
واثبة فوق الصخور، وخصلات من شعرها المعقوص، تتناثر مجنونة، متطايرة فوق جبينها
الذي لوحته الشمس، وهي تحاول جاهدة كي تبقى قربه متألقة، كالياسمينة.



لقد أدهشتها قيادته المحنكة، الحازمة، المنطقية،
وكذلك مرحه الذي يقلب التعب الشديد، والشدّ العصبي، والنفسي.. إلى اندفاع، وحيوية
ومتابعة، فامتلك قلوب مرؤوسيه، وحبهم له.



استمعت إليه بإعجاب، وشغف، شاركتها فيه جميع
الفتيات اللواتي في المعسكر. كان يحاضر فيهم بتحليل علمي، ولهجة محببة، وصوت واثق
عن أهم المفاصل التاريخية التي حصلت على أرض الأمة العربية.



استطاعت من خلاله أن تكوّن فكرة أشمل، وأدقّ عن
الحركة الصهيونية وجمعياتها، ومنظماتها السريّة، التي عاثت، وتعيث فساداً في
العالم، وعن اختلاق تاريخها المزوّر على أرض فلسطين.



ومن محاضرة ألقاها بعنوان (كيف كتب الصهاينة
تاريخهم) دوّنت في دفترها ملخصاً عن الأفكار الرئيسية التي طرحها.. إن إسرائيل
بحاجة دائمة، مُلِحَّة إلى اصطناع تاريخ لها، وهكذا عمد مؤرخوها وحاخاماتها تسجيل
روايات، وادعاءات تستهدف ربط تاريخهم بدول قامت لهم على أرض فلسطين، وبالعودة إلى
مؤرخين عديدين، ومنهم المؤرخة (كينون) التي تقول: -لا يزيد عمر مملكة إسرائيل على
أرض كنعان عن ثمانين عاماً، وهي الفترة الوحيدة التي أصبحوا فيها قوة سياسية.



لقد أضفوا على تخرّصاتهم مسحة دينية، وصوفية،
ولو اتبع اليهود غير ذلك لوصفوا بالتعصب الديني، والرجعية، أو التشبث بخيالات
بالية، وكان ذلك من دهاء دهاقنتهم.



وقررت ليلى أن تكتب في هذا الموضوع باللغة
الإنكليزية، وتعمل على نشره بالصحف البريطانية. تكلم قائد الدورة عن الفظائع
والمجازر التي ارتكبتها المنظمات الصهيونية بحق العزّل من أبناء شعب فلسطين، وعن
مؤامرة بريطانيا، والغرب، وتواطؤ الحكّام العرب الذي ساعد اليهود في إقامة دولتهم،
وتهجير شعب فلسطين.. تكلم عن إيمانه المطلق بأن الحق لن يعود إلى أصحابه إلاَّ
بالكفاح، وعدم اليأس مهما طال الزمن.



استمعت إليه وهو يشرح، ويحاور. روحها تطوّقه،
وقلبها يحضنه وعيناها تزغردان في عينيه.. لقد أحبته.



تقدم منه نائبه، وقد تصبّب جسده عرقاً: -لم يتبق
إلا عشر دقائق على موعد إفطار الدورة!



-أتمنى أن أبقى هنا.. يا جهاد حتى ليوم كامل..
لا أرغب بالعودة.. الوعر يقول لي ابقَ.!



ضحك الملازم جهاد، وأجاب: -أمكث وحدك.. الشباب
جاعوا سنحتاج إلى ربع ساعة للوصول، حتى لو طرنا..!



























-5-










في تلك اللحظات الفاصلة بين اللجاة، والمحرقة..
بين السلامة، والأشلاء الجسدية المتطايرة.. عشر دقائق من التأخر على موعد الدخول
إلى قاعة الطعام. كان فيها النجاة من الهول الذي حوّل معسكرهم إلى فرن من الجحيم.



الصخور صارت دروعاً، وصدوراً حانية، تضمّهم،
تخبّئهم، وعيونهم ترقب الغربان الداكنة اللامعة، وهي تفرغ جوفها بطرود الموت
الإسرائيلي.. هكذا مذابح دير ياسين، وعيد الميلاد في بيت لحم، وقبية ومذبحة
الأطفال في وادي فوكين، ودير أيوب، وغزّة، والتوافيق، ومدرسة الأطفال في بحر
البقر.. وغيرها، وغيرها.



المدفعية الصديقة تحفر السماء بقذائفها
المتفجرة.. نقل الوعر إليهم صدى بعيد لهبدات محتضرة قادمة من الشرق.. صاح أحد
المدربين في أذن أمجد: -إنهم يقصفون معسكر الفدائيين في حرش قرية الكفر القريبة من
مدينة السويداء.



قفز الفدائي وفا نحوه والدموع تترقرق في عينيه،
قال أمجد:



-ما هذا يا وفا.. هل أنت خائف..؟!!


-خائف.. بل منهار.. لقد حلّت بي مصيبة..!!


-أية مصيبة تعني..؟! الجميع هنا.. لقد نجونا.


-مذكّرات والدي.. لقد صادرها المدربون عند
قدومنا إلى المعسكر.. إنها في خزانة، في قاعة الدراسة، مؤكد أنها احترقت، لو قطعت
يدي كان عليّ أسهل.



***


-قتيل، وثلاثة جرحى من عناصر الحراسة، والإطعام،
برّاكة المطبخ برّاكة المطعم، احتراق خيمتين، أضرار في حقل الحواجز.



-ومن عناصر الدورة يا نقيب أمجد.؟


-لم يخدش أحد.


-وكيف ذلك..؟!!


-لحسن الحظ.. مع أنهم جاؤوا.. وهم متأكدون أننا
في قاعة الطعام، إلاَّ أننا كنا لا نزال في الوعر، عائدين من درس الرياضة.



-الحمد لله. لقد قدرّنا أن الخسائر ستكون
فادحة.. حظك يفلق الصخر خلال ساعتين سأكون عندك. وأغلق قائد اللواء سماعة الهاتف.



دخل إلى خيمته الملازم أول جهاد، وجلس ساهماً،
مفكراً: أراك شارداً ماذا يدور في رأسك..؟!



-إن صدق حدسي.. كما يدور في رأسك..!


-أسئلة محيّرة يا جهاد! مكان المعسكر.. ومعرفتهم
ماهيته، والتوقيت الدقيق للقصف.! الدورة في المطعم.. وعلى بعد كيلو متر واحد فقط
يوجد معسكر السياقة ولم يقصف..! المدفعية المضادة موجودة في مرابضها من قبل إنشاء
معسكرنا.. إنهم يريدوننا نحن بالتحديد..!!



وعقب جهاد قائلاً: -وقصف معسكر الفدائيين في حرش
الكفر، في ذات الوقت.. علماً أننا لم نُبلّغ عن أي استطلاع مسبق لطيران العدو..!



تابع الملازم جهاد، وهو ينهض واقفاً: -حتى لو
كانت أقمار التجسس إنهم يحتاجون لأكثر من عشرة أيام للتدقيق، وإرسال عملائهم
للتأكد.. إن في الأمر رائحة كريهة..!!



ترجّل قائد اللواء، وبرفقته رئيس قسم الاستطلاع،
ومع قائد الدورة ونائبه تفقدوا المعسكر، ثم دخلوا جميعاً خيمة النقيب أمجد.



تحلّقوا حول الطاولة.. قَدَّمَ للقائد لائحة
الخسائر، والطلبات، ثم عرضَ أفكاره. كانت لائحة المنسحبين من الدورة.. أسماء،
وعناوين تحت أنظارهم.. بينما برز خطان أحمران تحت الاسمين المحتملين للشبهة.



-لماذا هذا الاسم يا أمجد؟


-لأنه كان يطرح أسئلة كثيرة لا علاقة لها
بالدورة، ويحتك بعناصر الحراسة، وبرغم التنبيه الشديد على منع آلات التصوير، إلاَّ
أننا ضبطنا معه واحدة ادعى أنه نسي الإعلام عنها، وكان على صداقة مع..(ع).






-والآخر ما هي قصته..؟


-بعد أيام من وصوله المعسكر قال إنه يحمل مبلغاً
من المال أمانة لأحد الفدائيين في حرش الكفر، وألحّ بطلب إجازة نهارية لتسليمه
الأمانة.. لقد تأكدت من وجود المال، واضطررتُ لتلبية طلبه.



أشعل قائد اللواء سيجارته، ثم قال: -حسناً
سنتحقق من كل ذلك.. والآن أعطني خريطتك يا أمجد. فردها فوق المنضدة.. أخذ قائد
اللواء قلماً أحمر.. رسم دائرة لامس ميحطها قرية.. قرأ اسمها بصوت واضح (قرّاصة)
وتابع: -إنها تتبع محافظة السويداء.



علّق أمجد قائلاً: -هذا يعني أننا سنغادر
معسكرنا هذا.



-صباح الغد تذهب لاستطلاع المنطقة.. ستجد
معسكراً قديماً.. يصلح لمتابعة المهمة.. يوجد سرية دفاع جويّ بالقرب منه، الانطلاق
إلى المتموضع الجديد.. اعتباراً من ليل الغد.. الساعة العشرين.. دوريات من الطيران
الصديق ستكون في الجوّ طيلة النهار القادم.



***


اقتحم وفا، وليلى قاعة الدراسة، كان سطح
البرّاكة مخردقاً بالطلقات.. أما خزانة الكتب، فقد انتصبت في مكانها، وكأنما
تبادلهما نظرات الفرح بالبقاء سليمة على قيد الحياة..!



***


مائتا متر المسافة الفاصلة بين تمركزهم الجديد،
وقرية قرّاصة. بيوت حجرية صلدة، متجهمة، تتناثر في السهل المتوعّر برصانة وعظمة.



علت أكثْر بيوتها مضافات، وعلالي ذات فسحات
رحبة، وقد خضبّت بعضها مساحات طينية متشلقة بسريالية متفردّة.. فأتت حداثة المنازل
الإسمنتية نشازاً مرفوضاً في اللوحة القديمة المرسومة منذ آلاف السنين لهذه البلدة
المطوّقة بعدد من كروم التين، والعنب، والتفاح.



في أول صباح لهم في تعسكرهم، أفاق معظمهم، على
صياح الديكة ورائحة خبز الصاج الفوّاحة من طاقات المواقد الملتهبة بنيران القَصَل،
والشيح، وزبارة الكروم. وترافق شروق الشمس مع أنغام غريبة ذات وقع طروب.. تملأ
الفضاء، وهي تترشرش متعددة الألحان. على تساؤل البعض أجاب الملازم جهاد: -إنهم
يهرسون القهوة المرّة بأجران خشبية، مصنوعة من جذوع أشجار التوت.



هذه الأجران، وهي تخبئ في جوفها حبات البن
المحمّصة، تصدح برنينها.. الذي تعزفه عصا المهباج المزخرفة.. تتلاعب بها يد خبيرة
رشيقة.. داعية الضيوف لتذوّق فنجاناً منعشاً من السائل الحار، المرّ الأسمر،
المعطّر بحبات الهيل الخضراء.



قال أبو غنوة، الفدائي الجزائري، الذي لقبه أحد
المدربين بـ (القميزي) لتفوقه بالقفز العالي: -إنني في شوق لتذوّق هذه القهوة.



وعندما تساءل الجزائري عن خلفية هذا اللقب، قال
المدرب:



-يجب أن تعتز به. لقد لقب به أحد أبطال ثوّار
جبل العرب، لاستبساله في معركة هائلة مع الأتراك.. لقد قفز وهو على ظهر جواده من
فوق أحد مدافع العدو، مطيحاً برأس المدفعي، بضربة صاعقة من سيفه المحنى بالدماء.



***


أصبح معسكرهم الذي بذلوا فيه جهداً شاقاً
لإصلاحه، وتنظيفه وجعل الحياة فيه مقبُولة، وأكثر ألفة، وحميمية، بجوار هذه القرية
الضاجة بالحياة. عيونهم تبتسم لزرافات أطفال المدرسة، وهم يلوّنون الصباح المندى
بالنسائم العليلة، وبثيابهم، وحقائبهم، والأيدي الصغيرة التي تلوّح لهم بالتحية،
وصراخهم الذي يأخذ بالخفوت كلما اقتربوا من باحتها، أما في زوايا الطريق الوحيد،
المعبد، الذي يمرّ بالقرب من المعسكر.. يتجمّع الطلبة، والطالبات، انتظاراً لمرور
الحافلة الوحيدة على ما يبدو.. لتنقلهم إلى مقصدهم العلمي، في بلدة أكبر حجماً.



كان المعسكر مكشوفاً لكل القرية المتطلعة، التي
تنظر بلا عائق مشاهد تدريباتهم القاسية، المضنية، فتتمتم شفاه الأمهات، والعجائز
والصبايا الذاهبات إلى عين الماء، لتعبئة جرارهن.



-(يا حرام هالشباب.. ليش عم يعذبوهن هيك..؟!!)


أما عن فتيات المعسكر، فكان الخطاب مختلفاً..
وتأتي الشفقة مستغربة، مُملِّحة بقليل من الحسد، والغيرة، والدهشة، لرشاقتهن:



-(ليكي.. ليكي.. عم بينطوا بينهم مثل العفاريت..
في وحدي شقراً، أطول وحدي.. الشيطانة مثل الأجنبيات.. هذيك هي.. اللي شعرها
جدّوله..!!)



بدا النقيب أمجد، وعناصره، كالعراة أمام النظرات
المتطفلة، لذلك قرر وضع حدّ لهذا الأمر.



توافق هدير الجرافة، وهي تقحط التراب، والحجارة،
من أجل إقامة الساتر حول المعسكر.. مع انصراف التلاميذ من مدرستهم، أرغم الحارسان
على الإجابة عن عشرات الأسئلة المتراكضة خلال شفاههم.. إلا أنهما اضطرا للكذب
عندما سألهما أحد الصبية: -(مين هذول إللي عم يدربوا..؟)



-إنهم شرطة.. دورة أغرار.


-(شو يعني أغرار..؟!)


-مثلكم في الابتدائي.


-لكن معهم بنات..؟!!


-الشرطة.. فيها بنات.


وعلمت القرية بأسرها ماهية هؤلاء الجيران، الذين
لا يهدؤون.!



***


-هذه (نزاله) يا ابني.. عندما يسكن بجوارك جار
جديد.. ألا تدعوه إلى بيتك..؟! هذه عادات عربية، لا يجوز إهمالها..!



-المشكلة يا عم أبو شبلي، في وقتنا المشغول
دوماً.



-حسناً.. ألا تعطلون يوم الجمعة.؟!


-أجل.. ولكنه يوم إداري.. حمّام.. تنظيف سلاح..
و..



قاطعه قائلاً: -مهما حاولت.. لن أقبل أعذارك..
كلّها ساعتين.. ثلاث.. سنحتفل بزفاف أحد أولادي.. عصفورين بحجر.. (بتشرفونا على
الغدا وتشاركونا فرحتنا). وتابع أبو شبلي، مختار القرية: -(وبعدين يا ولدي.. هون
الدار أمان.. وكلُّنا حرّاس على سلامتكم).



-حسناً.. يا مختار.. قبلت الدعوى.


-الدعوى للجميع، وليس لك وحدك.


بدت الدهشة سافرة على وجه قائد الدورة، وقال:


-عددنا كبير، وهذا غير معقول.!!


-مهما كان عددكم.. الله محيّيكم.


وقف المختار مودعاً.. ثم بدا، وكأنه تذكّر
أمراً:



-حمّلتني أم الأولاد استفساراً.. هل يخدم معكم
ضابط يدعى جهاد المسعود.؟



-نعم إنه هنا.


-إنه من أقاربها.. الله يرحم أباه.. نود التعرف
إليه أيضاً.



-الملازم أول جهاد.. صديق، وزميل.. سنكون معاً
في ضيافتكم.






***















تثقّب الهواء، تشلّخ، أزّ الرصاص المزمجر،
السافر.. توجّع صدر الصخر.. أرسل أنينه على أجنحة الطلقات المرتدّة.. الضائعة
الرشد.



قالت أم علي، التي تجاوزت عقدها الثامن.. فلم
يبقَ سليماً من الألم سوى عينيها: -(طبعاً ابن المختار بيقوسو بعرسو.! والدرك ما
بيحكو..! معلوم مسكَّر بوازهم بلحم الخرفان، والجاج! أما بعرس ابني ما حدا بقوّس.!
إللي بيو كان بطل المعارك!)



وردت كنّتها نوفلية: -(يا مرت عمي.. هذول العسكر
إللي إجو جديد عبيتدربوا على القواس.)



صدّقت أم علي جواب كنّتها.. بعد أن رجّت غرفتها
من وقع الانفجارات المدوية للقنابل اليدوية.



صعدت متثاقلة، مستعينة بعكازها إلى شرفة
العُلّية.. نظرت إلى الشرق.. شاهدت غيوماً سوداء مطبقة فوق الوعر.. عند (رسم المشاميس).



-(يا نوفلية.. هذا قواس مدافع الفرانسوية.. شوفي
الثوّار.. سيوفهم عبتلمع.. البيارق ماشية قدامهم.. شوفي.. هجموا عليهم.. أي إخوتي
اذبحوهم.. عليهم.. الله ينصركم.. الفرنساوي انكسر.. يا نوفلية.. اسمعي صوت الحدا..
وهذاك أبو علي بأولهم.) بدأت أم علي بالغناء:




ع
المزرعة رزم المدافع، والقواس









خرس
البارود تقول سوق الحدّادِ





لما
لكد فرساننا على المتراس









عطل
الرمي، وازدان سوق الطرادِ





يا
الله نحنا دوم للوطن حراس









يا
رب تنصر الأحرار على الأعادي











صاحت بها نوفلية: (يا مرت عمي انزلي.. فضحتينا..
يا شحاري الحُرمة خرّفت.!!)



وردّت العجوز، وهي تنزل بجسدها الواهن، وظهرها
المقوّس:



-(الله يلعن جيلكم.. دم ما فيكم.. ولك أني لما
بسمع صوت الرصاص.. لساني بياكلني.. إذا ما زغردت.!!)



***


انحنت هامة النهار.. تحية لفرح العروس الأبيض،
المتلألئة سعادة على جسدها، وعلى صويحباتها اللواتي تحلقن حولها.. فراشات زاهيات
يخفقن بالشباب المتوهج بالأنوثة، والحسن المتبرّج.



الحبق الناظر من الشبابيك المطلة على الزغاريد..
تفجّر شذا.. يرشرشه فوق أزقة القرية المحتفلة بالزفاف.. وشلال أغنيات النسوة يتدفق
عذباً، رخياً، صادحاً مع نقرات الدفوف، ورقصات (الهولية) بألحانها الشجية،
المهتزّة في الأجساد الملوّنة، المزركشة.. بالتنانير المياسة المتفجرة بالجمال
المعطّر.



[td:

يا
أم التنورة الصفرا صباغ الليمون









حاجي
غنج، ودلاعة وتذبيل عيون





حاجي
غنج، ودلاعة يا أم الساعة









نِزْعلتي
ربع ساعة كهربتي الكون






الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
قمرية

قمرية


نقاط التميز
عدد المواضيع : 69
نقــــــــاط : 85
تاريخ التسجيل : 18/02/2010

الرقصة الاخيرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: الرقصة الاخيرة   الرقصة الاخيرة Icon_minitimeالثلاثاء فبراير 23, 2010 8:54 am

بينما اشتعلت ساحة القرية بدبكات المجوز،
والشبّابة المثمولة بإيقاعات الشباب التي تدقّ الأرض.. بعنف موزون.. وفي لوحة
أخرى.. يضجّ الحُداء المجلجل.. المنتشي بكلمات القوة، والبطولة.. وذلك على وقع
ألحان (الجوفية) الهادرة:




يا
الله يللي حاجزٍ موج البحر









يا
عالياً لازم دعانا تسمع





تجعل
سعدنا عالياً فوق البشر









قيدومنا
يشبه شبيب التبعي





غربي
(السجن) ع المزرعة وشرقي (بصر)









دم
الفرنسي بالمواطي منقّعِ





مشوربنا
يوم اللقا --- الدم الحمر









وسيوفنا
بروس الأعادي قُطَّعِ











***


استقبل المختار أبو شبلي ضيوفه.. في مضافته
الرحبة.. حيث فرشت (التواطي) بالسجاد الزاهي، وتوزعت الوسائد الصوفية المدرّبة
بألوانها المتعددة.. وحول حفرة الموقد المهيبة، الواسعة، والمبلِّطة جدرانها
بالحجر البازلتي الأزرق.. صُفّت دلال القهوة المرّة.. المختلفة الأحجام صفراء..
براقة كالذهب.. وهي تتوهج في أشعة الشمس.. التي أرسلت شعاعها عبر النوافذ
الكبيرة.. المطلّة على الوعر.



أما فتيات المعسكر.. اللواتي استقبلن بحفاوة،
فقد أدخلن إلى دار واسعة، مبلّطة الفسحة.. حيث (صُمِدَت) العروس على أريكة زاهية
في جانب رئيسي منها.



كنّ بلباسهن العسكري، وكأنهن قد خالفن.. قوانين
الطبيعة..! بين هذا الحشد الأنثوي.. بأزيائه الخلاّبة للبصر. نادت إحداهنّ:



-(يا بنات.. جيبولهن تنانير.. خلوهم يجربوا
لبسنا.)



تمايلن أمام المرايا بأثوابهن الجميلة.. وهن
فرحات بالعودة إلى جنسهن.. أما ليلى، فقد بقيت ترقبهن مُحرجة، حزينة.. لأنهنّ لم
يجدن لها.. من كل ما عرض عليها.. ثوباً يناسب طولها.!



قالت أم العروس، وهي ترمي بآخر سهم.. لحل هذه
المشكلة:



-(ما بتلاقوا على قياسها.. إلا عند أم علي.)


وردت إحدى الحاضرات: (معقول..؟!.. العجوز صار
عمرها فوق الثمانين.!!)



أجابت امرأة أخرى: (هاي ما بتضيّع شي.. حريصة
حتى على الإبرة، والخيط!!)



رفضت أم علي الطلب.. وقالت مهدَّدة بعكازها:
(تنانيري ما بعيرهم لحدا.. اشترى قماشهم أبو علي من حيفا بعشر مجيديات.!!)



استطاعت كنَّتُها إقناعها بعد أخذ، وردّ.. مع
كيل قناطير المديح لها.. وبكرمها.. والأيمان المغلّظة.. بأن التنورة ستعود إلى
مكانها.. بعد ساعات قليلة)



سارت أم علي إلى صندوقها المُطَعَّم بالصدف، وهي
تتمتم بكلمات مبهمة.. وقد غرقت عيناها في بحر من نظرات الشك، والريبة.



ازداد ارتجاف يديها، وهي تمدها داخل الصندوق
الممتلئ بثياب من "المخمل، والجورجيت، والشيفون". اكتسى وجه العجوز
بالحزن الشديد ودرجت دمعتان حرَّتان على خديها.!



أدارت ظهرها لصندوقها بحركة فاجأت كنِّتها..
وقالت بصوت متألم خافت: (أعطيهن.. إللي بيريدوه).



لم يستطع وفا البقاء جالساً، وكذلك فعل بقية
زملائه.. لقد ألهبت حرارة الحُداء الدماء في عروقهم.. فانضموا إلى رجال القرية،
وشبابها.



وهم يهزجون في صفين متقابلين.. كلمات الأغنية
المتجذّرة في الأرواح.. فداء، وبسالة، وفي الأرض إصراراً على الكفاح حتى النصر:



1ً- بالروح نفدي وطناً.. لو صاحَ صوتِ المنادي.. بالروح نفدي
وطناً



2ً- حريبنا ما تهنّا.. ولا ذاق طعمِ الشهادة.. حريبنا.. ما
تهنّا



3ً- بشرعنا الموتِ سُنّة.. يا مرحباً.. بالشهادة.. بشرعنا
الموت سُنّة



4ً- والقدسِ ما تروح مِنّا.. وفينا صبيٍّ ينادي..والقدس ما
تروح مِنّا



تتابعت كلمات الأهزوجة مترعة بالبساطة الصادقة..
متدفقة بالمعاني المُحرِّضة على عشق الوطن، والتضحية لأجله.



بناء على طلب النقيب أمجد.. كتب أحد شبان القرية
كلماتها.. لقد قرأَ في عيون رجاله.. رغبتهم في أن تكون من إحدى الأهزوجات التي
يرددونها عادة عند العودة من تمارينهم.



جاء الطعام كريماً.. وزِّعت عشرات المناسف
المتخمة بلحم الخراف، وقطع الكبة المحشوة باللحمة، وأنواع المكسرّات.



ردَّ الجزائري (القميزي) على تساؤل أحد زملائه
عن تذوقه للقهوة المرة، والطعام، فأجاب مهللاً، مؤكداً إعجابه بإشارات من يديه:
(لا بأس.. لا بأس.. كلش بتاعهم باهي)



أُستدعيَ الملازم جهاد إلى داخل الدار، للتعرف،
والسلام على قريبته أم شبلي.. كل شيء منضّد.. مرتب.. النظافة تلمع في الأرض وعلى
الجدران.. الستائر مكوية زاهية.



لم يحن بعد موعد مجيء (الفاردة) بالعروس.. إلا
أن الدار الخالية تقريباً من الناس في تلك الساعة، كانت على استعداد تام لاستقبال
الضيفة الجديدة.



الترحيب، والعواطف الجيّاشة، المعلنة، يقبلتين
على خديه.. تلاها رشاش من الأسئلة، والاستفسارات عن الأهل، والأقارب.. تركزت في
معظمها على كبار السن.. مَنْ ما زال حياً؟ ومن مات؟.. (ومنذ عشرة سنوات لم أرَ
أحداً من أهلي يا بنيّ.. الله يقطعهم اليهود.. حرموني شوفتهم.)



جاءه الصوت ناعماً من وراءه: -إذا لم يخب ظني..
الملازم جهاد أليس كذلك يا امرأة عمي.؟!



-(أيوا يا بنتي.. من ريحة الحبايب.)


التفت باشّا.. ولكنه اضطرب حالماً رآها.! قدَّمت
نفسها بثقة:



-غادة.. معلمة ابتدائي، ابنة أخيه للعم أبو
شبلي.



مزيداً من الدماء الحارة تدفقت في وجهه، وتجمعت
بعض حبابات العرق فوق جبينه.. كانت الفتاة آسرة.. لقد أودعت في عينيها ألقاً
مفعماً بالوميض.. فازداد خفقان فؤاده.. وبلا مقدمات شعر كمن وجد كنزاً وأدرك.. أن
عشقاً كبيراً سيحمله في قلبه لهذه الغادة.!



لاحظت أم شبلي اضطرابه فعزفت فوراً على الوتر
المناسب:



(شو رأيك بها العروس؟!) غنجت الفتاة.. ناظرة إلى
الأرض:



(مرت عمي.. مش وقت هالحكي!) وردّت أم شبلي.. وهي
تضربها على يدها بأطراف أصابعها: (خير البر عاجله يا غادة.. وبعدين هذا قريبي..
ومثل أولادي.. وأنتِ وهوي لايقين لبعض.)



بعد أسبوع واحد.. احتفلت (قرّاصة) بخطبة جهاد
وغادة. قدَّمَ أمجد هديته إلى الخطيبين، وكذلك فعلت ليلى.. غمز جهاد بعينه، وهو
ينظر إليها قائلاً: -لا تخبّئا رأسيكما في الرمال.. الجميع يعرف سرّكما المضيء
كالشمس. وتساءل: -متى ستضعان هذا القيد في إصبعيكما.



ورفع بيده إلى الأعلى خاتم خطبته. ضحكت ليلى،
وأجابت: -بعد قفزة الثقة.. إذا تحرك جبل الجليد.!
















استعر في جسده الفضول.. وسأله نفسه مراراً: (ما
هي هذه المذكّرات التي تجعل شاباً صلباً، قاسي الطباع.. مثل وفا يبكي خوفاً
عليها؟!!) راودته نفسه مراراً.. أن يستأذنه في قراءتها.. إلا أنه كان يحجم عن ذلك!



جاءت إجازة المرحلة الأولى للدورة.. بعد أن أجرى
لهم امتحاناً وصفوه جميعاً بعبارة ضاحكة (الامتحان المفترس) معللين ذلك كونه افترس
أبدانهم من التعب، والإجهاد الفكريّ.



لم يوافق قائد اللواء إلا على أربعة أيام، من
الأيام الستة التي طلبها لهم كإجازة. قرّر أن يقضي إجازته في المعسكر.. يضع خلالها
برامج المرحلة الثانية.



أما الملازم جهاد.. فلن تعنِ له الإجازة شيئاً..
لقد أصبحت قرّاصة.. جنّته، وإجازته.. وتمنّى كما قال لأمجد.. لو يستمر تواجده في
هذا المعسكر إلى ما لا نهاية.



صافح قائد الدورة طلاّبه فرداً، فردَاً، وعندما
جاء دورها.. كانت رسالة عينيه ساطعة بضياء الحب، وحزن البعاد، ولو إلى حين.



طلب من وفا موافاته إلى مكتبه: -إذا لم يكن في
الأمر إحراجاً أو مانعاً.. أرغب قراءة مذكّرات والدك رحمه الله.



فوجئ بقوله: -هذا يسعدني جداً.. إنها في
الخزانة، وتحت تصرفك. لقد أحضرتها ليلى لتقرأها للمرة الثانية، وها أنتم حرمتموها
من ذلك.!



-آسف.. إنها التعليمات.. لا وقت لديكم
للمطالعة.. النوم يعني النوم.. كي تستعيدوا نشاطكم لليوم التالي.



غادره وفا.. أما هو فبقي مصمماً على البقاء في
مكتبه.. إن خرج لوداعها.. فلسوف يحرجها أمام زملائها.. لقد وضعه الخبثاء تحت رقابة
مشدّدة.!



طلب من مراسله.. أن يجهز له (نارجيلته) فمنذ
أكثر من أربعين يوماً.. لم يتلذذ بتدخين نفس من التنباك.!



أقنع نفسه بالراحة.. فالهدوء، والصمت، اللذان
خيّما على معسكره أويا بروحه إلى سكينة من التفكير، والتحليل.. تساءل: (لماذا لا
يكتب كل منا مذكراته؟! إن هذا سيبقى زاداً، وذكرى.. للأبناء، والأحفاد يتعرفون من
خلالها إلى حياة آبائهم، وأجدادهم.. تفكيرهم.. عاداتهم.. حبهم.. كرههم.. نضالهم..
مشاغلهم.. وكيف مضت حياتهم.. يوماً، بيوم.



قال لنفسه: -لكن.. هل نملك الجرأة أمام الذات..
لنسجل ذلك بنزاهة وصدق.؟



وتابع متسائلاً: -أرجو أن يكون أبو الوفا قد
امتلك ذلك.؟



***


فكّر، وهو ينفث دخان نارجيلته.. هل هي الأقدار..
أم الصدف.. أم حركة الأحداث التي وضعته في المكان، والزمان، الذين سمحا له بقراءة
ما كتبه رجل، ومنذ زمن بعيد، عاش في مكان من بلدة طبريا وفي ظرف لم يعشه.. لا
تربطه به صلة، ولا معرفة!.. ولكنه سيكتشفه ويدخل إلى قلبه، وعقله.. من خلال حروفه،
وكلماته.. التي وضع فيها نبضات روحه، واحتراقات دمه.



تساءل مستغرباً: ولم هذا الاهتمام؟!.. هل هو هذا
الفدائيّ الذي دخل حياته مكرها؟!.. أم هي ليلى.. التي ساقتها الأقدار إليه، فأصبحت
تسري في دمه خدراً لذيذاً.. عند منامه.. وإشراقة صحوه النابضة بالحياة أم هي قضيّة
العرب المركزية.. فلسطين.. التي تتحكم بحياتنا.. وآلية أيامنا، ومصيرنا.. تدفعنا
للدوران على محيطها.. تجذبنا بقوة نحو مركزها.. كي نتلاقى، نتعارف، نتحاور،
نتخاصم.؟!.. قرّر كل ذلك ممكن.!! لم يكن بحاجة للبحث عنها طويلاً بين المجلات،
والكتب المرصوصة، المغبرّة في الخزانة الحديدية، التي سلمت من القصف.



***


صفرة غلافها، وتجعّد أوراقها.. علامات ميّزة
للدلالة عليها.. تناولها نفض الغبار عنها.. خيّل إليه أنّها تنشر حولها إشعاعاً
واضحاً غامضاً، وحنيناً يدفع المرء لقراءتها.



غربتها القاتلة، وحزنها الدفين يزداد عندما
تُركن فوق رفّ مغبرّة مهملة!.. جلس إلى منضدته.. تصفّحها.. تراءى له وجهاً
مبتسماً.. في عينيه ذكاء، وشقاوة.. غضب، وحزن، ودموع.. جسده شفيف.. قلبه ينبض
بإيقاعات تتعاظم، تصرخ، ترسل شواظاً من أعين دامعة، مدمّاة وأفئدة نازفة، مغروسة
فيها خناجر كتب عليها آيات، وخطوط عربية والفواصل بينها.. نجمة سداسية ذات أذرع
طويلة، بشعة، توزعت عليها تجاويف ماصة، تقطر قيحاً.. يفحُّ رائحة كريهة.



فرك عينيه.. عبَّ الهواء.. وضع المذكرات تحت
وسادته.. خرج قاصداً مضافة العم أبو شبلي.



عندما عاد في السابعة مساء.. دخل باحة المعسكر..
شاهد عربة تحمل لوحة سوداء.. تقف أمام مكتبه.. أعلمه مراسله عن شخصين بالزي المدني
ينتظرانه منذ نصف ساعة. حدس أنهما من رجال الأمن العسكري. قال الأقرب إلى مكان
جلوسه.. وعرف أنه ضابط من الطريقة التي خاطبها بها: -نقيب أمجد.. قيادة الأمن
العسكري تقدم لك شكرها الجزيل.. ملاحظاتك عن الرجلين عندما قصف معسكركم السابق..
وضعت يدنا على شبكة عملاء لصالح العدو.. وَرَدَ خلال التحقيق اسم فتاة هي من تعداد
المتدربين لديك.. نريد كل ما تعرفه عن (ليلى النجدي).



لو أن رصاصة اخترقت جسده، أو أفعى لدغته، أو سقط
في هوّة عميقة القرار.. لكانت الصدمة أسهل عليه من ذلك القول الذي اخترق سمعه!!..
لم يستطع رغم كل محاولاته للسيطرة على قسمات وجهه وإخفاء الدهشة الغاضبة،
الحزينة.. التي ارتسمت على محيّاه.. وتركزت بشكل خاص في اتساع حدقتيه.!!



ابتسم الضابط ابتسامة خفيفة.. وقال متشاغلاً بأوراق
أمامه:



-نحن نعلم بأنها أثيرة عندك.. ولكنّ الوطن فوق
كل شيء.. على أيّة حال.. إنها في موقع الشبهة حتى الآن.



-هل هي عندكم؟


أشار الضابط بالإيجاب، بانحناءة من رأسه. مضت
ساعة من الزمن.. غادراه بعدها، وقد سجّلا أقواله.. التي ختمها بتوقيعه.



***


دخل في متاهة من التفكير، وهو يسير في مكتبه
ذهاباً، وإياباً.. يحلّل، ويدقّق، يستعيد كل حركة قامت بها، وكل كلمة سمعها منها..
علّه يهتدي إلى فتحة تضيء له منفذاً ولو بحجم (خرم الإبرة) كدلالة على الشك بها..
إلا أنه لم يجد سوى جملة واحدة، مازحة (تزوّج القضيّة) لقد رأى فيها شيئاً.. يمكن
أن يكون استخفافاً، أو هزءاً.!



شرنقة من الصمت، والوجوم، تلّفُهُ..! بينما عقله
ما زال في حالة من النشاط، والبحث. افترض أن خطأ ما.. شيئاً ما.. لا يبدو منطقياً
قد حصل!!



فتاة ربتها أمها على عشق الشرق.. علّمتها اللغة
العربية.. غرست فيها حُبَّاً، وإصراراً على الانتماء لوالدها، وقومه.. للأرض التي
عاش عليها، واستشهد من أجلها.. بعد كل العذابات التي عاشها، ورفاقه مع الاحتلالين
البريطاني، والصهيوني..! قَتْلُ اليهود لزوج أمّها.. لأبيها.. طرد أمّها من
فلسطين.. وحرمانها من العودة إليها.. بل منع أي اتصال بينها، وبين حبيبها.. حتى
بالرسائل!!.. فتاة أزهر الشوق فيها حنيناً بالعودة إلى أخيها.. أختها.. لأقرب أرض
ضمّت رفات والديها. قال في نفسه: -فتاة مثل هذه لا يمكن أن تبيع كل شيء.. في سبيل
أي شيء، وبثمن معيب.!!



أراحه هذا الاستنتاج نوعاً ما.. إلا أنه بقي
ملغوماً بالقلق من أمر لم يكتشفه؟!.. قرّر.. إن قراءة المذكرات أصبح أمراً أكثر
ضرورة.. لعله ينير بعض ما خفي عليه.



عزم على السفر غداً إلى دمشق لمقابلة أخيها،
وكذلك اثنين من زملائه في الأمن العسكري.



عندما عرض عليه مراسله طعام العشاء.. رفض ذلك،
واكتفى بكأس من اللبن علّه يريح أعصابه. ارتدى ثياب نومه.. تمدد على سريره..
أخرجها من تحت وسادته.. وبدأ بقراءة المذكّرات.




















-6-










حملت نسيمات غروب ذلك اليوم الصيفي القائظ من
عام 1945 قهقهة عالية.. أطلقتها حناجر مجموعة من صيادي الأسماك الجالسين على دكّة
حجرية داخل منزلي.. لطرفة قُلتُها:



-يا جماعة.. ألم أقل لكم أن لي رائحة خاصة..
تُحبِّها الأسماك، فتأتي إليَّ أسراباً لترتمي في شباكي.. أنا أمير الصيادين فارس
النجدي.!



لم يعطني أحد هذا اللقب.. سوى زوجتي خديجة
المحمود (أم الوفا).. إلا أنه لم ينازعني عليه منازع.. لقد أُثبتُّ أنني أستحقه..
فأنا الأكثر صيداً.. والأقدر على معرفة أماكن تجمعها.



انفضَّ الصيادون.. ومع احمرار الشمس الغاربة..
تمدّدتُ على المصطبة.. إنني مرهق قليلاً، بعد يوم طويل.. من العراك مع الأسماك وسط
بحيرة طبريا. إلا أن ما خفف بعضاً من عنائي.. صيديَ الوفير.. الذي تخلصت منه
بسرعة.. فبعته إلى التاجر اليهودي (شمعون).. يداه صغيرتان، مقارنة بجسده الضخم
السمين.. لذلك كانتا تبدوان، وكأنهما انغمستا في طيات من الشحم المترهل. أنفه
الدقيق الحجم برز كمنقار صغير.. فوق الكتلة الدسمة، المتعرِّقةِ لوجههِ المفلطح.



عيناه المُدَّورتان، الغائرتان.. لا تنفكان
تدوران في محجريهما، وهما ترسلان نظرات ثعلبانية.. أما صوته ذو الخِنِّة.. فكأنما
يخرج من أنفه!!



كان يحلو لي أن أناديه، وهو يجادلني ثمن أسماكي:


-أيها الماكر!.. هذا الميزان الأعرج، الذي تصر
على حمله.. إنه لص، سارق! لن أزن بأحولك هذا!!



ويردّ شمعون محاولاً تهدئتي: -أبو الوفا..
(خبيبي).. لا تكن بخيلاً.. إنني زبونك الدائم.! وأدفع نقداً في أغلب الأحيان..
وحياة أمي.. ميزّاني مضبوط‍ وأردُّ عليه، وأنا أفتعل الغضب: -مضبوط أيها اللعين؟
لا بأس.. أكمل.. أوزانك الحجرية هذه.. سأحطّمها على رأسك يوماً. ويضحك شمعون.. مرّقصاً
كرشه الضخم: -لا تغضب خبيبي.. لا تغضب يا أمير.‍



ابتعد شمعون بأسماكه.. صاعداً إلى حيّه.. بل إلى
مستعمرته على وجه الدقة.. المحاطة بسور عالٍ، وأسلاك شائكة، ونقاط حراسة تمنع
الاقتراب منها.



تابعته.. فبدت مدينة طبريا أمام ناظريِّ، وهي
تنحدر بتدرج بطيءٍ متثاقل باتجاه شاطئ البحيرة، وقد استندت بظهرها الجنوبي على
مجموعة التلال المسماة باسمها، وقد علت معظم قممها أشجار الزيتون. راسمة في خلفية
المدينة اخضراراً دائم التلوين. أما بيوتها الطينية والحجرية المزركشة بالياسمين،
واللبلاب، ودوالي العنب.. المتناثرة على شرفاتها أحواض القرنفل، والحبق.. فقد
انحدرت بتراصٍ أليف نحو الشاطئ.. حيث تهبُّ ريح نديّة، تشتد أحياناً مُكسِّرة
الأمواج على الصخور الرطبة، المكسوة بالطحالب.. وعلى مسافة قريبة منها.. تسامقت
أشجار الصفصاف، والزيزفون المتعانقة الأغصان.. انحنى بعضها بدلال نحو الماء،
مُوقِّعاً بحركته المدغدغة مجموعات الحصى المصقولة، المُلوَّنة، ومع كل هبَّة هواء
جرساً خاصاً من أصوات الطبيعة. بتناسق يمتد نحو الشرق.. تبدو أشجار الموز، كأصابع
خضراء لمارد ضخم، تدلت عناقيدها.



أَخذتُ، وأنا مستلقٍ على ظهري.. أتأمَّلُ
البحيرة التي بدأ هدير أمواجها.. يزداد وضوحاً مع هدوء المغيب.. إنها من الأُمسيات
القليلة التي أخلو بها مع ذاتي.



اقتَرَبَتْ من فكري.. في خلوتي هذه.. زوجة
اليهودي شمعون رافقت زوجها مرة.. تفاحة مورّدة، شهية. في يوم آخر.. وحيدة أتت
تنورتها انشمرت عن ساقين بضّين، رائعين. قرفصت آخذة السمك إلى سلتها.. لحمها دراق
مقشر.. إلتفّتت بكل جسدها نحوي.. بدا شفافاً براقاً مزخرفاً:-مؤكد أنها ارتدته
خصيصاً بنت القحبة!.. قلت لنفسي.



في حدقتيَّ.. انصبَّ دمي.. بصري حضن جسدها
النخليّ الشاب قميصها انفتح عن ثديين مكورين، يضجان بالعربدة.. عندما عصرتها
بيديَّ.. تأوهت بدلال، وقالت بغنج ماكر: آه.. أبو الوفا.. إنك تهرسني! لحظتها
فحَّت كأفعى.! كلّي ثقة بأن الرغبة تزلزلك أيتها اللعينة! قلت لها، ويداي تضغطان
الجسد المشتعل. خلاياي تلتهب، وبركاني يثور عندما، ولحسن الحظ، تنحنحت أم الوفا
قادمة.. عدَّلتُ وضعي وبدوت منهمكاً في وزن أسماكي، ومع ذلك دفعتني بكوعها، وقالت
بنزق: أرح نفسكَ سأكمل لها الوزن.



***


إذا ما قُدِّر لأحد أن يقرأني، وأنا أصِفُ لكم
صورتي، أتمنى ألا أتهم (بالنرجسيّة).. لذلك سوف أُقدِّم نفسي كما أنا، وبلا أية
مغالاة.



بسنواتي الأربعين، وبعينيَّ الواسعتين، ووجهي
الوسيم، الذي أكسبته الشمس سمرة نحاسية.. فبدا صلباً، قاسياً.. زاده مهابة..
شاربان عريضان، مشذَّبان.. يعتلي قامة مديدة، متناسقة، بمنكبين عريضين.



كنت ذا إطلالة مهيبة تشيع في الناظر الاحترام،
وأحياناً الخوف.



هذه القامة التي كثيراً ما أحرجتني مع تلامذتي!
لذلك كنت أصرّ دوماً على أن أكون معلّماً للصف الخامس الابتدائي.. كون الأطفال
أكبر عمراً، وأطول جسداً. إن أصعب اللحظات إلى نفسي.. هو الدخول الأول لقاعة
الدرس.. عند بدء العام الدراسي.. كنت أقرأ في عيون التلامذة قلقاً، ووجلاً.. تعكسه
ضخامة جسدي.. فأسعى بكل جهدي لإزالته.



لكمة وُجِّهت إلى صدري.. من قبضة يدٍ صغيرة..
أَبَعَدَتْ المرأة اليهودية عن مخيّلتي. ارتمي فوق صدري يصارعني.



-أيها الذئب المتشرد.. أين كنت غائباً طوال هذا
الوقت؟!



لثغ (وفا) طفلي الصغير، ذو الثلاث سنوات: -كنت
أجمع الأصداف عند الشاطئ.



-لقد مرّغ ثيابه بالوحل، والرمل.. بدلالك له
سيفَسُد ذئبك هذا.!



صاحت زوجتي من داخل المنزل.


فكّرتُ.. إنها على حق.. ولكنّ قليلاً من الدلال
أَمرٌ لا يؤبه لـه إنني لا أتقصّده.. أفعله بلا تكلف.. ولن أفسده.. عندما أنظر في
عينيه أرى فيهما وميضاً من ذكاء، وثقة، وشقاوة. قلت، وأنا أرفعه عالياً:



-ما أروعكم أيُّها الأطفال.. إنكم وحدكم من
يجعلنا نبتسم، ونحن في خضم الأحزان.



وضع النقيب أمجد المذكَّرات جانباً.. نهض.. شرب
ماء.. علَّقَ على ما قرأ:- إنه يسترسل كثيراً في وصف الأحداث، حتى التفاصيل
الصغيرة.. على أية حال إنه أسلوبه. عاد إلى المذكرات، وتابع القراءة.



دخلتُ المنزل.. ضوء ساطع ينشره (اللّكس).. خديجة
تسرّح شعرها الأسود، الطويل حتى خصرها.. هذا الشعر الذي ميّزها عن غيرها،
فتزوجتها.!



افترَّ ثغرها عن ابتسامة عذبة، عارفة قدر نفسها.
إنها من أولئك النسوة اللواتي يشحنَّ الرجال بالقدرة على تحدي الصعاب.. إنها جميلة
بغير فتنة.. قامتها تتهادى بدلال خال من التكلف.. وجهها الطفوليّ يشدُّ البصر
ليسكن الذاكرة بلا نسيان.. عندما تتكلم تحرّك في رقة فماً صغيراً شفته السفلى
ثخينة بارزة.. أضفت على ملامحه مزيداً من الجمال الخاص.



لم يكن في دائرتي الحياتية الصغرى، إلا بعض
الهموم البسيطة التي لا تأخذ حيّزاً كبيراً من تفكيري، وجُلّها تنصبّ في وسائل
رزقي، مدرستي.. زورقي.. شباكي، وإصلاحات متفرقة في منزلي، وحديقة صغيرة تحيط
بداري.. حوت معرّشاً للعنب، وبعض الأشجار المثمرة. إنني من متوسطي الدخل، لذلك لا
يوغل تفكيري في عنكبوتية أصحاب رؤوس الأموال. أما في الشتاء فالأمور تصبح أكثر
انتظاماً، حيث يفرض عملي كمعلّم نفسه على سلوكي، ونمط حياتي.. فيصبح مظهري أكثر
أناقة.. مع شعور بالملل لحرماني من الاستمتاع بلذة، ورحابة الصيد، وصحبة الصيادين،
وحكاياتهم المرشوشة بالكثير من التوابل والبهارات.!



إلا أن الشتاء يقرِّبني أكثر من التاريخ،
والجغرافيا، والسياسة، وما يدور في الوطن من أحداث، ومخاطر يفرضها واقع الاحتلال
البريطاني، والهجمة المخيفة، والتآمر الخفيّ لحركة الاستيطان الصهيوني التي تكبر،
وتتسع.



إن خوفي من أنَّ أمراً ما سوف يحدث.. يهزّ كياني.!
إنني ومن خلال المعطيات التي تدور على الأرض الفلسطينية.. أدرك أن بركاناً هائلاً
سوف يتفجّر.. فتعاودني بين فترة، وأخرى حالة من الشرود والوجود.. أحاول السيطرة
عليها حتى لا أثير الخوف، والفزع في قلب زوجتي. إلا أنها سرعان ما تدرك ذلك
بسليقتها، ودقة ملاحظتها التي تميّزت بها، فتناور بعيداً في سؤالها: -هل أنت
مريض.؟!



-لا.. أبداً.!


-إذاً.. ماذا دهاك.؟!


-لا شيء.. بعض المشاغل في العمل.. مدير المدرسة
رجل لا يطاق.!



وتدرك أنني لا أقول الحقيقة.. فتقول مشجّعة:


-اتكل على الله يا رجل.. أنت قوي، وقادر على حلّ
المصاعب.



مضى يومان، والهواجس المقلقة لا تفارقني، ومما
زاد من تأججها النقاشات التي تدور بيننا نحن المعلمين، والتي تصبّ جلّها في
استشعار الخطر القادم. عاودت طرح تساؤلاتها.. وأجبت: -لا تهتمي.. لعلها الوحدة..
حيث لم ألتق الصيادين منذ زمن. لم أقنعها.. أحسست بنظراتها تخترق رأسي، وتبحث في
طيات أفكاري. سألتني بشكل مباشر: -هل هناك جديد.. صفد.. القدس.. أي مكان.؟؟



-لم أسمع شيئاً.


ولإدراكها أنني أقول الصدق.. ذهبت لتحضير طعام
الغداء وانشغلتُ بتصفح كتاب عن تاريخ الحركة الصهيونية.. تناولته من مكتبتي، التي
أعتزُّ بها كثيراً.



***


كان الفجر رمادياً، مغبرّاً، ثَقيل الهواء.. ذلك
اليوم في طبريا وبالطبع في حارة الصيادين.. لم يكن يسمع في الشارع.. إلا وقع خطوات
قليلة، متباعدة، وسعال، وتحيات خاطفة مقتضبة.. يُميّزها لطف مصطنع لمارة مسرعين
إلى عمل ما.



فجأة.. هزّت حارة الصيادين صرخة امرأة مفجوعة..
طويلة كعواء ذئبة ساغبة.. تبع ذلك.. ولا ويل راجفة، لنسوة أُخريات.!!



قفزت
خديجة مذعورة، وهي تركض إلى الشرفة.. غابت مدة.. عادت.. بينما راحت أقدام راكضة،
وصيحات متسائلة تمزق هدوء الفجر. كنت لا أزال أغط في نوم عميق، وبعد ليلة زفافية،
متأججة.



هزتني بعنف، والتأوهات تخرج من صدرها ملتاعة،
راجفة. هببتُ صائحاً، متسائلاً.. أجابت، وعيناها تذرفان:



-ابن خالي سعيد، وأبو هاشم التلّي، وولده، قتلوا
في صفد!!



-من قتلهم؟. تكلمي؟!!





-قتلهم اليهود.. يقولون.. رموهم بقنبلة يدوية،
وهم يسيرون قرب المستعمرة!.



الجثث ممزّقة، مشوّهة.. أكواماً من اللحم
المضرّج، والعظام المهشّمة.!



منظر الدماء.. جرفني كطوفان هادر، موحل... عاد
بي إلى لحظات رعب، وحزن قاتلين.. يضغطان على جوفي، يكادان يخنقان نفسي.. أخذاني
بعيداً إلى عكا.. شدّني منظر القتلى إلى أعماق ذكرى رهيبة، مظلمة، وتّرت عضلات
وجهي... رأيته في مخيلتي.. منذ خمسة وثلاثين عاماً... اختنقت في داخلي صرخة كادت
أن تنطلق.. تماماً كما حدث آنذاك... أبي... أبي.!!



بدا بجسده الممدّد، المدمّى، وكأنه يدور في
عينيَّ.. تتابعت الذكرى شريطاً سينمائياً مرعباً... صرخات أمي السمراء، الجميلة..
عساكر الإنكليز... برفقتهم شبان يهود.. رائحة خمرة تفوح.. معاكسة فاجرة، وقحة...
والدي، ونخوة الشباب (قبضايات الحارة) عراك وحشي.. أصوات رصاص.. برك من الدماء...
ووجه أبي القتيل المخضبّ بالقاني!!!



فكي كأنما يتدلى على صدري.. عكا.. مرح الطفولة..
صورتها في قلبي، ورحيل أمي إلى أهلها في طبريا. وهنا فوق أمواج البحيرة وعلى
ضفافها، وبين أشجار الموز، في الطرقات، في الحارات، في المدرسة.. البيت.. ينمو
الثأر في صدري.. شجرة مُرّة.. ذات أشواك طاعنة، حادة. ها هم القتلى أمامي.. مرة
ثانية.. يحوّلون ناري حريقاً وها هم المحتلون يدبون فوق جسدي.. بأحذية هارسة،
ثقيلة.!!



***


حُمِلَت النعوش إلى المقبرة.. هدر الرجال
منذرين، متوعدين. أسير في الجنازة صامتاً... لم تتحول عيناي عن الأكفان.. دموعي
متحجرة عضلات وجهي تنقبض.. تنبسط خارج إرادتي.. صدري يضيق وأحس بالاختناق. (سعيد
العبد الله.. رفيق صباي.. صديق عمري.. في سهراتي، وغزوات صيدي.. نقيٌّ كالثلج..
صافٍ كالينابيع مغرّداً بطرائفه.. يقهر الألم بالابتسامة.. مستقبلاً الحياة بدربكة
صاخبة).



قال أحد المشيّعين: -يا لأطفال أبي هاشم.. نصف
دزينة من اللحم الطري.!! أجابه آخر: -سوف نجمع لهم مبلغاً من المال لفتح دكان
بقالة يتعيشون منها. تقدم منه أحدهم: -الاجتماع عندي في الثامنة من مساء اليوم.



جرجرت قدميّ.. متجهاً إلى الاجتماع.. قدّرت..
أنني سألاقي صمتاً تجهماً.. حزناً.. فالفاجعة مؤلمة الوقع على الجميع.



دخلت المنزل.. صفعتني الضجة!. نقاش.. يكاد يصل
حدّ الصراخ. دخان التبغ أحال المكان ضبابياً.. كما نقاشهم المتداخل المتقاطع!.



التقطت أذناي كلمات حماسية للحطّاب عمران، الذي
يبيع ما يحتطبه للإنكليز: -مؤامرة... الصهاينة... الثأر... منكون حريم إذا سكتنا.)



حتى هذه اللحظة.. لم يستطع عقلي التجميع،
والربط. لكنني لاحظت.. أن العيون المواسية ترمقني.. فالجميع يعلم فداحة خسارتي .



حدّقتُ.. فاتحاً عينيّ قدر ما أستطيع. وجَّهَ
الحطّاب عمران خطابه إليَّ: -أخي أبو الوفا.. قلوبنا معك.. وحزننا لا يقل عن حزنك.
ولكن ليس بالأحزان نكون.. بل بالثأر.. يجب أن نردَّ عليهم، وبسرعة، ما هو رأيك؟.



الحطّاب عمران زاملني في الدراسة، حتى الصف
الثامن، ثم ترك الدراسة. ذكي، متحدث، بلبل في اللغة الإنكليزية، يتقن أعمالاً
متعددة إلا أن إحساساً ما.. يجعلني في حذر دائم منه. رشفتُ فنجان القهوة.. أشعلتُ
سيجارة.. أخذتُ نفساً عميقاً، وقلت:



-الشجاعة وحدها لا تكفي.. الإنكليز معهم، وهم في
مستعمراتهم مدججون بالسلاح.. نعم لقد قتلوا إخوتنا غيلة، وغدراً.. ولكن مع كل
ذلك.. يجب أن يحكمنا العقل، والحكمة، والتروي.



فغر الجميع أفواههم.!! ردّ أحدهم: -أبو الوفا
المعروف بصلابته وشجاعته، واندفاعه.. يقول هذا.؟!!



إنهم لا ينسون أبداً.. عندما أرادت الدورية البريطانية
الدخول إلى المدرسة لاعتقال أحد المعلمين لسوقه للتحقيق.. تصديت لها بعراك كدت
أدفع حياتي ثمناً له.! ولولا تدخل قريب لي، موظف كبير في صفد لقضيت في السجن مدة
لا أعلم مداها.



صاح بعض الحضور: -ما هذا الهراء الذي تقوله؟!
قال آخر مستهزئاً: -حكمة، ورويّة.!! بل قل جبن، وتقاعس.



ارتجّ جسدي.. دفق من الطاقة الغاضبة.. غمر
كياني، وقفت وقلت صارخاً: -لو كان قولك بغير هذا المقام.. للقنتك درساً في
الشجاعة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
قمرية

قمرية


نقاط التميز
عدد المواضيع : 69
نقــــــــاط : 85
تاريخ التسجيل : 18/02/2010

الرقصة الاخيرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: الرقصة الاخيرة   الرقصة الاخيرة Icon_minitimeالثلاثاء فبراير 23, 2010 9:16 am

تابعت كلامي مخاطباً الحضور: -أطلب منكم مهلة
عشرة أيام.. وبعدها نقرّر.



قال أحدهم: -ولماذا.؟! لو باتت، فاتت أجبته بهدوء:
-تكون النفوس قد هدأت.. ويأخذ العقل فرصته للتصرف الحكيم.



عندما غادرت.. أحسست باللمسات الخشنة لأكفهم
القوية.. التي ما زالت تكن ليَ الاحترام.



عند عتبة المنزل.. طالعتني عيناها المخضلتان
بالدموع. سألت بقلق: -لم يتأخر اللقاء.؟!



أجبت متبرماً: -ما زالوا هناك.


-لماذا لم تبق معهم؟!


-إنهم يلقون خطباً فارغة عن الثأر.!


شعرت بخوفها، لأنها تعلم أنني سوف أكون في
المقدمة.. لذلك قلت:



-لو لم أقنعهم بالعدول عن ذلك لارتكبوا حماقة..
يوجد قانون.. حكومة أي كان شكلها.. وسنصل إلى حقنا عن طريقها.



رشقت حدقتيها في عينيّ.. أشحتُ ببصري.. أحسستُ
أنها ستكشفني تعرّيني.. إنني أدرك مقدرتها على الولوج إلى تلافيف دماغي فتقرأني.
تسطع، فتزيل ظلالي.. فأبدو أمامها عارياً.. لا أجد ما يسترني، وكطفل صغير أبوح
بهناتي، وأفرد أمامها أسراري.. فتغفر لي، وهي تقول في زمجرة لبوة غاضبة: -حسناً..
لا تكذب عليّ مرة أخرى أيها الطفل الصغير.



أما الآن فالأمر جدّ مختلف.. لن أسمح لها بكشف
قراري.. لأنني أعلم أن حبّها الكبير لي، وخوفها عليّ، وبالتالي على نفسها، وطفليها
سيكونون عائقاً أمامي لا يتزحزح. إن ما قررته، وأنا عائد إلى منزلي سيبقى لي، ولي
وحدي. ولكي أقطع عليها تساؤلاتها، هربت إلى الأمام، وقلت: -إنني مهدود البدن..
أريد النوم.



خربشتُ على ورقة (ابن هذه الأرض أنا.. لن أُحلّق
وراء خيالات سرابية.. سأدفع جذوري في أعماق تربتها المجبولة، ومنذ آلاف السنين
بدموع، وعرق، ودماء شعبي).



لم أعِ كيف قضيت ليلتي.. غرقت في ظلمات غيبوبة
معذّبة. في الصباح.. كان كل ما تذكرته، وعلى نحو مبهماً.. مشوّشاً.. حلماً رأيت
فيه.. بركة حمراء.. ويد والدي تمتد إليّ مصافحة.. غادرني.. تبعته سار في ظلمة
مقبرة.. فيها أشواك إفعوانية.. تتلوى برؤوسها نحوي ثم ضياء مبهر.. وقفوا في وسطه
زوجتي، وطفلاي.. يهتفون باسمي.



بكرتُ إلى ساحة البلدة، التي غصّت بالمعزين..
تبادلتُ التحية.. رشفتُ فنجاناً من القهوة المرّة.. شعرتُ بالانتعاش.. رأيتُ
الحطاب عمران.. ينهض من مكانه قادماً نحوي.. جلس بقربي هامساً:



-البارحة من قلقي عليك.. لم أنم.. لقد حمّلك
الناس راية القيادة. لماذا لا نتبادل أفكارنا.. عقلان أفضل من واحد؟.



انتابني الحذر.. ولكنني قلت لنفسي: -لماذا لا
أذهب معه إلى نهاية الشوط.. وأكتشف ما يريد؟.



أدرت وجهي إليه قائلاً: -إنني فعلاً بحاجة إلى
المشورة.



أجاب: سوف آتي إلى منزلك هذا المساء.. إن أردت.


-حسناً.. في السابعة أكون في انتظارك.


مكثت ساعة في العزاء.. ثم غادرت.


كنس الليل ما تبقى من شعاع النهار، وزحف الصمت
الحزين فارشاً شوارع طبريا، وقلوب الناس، ببساطه الثقيل، وصمته المترقب. كان
القاسم المشترك بين الجميع هو.. الخوف، والشعور بالعجز والضعف.!



لأول مرّة.. تمنطقتُ خنجر والدي الفضي، الأثري..
أخفيته تحت صدارتي.. بدافع لم أجد له تفسيراً.. لعله الإحساس الغريزي بالخطر جلستُ
في غرفة الضيوف.. الوقت يمر كدهر.. وأعصابي مشدودة.



فكّرتُ طويلاً بخطتي المخادعة، التي سأرويها
للرجل... تجاوَزَتْ السابعة قليلاً.. عندما قرع الباب.. أعلن عن نفسه بتحية
المساء.. ودخل المكان مسرعاً.



أغرقتُ وجهي بتعابير البراءة، والطيبة الساذجة..
لفت نظري أناقة وفخامة الثياب التي ارتداها.! لقد زرته في منزله مرة، ويومها
أعجبتُ بالأثاث الفاخر الذي لا يتناسب مع مدخول عمله المعلن!! قال لي سمّان
الحارة: -إن مشترياته تفوق أحياناً.. مشتريات أي ثريّ في البلدة



قدّمتُ الشاي للضيف.. أشعلتُ لفافة تبغ.. قطع
الحطاب الصمت:



-نعم.. أستاذ فارس.. هات ما عندك.


نهضت من مكاني، وبحركة مسرحية.. نظرتُ من
النافذة كتأكيد على الحرص.. ثم أجبته بهدوء تام:



-لا بد أنك أدركتَ أسلوب حديثي في الاجتماع.. والآن
دعنا ندخل مباشرة في الموضوع.. على ألا نعقّد الأمور.. ببساطة.. سيارة تموين
المستعمرة.. تذهب كل مساء إلى صفد.. وتعود مثقلة.. لا يوجد فيها إلا سائقها،
واثنين من الحراس.. نكمن لها عند تلة المغارة.. وهي في الصعود.. نفاجئها.. ونقضي
على من فيها.



رد الحطاب بحماس: -فكرة رائعة، وخطة ممتازة،
ونجاح مضمون إذا لم ترافقها سيارة حراسة.. كما يحصل أحياناً.



-المفاجأة نصف النصر.. إذا كانت موجودة.. نشعلها
معركة كبيرة وننسحب.. المنطقة بوديانها، ووعورتها.. تُؤمّن ذلك بنجاح.



-والتنفيذ؟


-خير البر عاجله.. ليكن في الغد.. نستطلعها في
الذهاب.. ونرصدها في العودة.. كل ما أطلبه منك، مرافقتي غداً إلى البحيرة.. سيكون
معنا أربعة من الأخوة.. ندرس الخطة.. وننتظر الليل للتنفيذ.



-الأمر بحاجة إلى مزيد من الوقت.. ما تقوله غير
معقول!! مثلاً الأسلحة.؟!



-جاهزة.. سوف ننقلها هذه الليلة إلى (عرزالي)
عند الشاطئ.



قلت كل ذلك، وبصري كأنما يدور في عقله، وقلبه..
مكتشفاً خباياه. تأتأ الحطاب.. وقد فوجئ بكل شيء:



-لا أستطيع مرافقتك إلى البحيرة غداً، لأنني
سأسلّم الحطب للإنكليز في معسكرهم.



ورددتُ بحزم: -كل الأمور تؤجَّل.. يجب أن نكون
معاً في كل الأوقات الزمن لغير صالحنا.



شعر بأنني كبّلته.. أطرق مفكراً، ثم قال:


-حسناً.. سأوافيك إلى عرزالك.


***


قلت لنفسي، بعد مغادرته: -إنه كالريح لا يمكن
الإمساك به!! ولكني سأحاول. تابعت التفكير: -إن كان عميلاً للإنكليز لفعل ذلك
الليلة وإن كان بريئاً.. فلن أخسر شيئاً.



***


اتخذت قراري مسرعاً.. خرجت مقتفياً أثر الرجل..
مخفياً بشماخي نصف وجهي.. شاهدته يدخل منزله مثل لص. مضت قرابة عشر دقائق.. خرج
الحطاب بعدها مسرعاً.. تلقَّت حوله، ومضى صعداً.



كذئب يعرف مكمن صيده.. حدّد هدفه.. الجبل الأجرد
حيث معسكر الإنكليز.. تبعته.. وعلى بعد مئة متر من مدخله الرئيسي تفحَصَ المكان..
تأكَّد من خلِّوهِ.. اطمأنَّ.. انحرفَ يميناً خارج الطريق حيث الأرض الوعرة..
عرفتُ مَقْصِدَهْ.. برج المراقبة في جانب من الثكنة. سمعتُ عن يساري صوت تعثّر
بالحجارة.. جلستُ القرفصاء محترساً.. راقبتُ.. لم أشاهدْ أحداً.. خمَّنتُ.. لعله
حيوان. تابعتُ ملاحقة الحطّاب.. أسرعتُ مقصِّراً المسافة فيما بيننا، شاهدتَهُ
يقف. أرسلَ إشارة ضوئية من مصباح يدوي.. ثم أتبعها بثانية.. فثالثة.. من البرج خلف
الأسلاك.. جاءَه الجواب الضوئي.!!



تيقنتُ من صدق حدسي.! قلتُ هامساً: -خائن، قذر..
يبيع نفسه وشعبه، ووطنه.!!



انقضضتُ عليه كصاعقة.. وبكلُ قوَّتي طوَّقتُ
عُنقه، مكمِّماً فمَهُ سطعَ خنجري كالحقيقة، وإلى القلب مباشرة.. وجَّهتُ صدق
الطعنة، وأنا أُزمجر: -خذها أيها الجاسوس الحقير.. من يد فارس النجدي.



أَغمدتهُ حتى النصل، ولم أَنزعهُ، حتى تيقنتُ
أنه أصبح جثة هامدة دفعتهُ، فهوى فوق الحجارة، والأشواك.



-لا شلّت يمينكَ يا أَبو الوفاء. وثبتُ إلى
الخلف.. متحفِّزاً بخنجري جاءَني الصوتُ هامساً، حذراً: -لا تخش شيئاً.. أنا سلطان
الخضرا ومعي أبو ثائر اللحام.



-اقتربا. أَجبتُ آمراً. قال أبو ثائر: -لقد كان
هذا الخائن تحت مراقبتنا منذ مدة.. نُحيّيكَ.. لقد طهَّرتَ البلدة من قذاراته،
والآن هيّا بنا قبل أن يكتشف الإنكليز الأمر.






لم أكن فرحاً فحسب.. بل إنه بركان من الفرح،
مزغرداً بالانتصار تفجّرَ في صدري. إِنه الإِحساس الذي يغمر المرء، ويتملكه بعد
تخلصه من خطر قاتل.



صافحني الرجلان بقوة، وانطلقنا مبتعدين عن موضع
الشبهة. عند منزل اللحام، قال: -أُدخل.. سنحتفل بانتصاركَ الليلة.



-أُم الوفا ستجنُّ لغيابي.. لا تعلم أينَ
ذهبتُ.! دفعني الخضرا قائلاً:



-أُدخل.. ما بتروح إلا سكران.


-قاتل، وثمل.! سأدخل جهنَّم.!!


-أَرسلتَ إِليها واحداً الآن.. سوف يكتفون به،
مع الشكر. قال أَبو ثائر ضاحكاً.



-رفع الخضرا كأسه، وقال: -بصحة بطلنا الهمام.


-لا لن أشرب.. حتى أعلم ماذا يدور حولي.؟!!


-وهل يعقل أن نخفي شيئاً عنكَ، بعد الذي فعلته.!
تابع سلطان الخضرا قوله: -نحن فرع من منظمة هدفها الدفاع عن الوطن ضد الاحتلالين البريطاني،
والصهيوني، وأنتِ الآن مرشح كي تكون واحداً منا.



-لا يا عمي.. أُحبُّ أن أَعمل بمفردي، وبلا
أوامر من أَحد.



نشق أَبو ثائر، وقال: -المؤامرة كبيرة، والنضال
الجماعي المنظم هو الحل. ورددت بثقة: -ولكن.. ها أنا نجحت.



-ولكن، وماذا بعد؟!


علَّق الخضرا: -دعونا من هذا الآن.. بصحة أَمير
الصيادين.



كرعتُ الخمرة.. كحوت. وعندما دبكتُ بقدمي
قائلاً:



-لا تجعلوا مني بطلاً.. عقرب، وسحقته. نظرا
إِليَّ بإعجاب ملاحظين ضخامتي، وقوتي، وكأنما يرياني لأول مرة.



زادت الخمرة من تهدج صوتي، واحمرار وجهي.. وبدت
رقبتي السميكة، كرقبة ثور.. كما علَّق الخضرا مازحاً. انتصف الليل.. مددتُ يدي
مودعاً.. لقد تأكد لهما أنني أستطيع شرب جرّة.. دون أن يرفَّ لي جفن. قلت: -سوف
تعجُّ طبريا غداً بالإنكليز.. إنني في منزلكَ زائر أيها اللحام، ومنذ السادسة..
لا تنسَ هذا.



هزَّ أبو ثائر رأسه موافقاً، وأردف: -ذلك يؤكد
قولي.. يد الله مع الجماعة.



عقَّب سلطان الخضرا: -سنقيم للجاسوس جنازة
حاشدة.. وستكون فيها يا أبو الوفاء.. وسنطالب الإنكليز بدمه.



أَنعشني هدوء الليل، وأنا أدبُّ إلى منزلي..
غسلتُ خنجري مراراً وضعتهُ في مخبئه المعهود.. زوجتي أتعبها الانتظار، وغفت، وغفوت
أنا أيضاً.. كما لو أنني لم أنم منذ دهور.



***


زحف النعاس أيضاً إلى عينيَّ النقيب أمجد. أغلقَ
المذكِّرات أخفاها تحت وسادته، واستسلم لنوم عميق.. لم يخلُ حتماً من أحلام قلقة.



الشخصية الزئبقية لزميله ضابط الأمن. لم تفتّ في
عضده، عندما قابله في مكتبه في دمشق. حاول بداية التهرب من أسئلته، لكنها في
النهاية.. صرحّ له باحتمالين.. الأول، وهو المرجح لدى المخابرات، والذي أكدّه عميل
العدو (ع) خلال التحقيق معه.. أن ليلى لم تعرف معنى كلمة السر التي قالها لها (هل
الأرض سداسية الأبعاد) وقالت ببراءة.. ما هذا التخريف الذي تقوله؟! هذا الاحتمال
يقول:



أن الإسرائيليين طلبوا منه زجَّ اسمها عند كشف
الشبكة.. انتقاماً منها ومن أمِّها، وزوج أمِّها الضابط البريطاني. ويؤكد ذلك
الحملة التي شنتها بعض الصحف البريطانية على ليلى، لتعاونها مع الفدائيين.



أما الاحتمال الثاني من كونها عميلة للعدو، فنحن
نستكملُ التحقيق، ولقد أرسلنا إلى عناصرنا، وسفارتنا في بريطانيا لموافاتنا بدراسة
كاملة.. عن حياتها، ونشاطها، وصداقاتها. طمأنه قائلاً:



-إننا متفائلون ببراءتها أيها الزميل أمجد.
طبعاً ما قلته لك غير قابل للتصدير لأي كان.



قال لنفسهِ.. بعد أن أعطى عنوان منزل وفا لسائق
سيارة الأجرة:



-يهدف الصهاينة تشويه سمعتها، وبث الرعب في
قلبها.. إنها رسالة منهم تقول.. نحن خلفكِ.



ترقرقت الدموع في عينيّ وفا، وهو يحضنه فرحاً
بزيارته، وقال:



-إنها بريئة.. بريئة.. إنهم ينتقمون منها.. كانت
دوماً تحدّثني عن مضايقات اليهود لها في الجامعة.. لأن والدها عربي... وثانياً
لأنها كانت مدافعة شرسة عن الحق الفلسطيني.. تفضح مجازرهم وتاريخهم المزوّر عن أرض
الميعاد. وتابع قائلاً:



-حدثتها والدتها.. أنهم قالوا لها مرة أثناء
حَمْلِها (سننتقم حتى من مولودك القادم.. سواء كان ذكراً، أم أنثى.!!)



أشعل لفافة تبغ، وتابع قائلاً: -إنهم الصهاينة..
المفسدون في الأرض عبر التاريخ.!



طمأنه النقيب أمجد: -الأمور تسير لصالحها.. لقد
قمت بزيارة هامة قبل قدومي إليك. ما قالوه مريحاً جداً. لا تقلق.



قام بزيارة قصيرة لأهله.. عندما دخل معسكره في
(قرّاصة) كانت الشمس تتثاءب للنوم في حضن المغيب.



استمع لنشرات الأخبار.. أعلنت المقاومة
الفلسطينية عن عملية داخل الأرض المحتلة.. دمّروا فيها للعدو عربة.. وجرحوا
جنديين.. لم يهزّه النبأ.. فالشعور العام تجاه هذه العمليات.. أنها في معظمها
مبالغ فيها وأنها لا تشكل للعدو.. إن نجحت، إلا وخزاً بدبوس.



كان يؤمن أن المقاومة حتى تكون حقيقية، وفاعلة..
يجب أن تدخل أرضها، وبين شعبها.. وتقاتل. عندها يصبح الشعب بأسره مقاومة.. تفتك
بالعدو.. وتسفح دمه.. في الليل، والنهار.



ابتدأ عمله.. بتحضير برامج المرحلة الثانية
للدورة.. لم يتبق على التحاق المتدربين.. سوى يوماً واحداً.. لم يتوقف حتى أنجز كل
شيء. أحسَّ بالجوع.. نهضَ طالباً طعام العشاء.



***


فوجئَ بأعلى الصفحة، التي توقفت عندها قراءته
لمذكرات فارس النجدي.. بفقرة كتبت باللون الأحمر تقول:



(إن وجهي داكن، كزعتر الجبال.. عند احتقان
الريح.! ونومي متقطع فوق مشنقة تتأرجح في غبش الفجر.! والأنا أصبحت سجناً فسيحاً
من الذكريات.. وقيداً صدئاً يغلّ قلمي.! أشعر بأن فسحة عمري قصيرة.! لذلك.. اسمحوا
لي.. يا من لن أراكم.. أن أتابع الكتابة بضمير الغائب).



وتابع النقيب أمجد القراءة:





دوريات الجيش البريطاني.. تجوب شوارع طبريا..
تدقِّق في هويّات الناس.



سار في الجنازة.. أصغى للهتافات التي تدين
الإنكليز بقتل الحطاب.



قال جملة لم تخرج من بين شفتيه: -إنهم ينفذون
الخطة.



عاد من المقبرة.. حدس أنهم سيستدعونه للتحقيق..
عرج على سمّان الحيّ.. في مكان كهذا تلتقي الأخبار.. اشترى عنباً، وبطيخاً. قال
متحسراً: -رحم الله ذلك المسكين.. لم أركَ في الجنازة يا أبا عارف.؟



-ذهبتُ متأخراً.. ولم أُكمل المسيرة.. (الزباين
ما بينتظروا).



-غفر الله له.. كان عندي البارحة.. جاء يوصيني
على كمية من السمك، لبيعها لهم. وأشار ناحية عربة دورية تمرُّ وسط الشارع.



قال السمَّان أبو عارف.. مخفضاً صوته: -يقولون
يا أستاذ فارس والعلم عند الله.. أنه كان على علاقة مشبوهة بهم.. خافوا أن يكشف
بعض أسرارهم.. فقتلوه.!! وفي ناس عم بيقولوا أن الشباب قتلوه.!



-لم أسمع بكل هذا.! غير معقول.! على أي حال..
أصبح الرجل في دار الحق.. لا تجوز عليه إلا الرحمة.



تعربشته زمرُّدة، وخطفت عنقوداً من العنب..
بينما طوّقه وفا من ساقيه، وهو ينادي.. بابا، بابا.



وقفت أمامه.. نظرت إليه بثبات:


-(تعال جاي.. وين كنت مبارح؟! خرجت.. ولم
تعلمني.. رحت لعند الكلبة.. مش هيك؟!!)



ابتسم ساخراً، مجيباً: -(ما بدّك تشيلي.. هالقصة
القديمة من راسك!)



لو كنت بحبها.. كنت تزوجتها.. نزوة شباب،
وراحت.. اقنعي.!!



-(لكن ريحة الخمرة في الصباح معبّقة البيت.؟!)


أخبرها عن سهرة البارحة: -بقينا نلعب ورق لساعة
متأخرة على فكرة.. المرحوم الحطّاب مرَّ لعندي مبارح، وأوصاني على كمية من السمك..
ولكوني من الذين شاهدوه قبيل مقتله.. يمكن أن أستدعى للتحقيق. عندها ارتسم الفزع
على وجهها.



***


ضربه الجندي بعقب البندقية.. دافعاً إياه نحو
غرفة التحقيق.



متوسط العمر غطَّت بقع صغيرة من النمش وجهه،
ويديه. نظر إليه طويلاً.. تفحّصهُ.. مؤكد أنه أعجب بهذا الجمل الواقف أمامه..
أنيقاً حليقاً.! رطن الكابتن بالإنكليزية. وعندما همّ المترجم بالقيام بدوره أسرع
أبو الوفا بالإجابة:



-اسمي فارس النجدي.. عمري أربعون عاماً.. من
سكان طبريا.. معلِّم مدرسة، صيّاد سمك في الصيف.. متزوّج.



إنه يعلم أن اللغة مفتاح القلوب السحري.. لحظ
نظرة الإعجاب التي حاول الكابتن إخفاءها.. تتابع الاستجواب ثقيلاً، ولكنه خلا من
الدقة والاهتمام المفترض. أدرك.. أن الإنكليز يحققون بالأمر كجريمة من الدرجة
الثانية، وحتى لا يكشفوا علاقة القتيل بهم.



عندما استدعي شاهداه.. تبادلوا نظرات واثقة..
يوحدها سرّ دفين.



ملأت صدره ضحكة مكبوتة.. عندما قال له الكابتن
فيليب:



-أرغب في تذوق طعم أسماكك.


رحّب على الفور مجيباً: -سيكون السمك جاهزاً
غداً عند الواحدة ظهراً.. شرط أن تشرفني بزيارتك إلى عرزالي على ضفة البحيرة ستعجب
به، وبالطبيعة الرائعة من حوله. تقدَّمَ من الطاولة، وكتبَ العنوان بالإنجليزية.



-أوكي.. وتهللت أسارير الضابط للدعوة. أُخليَ
سبيله لعدم الشبهة. عاد إلى منزله مبتهجاً، لتخلصه من حمل ثقيل.



يداه تتأرجحان بقوة عبثية.. قدماه تقطعان
الأمتار.. وهو يدوس الأرض بثبات.. برق في رأسه تساؤل: -لو كان القتيل بريطانياً،
أو يهودياً.. لن ترضيهم كل أسماك البحيرة.!!



شاهد ثعباناً ينسلُّ بين الصخور.. داورَهُ حتى
تمكَّن منه.. أراد حمله إلى المنزل.. وجدها فكرة صبيانية.. عدل عن ذلك قرّر:
-سأذهب مبكراً، وسوف أصطاد واحدة بحجم حوت، كي تشبعَ عيناه.



***















زورقه يجثم على رمل الشاطئ.. أمام كوخه المصنوع
من سوق القصب، الذي شيّده واسعاً، رحيباً.. لطّخ القصب بالدهان المتعدد الألوان
وبعبثية أطفال.. فبدا كلوحة سريالية! في داخله انتصبت منضدة صنعها من ألواح خشبية
غير مصقولة.. تناثرت حولها مقاعد قطعت من جذوع أشجار ضخمة. أمام وداخل الكوخ
مُدَّت حُصُرٌ ملوَّنة.. تناثرت فوقها حبات رمل. بالقرب من العرزال قام الموقد.
صخرة كبيرة، مجوّفة.. بدت كمغارة.. ثقبت سقفَها إصبعُ مارد هائلة الثخانة.!



كل شيء بدا بدائياً.. متحرراً من أي قيد.. يطلق
العنان للخيال يسرح في أمداء كونية رائعة، كروعة المنظر الطبيعي الفاتن.. الممتد
على مرمى البصر، ليصل عبر البحيرة حتى تلال فيق، ووادي السمك وغزيّل، وتل عامر..
في هضبة الجولان السورية.. حيث اكتست التلال والمسلان، والوديان.. خضرة، وجمالاً،
رائع التكوين.



بدأ النهار ساكناً، حاراً، منذ بدايته، برغم
طراوة الفجر. حمل طعوم السمك. وضع شبكته في الزورق، وانطلق به منزلقاً فوق الماء.



اعتراهُ شعور بالمتعة، والحيوية.. والسعادة
أيضاً.. منذ تلك الليلة، التي لعب خنجره دور القاضي.. مع تصميمه على الثأر للشهداء
ومنهم صديق عمره.. وفي خلفية تفكيره يقف والده المضرج بالدماء والهتافات المعادية
للإنجليز.. التي قصد منها التمويه عليه، وحمايته.



إنه ليس بمفرده.. تحيطه قلوب محبة، صادقة.. كل
ذلك جعله يحس بطعم للحياة أروع.. رغم الأخطار المحدقة.. لقد ملك المهمة والهدف..
إنه يعمل بخطة جيدة الحبك.. حتى دعوته للضابط الإنجليزي سوف يوظفها من أجل لحظة
ما.



نثر طعومَهُ.. انتظرَ قدراً من الزمن، ثم رمى
شبكته إلى الماء. دخّن سيجارة.. اثنتين.. تمدَّد في عين الشمس، وبتوقيت الخبير..
بدأ بالتقاط صيده الوفير.. أتعبه رفعه إلى زورقه.. زفر نافخاً.. عندما أفرغها قدّر
وزنها بخمسة أرطال.. منها ثلاث سمكات.. كل واحدة كفخذ امرأة مكتنزة.! أكبرها ما زالت
تغنج، وتتلوى بدلال.. كراقصة شرقية مخمورة.



ملأ صدره بالهواء: -سيكون الطعام كريماً. جدّف
عائداً.. إلى الشاطئ.. جوّف السمكات الثلاث.. شطفها بالماء.. ملّحها.. رشها
بالتوابل.. ووضعها في خزانته.
















طفلاه.. ما يزالان يغطان في النوم.. بينما راحت
خديجة تعد طعام الفطور.. عندما رأت حِملَهُ قالت: -ما شاء الله.. لعلّه حظ
البريطاني لن تهبه كلّ هذا؟! يجب أن نبيع نصفه.



-ولكن هل يجرؤ شمعون على المجيء بعد الذي
حدث.؟!!



قالت وهي تقلب شفتيها: -لا تخشَ عليه.. إنه
يشمُّ، ويتسلَّل كالثعلب.



وإن لم يفعل.. سيرسل تلك الفاجرة.. زوجته.


-حسناً.. إن لم يأت.. أرسلي خلف أبا ثائر
اللحام، وهو سيتكفل بالبيع.



صفق الباب الخارجي خلفه قائلاً: -دعوت الضابط
البريطاني إلى الغداء عند البحيرة.



قرر قبيل ذهابه إلى عرزاله.. تفقد رفاقه.. لقد
تركهم رهن التحقيق لأنهم لم يسمحوا له بالبقاء في المعسكر. عرج على بيت سلطان
الخضرا الذي استقبله صائحاً :- لقد أخفتهم أيها الدب.!



ردّ على شتيمته المازحة بمثلها. قال سلطان:
-يبدو يا أخ أن عينهم عليك.. لعلهم سيوظفونك خليفة لعميلهم.. بالمناسبة ألا تدعوني
لغدائك الدسم.؟!



-لا.


-إنني أمزح.. ولكن لن نسمح لك أن تفوّت علينا
غداء مشابهاً.



***


رشَّ العرزال بالماء.. نظَّف حوله.. وضعَ زجاجات
الجعة داخل قطع الثلج.. زيَّن الطاولة بوعاء مليء بالفاكهة.. هيّأ الحطب للشواء
وعندما اطمأن للأمر.. خلع ثيابه.. ارتدى (شورت) السباحة، وغطس يشقُّ الماء كدلفين.



-لقد وصل. قالها، وهو ما يزال في الماء.. لم
يسعفه الوقت لارتداء ثيابه.. اضطر لاستقباله مُحرَجا كما هو.



قفز جنديا حراسة من العربة، وعندما ترجل الضابط
البريطاني فوجئ بها..! قفزت من السيارة العسكرية.. اتسعت حدقتاه دهشة حورية شقراء
في الثلاثين من العمر، كل ما فيها أغنية للجمال، والفتنة التي تضجّ بشهوة..! عينان
خضراوان، وصدر متوثب، وقد كشفت قصر تنورتها عن مساحة غير عادية لساقين خمريتين،
مشبعتين بعافية الصبا.!!



قدَّم الكابتن فيليب: -زوجتي هيلين.. رغبت
بالقدوم للتمتع بجمال الطبيعة.



صفَّقت البريطانية جذلة، وهي تدخل عرزاله، وصاحت
معجبة:



-أوه.. فيليب.. تعال انظر. شاركها زوجها
الإعجاب.. بمرح متعال.



أردفت محيطة جسده القوي بنظرة وقحة: -أين
الليدي؟.



رشقها بنظرة مماثلة، وكأنه يعرّيها: -لم يعلمني
الكابتن بتشريفك.



جلستْ حول الطاولة.. لاحظ أن الضابط يتفقَّد
بنظره زجاجات الجِعة.. استدعى أحد الحرس.. قال لـه أمراً مهموساً.. بعد برهة عاد
بزجاجتين من (الويسكي). اعتذر عن عدم وجود هذا الشراب لديه.



عقَّبت هيلين بالقول: -فيليب.. بعد عودتنا..
أرسل له صندوقين.



امتلأت الأقداح بالشراب اللاذع. انتشت الرؤوس،
وأصبح الحديث حاراً.. مرحاً.. زادته حيوية، وتدفقاً.. هذه الفاتنة المتضوعة بالعطر
المخضلَّة كزهرة بريّة، وهي تطلق طرائفها، التي كانت في غالبيتها تطال جوزها.. في
قهقهة مدوية.. فيرتجّ نهداها كرمانتين تتلاعب بهما الريح.. بينما تتحدث نظراتها
بلغة سرية.. متأججة لهباً في جسد أمير الصيادين الأسمر.



نهض فارس. أشعل النار في موقده، وعندما فتح
خزانته، وأخرج سمكاته.. انطلقت صيحات الدهشة من كليهما.!!



قال: -إن لم يكن لديكم مانعاً.. سأشوي واحدة على
طريقتي.. إن أستسغتم مذاقها.. نكمل.



قالت هيلين مرحبة: -لا.. لا.. كما تشاء.




















-7-










في غمرة الذهول للفعل غير المتوقع.. وضع ماء فوق
تراب نظيف جعله طيناً، وطلى السمكة بأكملها به.. ثم غمرها بجمر الموقد المتوهج



نهضت هيلين.. مراقبة الفعل باستغراب فرح..
راقص.! بدأ البخار يتصاعد من الطين المتشقق، الذي تحول إلى لون فخاري، داكن.



رفعها من الجمر، أخذ بإزالة الطين اليابس..
نازعاً معه جلد السمكة. بدت حارة.. يتصاعد بخار لحمها الناضج.. مرسلاً رائحة
زكية.. عبقت في المكان.



امتدت أنامل هيلين حذرة.. نافرة.! مضغت.. أعادت
الكرّة، وبكمية أكبر.. تلذذت.! ثم بدأت تلتهم اللحم الأبيض، الشهي، كذئبة ساغبة.!!



وضع فارس سمكة أخرى أكبر حجماً بين الجمر
الغاضب، المفرقع بالشرر.



حملت كأسها.. أخذت ترقب البحيرة المتنفسة..
بخاراً ضبابياً مرتفعاً نحو السماء القائظة في تلك الظهيرة.



قالت: -مستر فارس.. هل السباحة فيها خطرة.؟


-لا.. إن كنت تجيدينها.


أخذت حقيبتها.. سارت خارجة من العرزال، واختفت
في دغل من القصب.. عادت مرتدية ثوب سباحة.. كشف عن جسد رائع، ميّاس.!



شدَّت زوجها من يده لمرافقتها.. إلا أنه ترنَّح
مثمولاً، رافضاً أطلقت شتيمة.. قال زوجها بصوت متهدج: -لا تبتعدي عن الشاطئ. ثم
تمتم امرأة مجنونة. قلبت شفتيها ساخرة.. حمرة شفقية كست وجهها وألهبت الخمرةُ
جسدَها.. فبدتْ كمن يريد إطفاء نار تتأجج حريقاً ينتشر في داخلها، فيلسعها بسياط
كاوية .. تثير فيها غرائز شهوانية.



قذفت جسدها في الماء.. اندفعت بعيداً.. هاربةً
من شيء ما.



راقبها أبو الوفا.. لم يعد يرى إلا رأسها بشعره
الذهبي المتناثر فوق الماء.. وهي ماضية تشق مسارها كسبَّاحة متمرسة.



-إنها تسبح كالقرش.. بنت الجنية.!! تمتمَ أبو
الوفا... بينما تابع زوجها طعامه متلذّذاً، وهو ما يزال يكرعُ خمرتَه.



نظر فارس إلى حيث أصبحتْ.. بَدَتْ.. وكأنّها
فقدت القدرة على العوم.. بل وكأَنَّ وحش الماء سوف يبتلعها.. حركاتها فيها نداء
الاستغاثة.!! هبَّ فارس صائحاً: -انظر.. إنها توشك على الغرق.!!



اندفع أبو الوفا نحو البحيرة.. قفز فيها.. رشاش
من قطرات منداحة تطايرت من حوله باندفاعات سريعة.. يداه تضربان، وتشقان الماء
كمخباطين.! لم يسبح في حياته بمثل هذه السرعة.!! وصل إليها، وهي ما تزال تغوصُ في
الماء.. ثم ترتفع فوقه.. جذبها من شعرها والخوف عليها شلاّل.. يَنْصَبُّ في قلبه.



بروق من الدهشة.. بهرَت عينيه.. عندما شعر
باليدين المبللتين، البضتين، تطوقانه بكل قوة.. وجسدها يلتصق بجسده.. صعقه الموقف!
إذاً ليس غرقاً.؟! بل حيلة ماكرة.. من تفاحة آدم لاستدراجه.!!



منذ اللحظة الأولى للتعارف.. كانت ترسل إليه..
ومضات الإعجاب الممغنطة.. تزداد مساحة تأثيرها، وشدتها مع كل ثانية.. أحالته
سابحاً في دائرة جذبها الغامرة.. المتدفقة بالانصهار. مع أن لا شعوره.. كان في
وضعية المقاومة، وعقلنة الرغبة.



عبّ نفساً عميقاً.. نظر في عينيها المبتسمتين في
مكر.. طوّق عنقها بذراعه.. التهمها بشفتيه.. إقتحمها بكامل جسده .. تحسّست.. نبضت
عروقه كعتب البروق.. أحسَّ بالصعق يُفوِّر دمه.. تبعه أُوار من الرغبة تضرب في
أَدقّ خلاياه.. انزلقت يده إلى صدرها.. عرّاها من صدّارتها غاص تحت الماء.. رضع
كطفل جائع.. ضغطها إليه.. اندفع فيها شهاباً خارقاً، ملتهباً.. أظافرها تنغرز في
لحمه.. أسنانها تطبق على رقبته دارا حول نفسيهما.. جسدان من اللحم، والأعصاب،
يحترقان. خلاياهما تتحدان في انصهار متوقد.. فحَّت متأوّهة.. رعش جسدها رعشات
النشوى، وبعينين زائغتين، وجفنين مسبلين.. تراخت بين يديه امرأة مهدودة.. مفعمة
باللذة.



لفَّ خصرها بساعده.. سبح عائداً إلى الشاطئ..
مدَّدها على الرمال.. استرخت بسعادة.. اندفع زوجها.. صافحه بيد راعشة، وجسد
مترنّح: -(ثانك يو.. مستر فارس.!!)



زورقه يفجُّ الماء.. يحملهم في رحلة حول
البحيرة.. مروا بجانب دغل كثيف.. نظر.. تفاهمت العيون.. عادوا.. قفزت كطفلة
أسعدتها نزهة.. انتظرتها بلهفة.



درجت عربة الكابتن فيليب باتجاه منزل أبو
الوفا.. دعاهما لتناول القهوة.. استقبلتهم خديجة مرحبة.. مع أنها صدمت بجمال
ضيفتها.. إلا أنها حافظت على قسمات وجهها.. مبتسماً، بشوشاً.. عزاؤها (امرأة
عابرة) ومع ذلك قالت هامسة.. غاضبة: -لماذا لم تخبرني أيها المحتال أن زوجته مدعوة
أيضاً.؟!!



أراد الضابط دفع ثمن الأسماك.. إلا أنه أصرَّ
على الرفض.. قائلاً:



-في المرة القادمة.. سوف تدفع الثمن مضاعفاً.


عندما صافحتهُ مودِّعة.. قرأ في عينها
بريقاً آسراً من المودّة ودعوة مفضوحة
للقاء.. ولحسن حظه.. لم تستطع خديجة التقاط الرسالة البصرية الفاضحة.!



دار عراك صغير معها.. سرعان ما هدأ.. بعد أن
أقسمَ.. أن الدعوة وُجِّهت لزوجها.. ولقد فوجئ بمجيئها.. إلا أن إحساساً غريباً
ضايقها ذلك الإحساس الأدق من الغيرة، والأعمق.! إنهن يستشعرنَ الأمر بحدس متفوّق
لا يملكه الرجال.. حدس يلامس الحقيقة حيناً، وحيناً يؤكدها.



***















خرج أبو الوفا إلى شرفة منزله.. حدّق صامتاً في
السماء الداجية المرصعة بالعيون
المتلألئة. أُسرَتُهُ الصغيرة نائمة.. وجوههم لوحة صافية من البراءة.. لقد عاش
يوماً نابضاً بالحياة.. لم يعشه من قبل أبداً إلا أنه لم يمنحه السعادة الحقيقية..
فهاتفُ الثأر ما انفكَّ يقرعُ في رأسه أجراسه المُنبِّهة. فكَّر: -كيف.؟؟ وبرقت في
مخيلته: -ولماذا لا تكون الفكرة نفسها.؟؟ والهدف نفسه.؟؟



أحسَّ بالهدوء الذي يعتري من يتخذ قراراً،
ويُصمِّمُ على تنفيذه.



استقبلهم في عرزاله.. اشتركوا جميعاً في تحضير
السمك، وشيّه.



قال أبو ثائر اللحام: -كيف قضيتَ وقتك مع
البريطاني.؟



اختصرَ ردَّهُ: -يوم خمر. تابع سلطان الخضرة:
-وغداً أمر. وعقب اللّحام: -أرجو ألا تكون نهايته كامرؤ القيس.! وضحك الجميع.



قال فارس: -إني بحاجة إلى كمية من أصابع
الديناميت.. مع صواعقها. قطب الخضرا جبينه: -طلبٌ صعب.! ولكنه ليس مستحيلاً.



سأل اللحام: -لِمَ؟! نفرَ فارس قائلاً: -لصيد
السمك.. يا أخي.!!



قال الخضرا: -اسمع يا فارس.. لقد ناقشنا صداقتك
مع البريطاني..



اختلفت الآراء.. ولكنها في النهاية أَجمعت.. أن
ذلك خَطِرْ.. إلا أنهم قرروا أن هذا عائد لكَ.. إن كنتَ لاعباً ماهراً. إن اللعب
مع الإنكليز ليس سهلاً.. إنهم ثعالب.. وأنت تعلم أنهم سبب بلائنا.. جزّؤونا إلى
دويلات.. وضحكوا على فرنسا.. أعطوها الماء، والخضرة، والوجه الحَسَن، وأخذوا
الصحارى الحارقة، لأنهم يعلمون أنها خزانا هائلاً من الذهب الأسود.. وها هم يضعون
يدهم على فلسطين ليقدموها هديّة إلى الصهاينة.!! لقد جاءَ المعلم من صفد خصيصاً..
كي يُحذّرنا.. بألا نسمح لك بتصرف متفرِّد، أَخرق.



قال أبو الوفا متذمِّراً: -شكراً على المحاضرة..
التي يحفظها عن ظهر قلب كل عربي.. ولكني أخذتُ عهداً بالثأر لصديق عمري.



قال اللّحام: -أَطلعنا على ما يدور في رأسك.؟!


ردَّ أبو الوفا: -سيارة تموين مستعمرة (داغانيا)


أوضحَ الخضرا: -غيّروا زمن تحركها بعد الذي
حدث.. ترافقها عربة حراسة، صفّحوا جانبيها بقطع من الفولاذ.



قال أبو الوفا مؤكداً: -سنذلل كل العقبات.. يجب
أن نرد.



قال اللحام: -لن يتم أيّ أمر إلا بموافقة من
صفد.



ردَّ سلطان الخضرا: -حسناً سننقل الفكرة لهم..
وعند الموافقة نجلس ونناقش الخطة مع بقية الأخوان.



استوضحَ أبو الوفا: -ومتى سيكون ذلك.؟


قال الخضرا: -لا تكنْ عجولاً يا فارس.. ليس أقلَ
من ثلاثة أيام.



مضى يومان.. في الثالث.. بكرَّ للصيد.. عاد
بزورقه بغنيمة سَمَكِيَّة جيّدة.. وبثلاث بطّات.. اصطادها ببندقيته الدَّك.. دخل
كوخه.. عضَّهُ جوع.. فتح زوّادته.. وراح يأكل.



لمحَ الشاحنة الصغيرة قادمة (هذا شمعون) سُرَّ
لذلك.. فلن يُرهَقْ بنقلِ صيدهِ إلى المنزل.



ترجَّلَ من عربته، وبرفقته طفل في العاشرة. قال
شمعون: -ولدي صاموئيل. تقدَّمَ منه فارس مُبتسماً.. مُصافحاً.. رفضَ الطفلُ مدَّ
يده وتراجعَ إلى الخلف.! صُدِمَ أبو الوفا، وقال له: -لماذا.؟!!



قال الطفل بلغة عربية مُكسَّرة: -لأنكَ وسخ.!!


ردَّ أبو الوفا متفاجئاً: -ومن قال لكَ ذلك.؟!


-يقولون لنا في المدرسة.. أن العرب خنازير،
قذرون، ورائحتهم كريهة، ويأكلون لحم الأطفال.



تدخَّلَ شمعون: -لا تأْبه.. أبو الوفا.. إنها
ثرثرة أطفال.. هناك جماعة من (السفر ديم) المتعصبين بنثرون سمومهم.



علَّق أبو الوفا: -يبدو أنكم جميعاً تنثرون
السموم.. نحن نعلِّم أطفالنا أن الإنسان.. أخ للإنسان.. من أي قوم، أو دين كان،
بينما أنتم تضخون الحقدَ في قلوب صغاركم.!!



بعدها.. غادر شمعون بأسماكه مسرعاً قدر ما
يستطيع.!



لقد حكى لـه شمعون.. في لقاء سابق. قِصَّة
حياته: عاش طفولته في دمشق، وحسب روايته.. فإن تاريخ عائلته.. يمتدُّ هناك عبر
مئات السنين.. لقد رحل جدُّه الأكبر من إشبيلية، بعد سقوط الأندلس.. خوفاً من بطش
الإنسان.. وقال أن جدّه كان صاحب منصب رفيع في تلك الدولة العربية.. إن دمشق تعيش
في روحه، وقلبه.. حنيناً دائماً لأزقتها وشوارعها.. وأسواقها.. وغوطتها.. ورفاقه
من أطفالها.. إنه لم يشعر أبداً بالغربة، أو بالفُرقة مع جيرانهم العرب السوريين..
وحتى نُطقُهُ ما يزال يحتفظ بتلك اللهجة الشامية المُحبَّبة. أما زوجته (زليخا)
فهي أيضاً سورية.. حلبية المولد.. واعترف.. أنهم عندما هاجروا إلى فلسطين.. تحت
ضغط الصهيونية.. اكتشفوا.. أنهم وقعوا في المصيدة..!!



مرات عدة دار نقاش بينهما.. قال فارس:


-إن اختلاق تاريخ دولة لكم منذ أكثر من ألفي عام
في خرافات وأكاذيب أسفاركم المُلفَّقة بأيدي كهنتكم.. لا يعطيكم الحق بامتلاك أرض
ليست لكم.! لقد عاش أجدادنا العرب الكنعانيون في هذه البلاد منذ آلاف السنين،
وأقاموا فيها دولة، وحضارة.



-ونحن أيضاً كانت لنا دولة على هذه الأرض.


-دُوَيْلة.. تسيطر على رقعة صغيرة، وليس دولة..
ولم تدم سوى ثمانين عاماً.. حسب إجماع كافة المؤرِّخين.



-لنا فوق هذه الأرض الكثير من المعالم
التاريخية.. لنا (موساداتنا) التي نَحِجُّ إليها كل عام.. ويقسم عندها جنودنا قسم
الوطن، والتضحية.



-إنها خرافة أخرى من خرافات مؤَرِّخيكم.! لقد
أجمع العديد من علماء العالم، وحتى علمائكم.. أنها قِصَّة مُزَورَّة.. ولو افترضنا
جدلاً بصحتها.. فقائد الموساداة لا يُمثِّل البطل.. إنه حسب موسوعة المفاهيم
والمصطلحات الصهيونية.. يُمثِّل الخِسَّة، والغدر.. تقول عنه الموسوعة (أن يوسف بن
هاكوهين.. سياسيّ طموح.. لا ضمير له عندما حاصره الرومان في قلعته المزعومة، وهرب
مع جنوده إلى مغارة.



كان قرارهم: الرومان سيذبحوننا لا محالة.. لأننا
ارتكبنا جرائم كثيرة الحل الوحيد أمامنا، هو الانتحار. اقترح عليهم قائدهم القرعة.



ونفَّذ ذلك بحيث يكون آخر المنتحرين.!!! وهكذا
كان.. ثُمَّ سلَّمَ نفسهُ للرومان.. واضعاً شخصَهُ في خدمتهم.! هذا مثال على
غدركُم حتى مع أبناء جلدتكم.



قال شمعون: -ولكن.. لقد أقام أجدادُنا هيكلهم
الأول، والثاني في القدس.. وهذا ما يثبت تجذُّرنا هنا.



-حاولتمْ.. وما تزالون إثبات ذلك من خلال
الحفريات، ورغم المحاولات الحثيثة.. إلا أن ذلك بقي سراباً خادعاً.



-وملوكنا.. ملوك بني إسرائيل.؟!


-في الماضي الق
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
قمرية

قمرية


نقاط التميز
عدد المواضيع : 69
نقــــــــاط : 85
تاريخ التسجيل : 18/02/2010

الرقصة الاخيرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: الرقصة الاخيرة   الرقصة الاخيرة Icon_minitimeالثلاثاء فبراير 23, 2010 9:21 am

القديم.. كان ربُّ الأسرة، وربُّ العشيرة.. يدعى
ملكاً.. إن علماء الآثار التوراتيين، والذين يفخرون بعدم تحيُّزهم.. قد نقّبوا عن
آثار مدينة (عاي، وجبعون) ولكنهم لم يعثروا على شيء يعاصر (يشوع) كما جاء في
التوراة.. إن كلّ الدراسات الإسرائيلية قد أغلقت عيونها عن تاريخ الشعب الكنعاني..
الذي عاش في فلسطين، وعمّرها.!!



أجاب شمعون: -إن إقامة دولة لنا على هذه الأرض
يحمينا من الظلم العنصري الذي عانيناه في أوروبا.. وحتى لا تقع مرة أخرى قَضيَّة
مثل قضيِّة (دريفوس).. أو نساق إلى (هيلوكوست) أخرى.



قال فارس: بسبب جَشعكم للمال، وتآمُركُم،
كَرِهَكُمْ الأوربيون، والضابط اليهودي، الفرنسي دريفوس الذي خان فرنسا، وجيشها..
لمصلحة ألمانيا حوكم على جريمته.. فأقمتم الدنيا بحجة التمييز العنصري.. وأفران
الغاز في الدولة النازية.. أكذوبة أخرى من أكاذيبكم.. ضَخَّمتم الأُمور،
وعَمِلْتُم منها مَحْرَقَة.. لقد كان أغنياؤكم من الصهاينة في (غيتو) وارسو عملاء
للنازية أمثال (غانتس سفايخ) في عصابة المنزل رقم 13 في شارع ليشنو في وارسو
والمحامي (ليفين) والنقيب (ديفيد شتير نفيلد) و (ليون سكوكوفسكي) والقائمة طويلة
من عملاء النازية اليهود.!! لقد أحرقتم أنفسكم.. بأنفسكم بهدف دفعكم للرحيل إلى
فلسطين.!! وها أنتم.. هنا على أرضنا تمارسون أساليب النازية. بل أبشع، وأشد فتكاً،
وتوّحُشاً مع شعب فلسطين.!!



نهض شمعون.. سار خطوات.. ثم عاد قائلاً:


-اسمع أبو الوفا.. أصارحك القول.. جماعتي ذوو
مخططات رهيبة، وأهداف توسعيّة، وهم يعرفون ما يفعلون.. أما أنتم.. فأغبياء.. جهلاء..
تصرّفاتكم ردود أفعال ساذجة.. إن أصابع الصهيونية.. تلعب في أعلى الرؤوس عندكم.



ردَّ أبو الوفا غاضباً: -نحن لسنا أغبياء يا
شمعون.. إننا شعب مُستعمَر بريطانيا تقفُ معكم.. تُسلِّحكم. تدربّكم.. تساعدكم على
تنفيذ مخططاتكم.. لقد اعتبركم الغرب دائماً شرّاً، ووبالاً عليه.. فتخلَّص من
قذاراتكم، ورمانا بكم ليمنع وحدة أمتنا.. ولكن لن نسمح لكم بتحقيق أهدافكم.. ولسوف
تعودون يوماً إلى شتاتكم.



قال شمعون متأوهاً: -آه (خبيبي) أبو الوفا.. كم
أخشى عليكم أنتم من هذا الشتات.. هذا ما تبشّرنا به منظّمة (بناي بريث) أقوى منظمة
صهيونية في العالم.



***


قطع على أبو الوفا قيلولته.. عند ظهيرة أحد أيام
الجمعة.. صوت كابح شاحنة.. وقفت أمام عرزاله.. تبيَّن طلعتها.. خفقَ فؤاده.. إنها
بمفردها زوجة شمعون.. السمراء الجميلة.. امرأة تتفجَّر بالشهوة.. ماذا أتتْ تفعلُ
هنا؟! إنه يشتهيها منذ زمن.. ومع ذلك هَبَّ مُحترساً... خرجَ من كوخه.. نظر يمنة،
ويسرى.



-من أرشدك إلى مكاني.؟!


-من في فمه لسان لا يتوه.


-مؤكد أنكِ سبَّبتِ لي فضيحة مجلجلة.!!


-لا تخشَ شيئاً أيها الرعديد.. إذا كنت تخافُ
زوجتَكَ فهي لم ترني.. درتُ الكرة الأرضية للوصول إليك. قالت هذا، وهي ترشقه بحفنة
رمل.



دخلَتْ العرزال.. أبدَتْ إعجابها: -إنك فنان
أيها العجوز المتصابي.!



فتحَتْ خزانته.. أطلقَتْ صرخة مدهوشة: -ما هذا..
خمّارة.؟! تخصَّرت قائلة: -من يأتيك هنا.. تكلَّم أيها الماكر.؟!



-أَجئتِ للتحقيق معي.؟! خذي ما تريدين من السمك،
وارحلي.



فتحَتْ زجاجة ويسكي.. شرِبَتْ جرعة، صرخَتْ:
-آه.. نار.!



قال وهو يقتحِمُها: -وأنتِ أيضاً.!


كانت تتمدَّدُ مسبلة الجفنين.. لقد صهرها
بفحولته.. تملاَّها عارية، وقد تبقَّعُ الدم تحت جلدها.. فرش فوقها قميصها.. إنه
أمر تحرص عليه المرأة بعد كلِّ احتراق، ويسعدُها أن يفعل الرجلُ ذلك.



أفاقت من انتشائها على رائحة شواءٍ ملأَ صدرها
الناضح بعرق اللذَّةِ.



خرَجَتْ من الكوخ إلى حيث هو.. أمام موقده..
طوَّقت خصره، مسندة رأسها بين كتفيه.. لم يكن يسترها إلا قميصها الداخلي.! صاح
غاضباً: -عودي إلى الداخل أيتها المجنونة. همست: -معكَ لا يهمني أحد.



أخذت تطعمه بيدها.. تساءل مفكّراً: -ماذا تريد
منه هذه اليهودية.؟! هل جاءت للمتعةِ فقط.؟!



لكأنما قرأَتْ ما يدور في خلده: -إنني متزوجة
منذ عشرة أعوام.. هذه أوَلَ مرَّة أشعر فيها بالمتعة.. في صباي أحببتُ شاباً
حلبياً.. ولكنهم حرموني من رؤيته.. ممنوع على اليهودية أن تهوى من غير دينها..
فكيف بالجنس..!! إنني أغامر بلقائي معك.. لو علموا.. لفعلوا بي الكثير.!! إنهم
يسمحون بهذا الأمر.. بل يدفعون المرأة اليهودية إليه، عندما يريدون تحقيق هدف
ما.!! أما أن يكون بغير إرادتهم.. فتلك أكبر الجرائم.!!



ردّ فارس منبّهاً: -إني عربي.. وأَنتِ.. وهناك
حرب بيننا.. كما أن لي زوجة، وطفلين.. فاحذري اللعب بالنار.



-اطمئن.. لا هدف لي.. إلا أن ألتقيكَ بين فترة،
وأخرى.. أَنا امرأَة محرومة تسقي بمائكَ عطاش أرضِها، ولا أكذب إن قلت لكَ.. أني
أحببتك منذ اللقاء الأول.



***


لقد خرجَ من اللقاء معها بفائدة كبيرة..
استخلصَ، وبأسلوب بعيد عن الشبهة مواعيد انطلاق عربة تموين المستعمرة.. ويتمُّ ذلك
بُعيْدَ منتصف الليل.. عربة الحراسة، وعدد الرجال فيها. فكانت الأسئلة على شاكلة:
-لماذا لا تشتري السمك من تعاونية المستعمرة.؟!



وزَنَ لها السمك.. قبضَ ثمنه.. وغادرَتْهُ
مودِّعة.



***


أخبرَ الأُخوان بمعلوماته.. وأعلموه بدورهم..
أنَّ الموافقة جاءت من صفد. مندوباً منها سوف يأتي غداً لحضور الاجتماع، ووضْعِ
خطة العملية.



***


في صبيحة ذلك اليوم الذي تقرر فيه التنفيذ..
بكَّر إلى البحيرة بأكثر من المعتاد.. أبقى زورقه يتمايل فوق المياه.. فترة أطول..
سحب الشبكة.. الصيد قليل.. يبدو أنّ شهقات ضياء الفجر.. لم يمرج في عيون الأسماك..
والسكون ما زال غافياً فوق زعانفها.. وحركة الحياة لم تنطلق بعد في دمائها.



عاد مجدّفاً إلى الشاطئ.. أوشك الرفاق على
الوصول. قبيل التشطيط شاهدهم يدخلون عرزاله.



-كلُّ شيء جاهز. قال سلطان الخضرا، مُدْخِلاً
يده في كيس المتفجرات أخرجها.. وضعها أمامه.. خبرة أبو الوفا في التعامل معها
جيدة.. لقد استخدمها في ما مضى لصيد السمك.



انهمكوا في العمل.. جهّز الملغمة.. نظفوا
الأسلحة. قال أبو الوفا: -يلزمنا عدد من القنابل اليدوية. تحسّر اللحام: -حصرم..
في حلب.!



قال أبو الوفا: -بل عنب.. سوف أُطعِمَكَ حبَّة
منه بعد قليل.



-فأل الله.. ولا فألك.!!


-بلا.. رغي.. أحضر لي ثلاث زجاجات جعة فارغة..
وانزع عنها مُلصقاتها



كسر فارس أعناقها.. أدخل بكل واحدة.. إصبعين من
الديناميت.. مع صاعق اتصل بفتيل بطيء من البارود.. أكملَ حشوها بقطع من الحديد،
والمسامير، أَحكم إِغلاقها بقطع من الخرق، واللاصق.. صاح منتصراً: جاهزة.!



الشبان الأربعة الذين دخلوا العرزال.. أَعمارهم
لم تتجاوز الثلاثين.. أبو سلمى الشاطر، سلطان، أبو رعد، أبو صيّاح. أدرك أبو الوفا
أنه لا يجب أن يعرف عنهم أكثر من ذلك.



قال الخضرا: -الإخوة.. سيشتركون معنا في تنفيذ
العملية.. استطلعتُ معهم المكان مساء البارحة.



وُزِّعت المهام: أبو الوفا، والخضرا، وأبو سلمى
الشاطر لاقتحام عربة الحراسة.



أبو صياح، وأبو رعد، وسلطان، لاقتحام عربة
التموين.



أبو ثائر اللحام، وأبو الفرج.. للحماية.


***


عند النقطة التي تلتَفُّ بها الطريق صاعدة..
بزاوية شبه حادة.. حول تلّة الثعالب، والتي تبعد حوالي العشرة كيلو مترات عن
مستعمرة داغانيا.. حُدِّدت منطقة تنفيذ العملية.. عندما يفرض الطريق الصاعد،
والملتوي.. تخفيف السرعة على العربتين.



تمَّ الاتفاق.. أن يتوجه كلٌّ بمفرده إلى مكان
التجمع.. الذي يبعد حوالي المئتي متر عن الهدف.. أما الانسحاب.. فسوف يكون خلال
وادي القصب، الذي لا يسمح لأية آلية بالتحرك فيه.



ضبطوا ساعاتهم.. وحُدِّد زمن اللقاء في الساعة
الثالثة، والعشرين.. أي قبل خمس وأربعين دقيقة من الساعة صفر.. وكلمة السرّ الشهيد
سعيد.



انقضى هزيع من الليل.. قبّل أبو الوفا طفليه..
وبذل جهداً لإقناعها بسهرة دعي إليها مع الأصدقاء، ولعب ورق الشدة.



مرّ على خربة الطاحونة.. تناول بندقية.. لاحظ
أنه لم يتبقَّ سوى بندقية واحدة.



السماء صافية.. تلألأَ فوق الهضاب، والوديان لون
برتقالي، صاف لهلال عمره أيام عدة.. دخل وادي القصب.. ملأت أنفه الروائح العطرة
لنبتات الغار والنعناع، والزعتر البريّ، وعندما وصل صُعْداً كتف الوادي.. حيث تلة
الناطور. دار حولها باتجاه الصخور المطوّقة لميولها الغربي.. ثم انحدر باتجاه نقطة
الالتقاء. بالقرب من دغل صغير.. تلامع فوق أوراقه شعاع القمر.. لمح أربعة أشخاص
تتلبّس الصخور.. جمد في مكانه.. جلس القرفصاء.. وهيأ سلاحه.. رنَّت في أذنيه كلمة
سعيد.. تكرّرت الكلمة.. تذكَّر.. ردَّدها.. جاءَه الصوتُ حازماً آمراً:



-تابع.. الله معك.


استمر في مسيره.. أَحسَّ كأنما كلَّ جبال،
وتلال، ووديان صفد، وطبريا... قد نفخت فيه ثباتها، وصلابتها، وبعثت في روحه
إقداماً، وعزيمة.



وصلَ إلى منطقة التجمع.. كان الكلُّ هناك..
وعندما أشار إلى الخلف متسائلاً.؟! قال أبو ثائر اللحام: -جماعة الدعم.



تقدَّمَ أبو الوفا نحو الطريق، ومعه أبو سلمى..
بقي عشر دقائق لمرور العربتين.. حفرا حفرة صغيرة فيه.. اختاراها بعناية.. كي تمرَّ
عجلة السيارة فوقها.. وضعا المتفجرات فيها.. موَّهاها.. وعادا أدراجهما.. ساحبين
خلفهما فتيل التفجير. قال أبو الوفا لرفاقه: -الملغمة جاهزة.



ابتدأ العدّ التنازلي.. أنوار العربتين
القادمتين تتلامع، ثمّ تختفيان مع تعرُّجات الطريق. همس أبو ثائر اللحام:
-اللعنة.. إنهما تسيران كما سلحفاة.!!



جاءَه صوتُ أحدهم: -لا تتعجّل.. ستصلان.


برقت حدقات الرجال.. بعد أن كشفت الأنوار..
المعالم المظلمة من حولهم.



تقلّصت عضلات وجه فارس النجدي، وهو يضغط بيده على الفتيل الصاعق هدير
المحرِّكان يملأُ سمعه، وعبرت أذنُهُ اليسرى همسة عجولة: -الآن.



أشعل الفتيل الصاعق، وانطلق الهسيس سارياً،
مسرعاً خلال الفتيل المتلوي بين الصخور، والأشواك. ومض الانفجار عنيفاً، راعداً،
ممزّقاً صمت الليل ارتجَّت الأرض تحته.. واهتزّ الهواء حاملاً صوتاً مدويّاً،
بارقاً.. ونبضت في أوصال الرجال قشعريرة لا إرادية.



صرخات عبرية مذعورة، راجفة.. انفلتت العربة
الأولى متقافزة، ملتهبة باتجاه الوادي.. تفجرت الشجاعة في القلوب.. واقتحم أبو
الوفا، ورفاقه الهدفين.. رآه أمامه يركض مذعوراً.. سدّد.. رشق جسده بالخرادق
القاتلة أزت الرصاصات عن يساره.. مقرقعة الحجارة بأنين صافر. رأى الخضرا يبرز من
العتمة.. تابع اقتحام العربة.. شاهده فيها.. أطلق في صدره، لوّثت وجهه قطرات دم
قافزة، متناثرة.. رشق زجاجة داخل العربة.. خرج بعد انفجارها لسان ناري أحمر، طويل.



أبو سلمى يركض باتجاهه.. انفجر خزان الوقود في
العربة المتدحرجة على كتف الوادي.. أصبحت جحيماً من اللهب.. رآه لابداً بين
صخرتين.



صرخ: -انتبه ليسارك.. إلا أن الطلقات أزّت.. سقط
أبو سلمى متأوهاً.



انقضّ باتجاهه سلطان.. حطّم جمجمته بضربة هائلة
من أخمص بندقيته.



عاد الهدوء.. إلا من فرقعة الأخشاب المحترقة.
جاء الأمر: -انسحبوا.



جمعوا أسلحة العدوّ.. وانحدر الرجال مسرعين في
منحنيات الوادي.. أبو سلمى محمولاً على ظهر أبو الوفا. ومن بعيد بدت أضواء قادمة،
كنجوم تزحف مسرعة فوق الطريق.



وُضِعَ أبو سلمى في خربة الطاحونة.. الإصابة في
الكتف إلا أنها ليست خطرة.. تقرّر أن يُرَحَّل الرجل الليلة القادمة إلى صفد.



خبّأَ فارس قنابله البلورية المتبقية.. لقد تم
الأمر بأسهل مما توقع.!



أشارت ساعة الحائط إلى الحادية عشر ليلاً.. تعبت
عيناه.. طوى المذكّرات.. وأخلد النقيب أمجد إلى النوم.


















-8-










استعدَّ معسكر قرَّاصة لاستقبال الدورة صبيحة
اليوم التالي، فبدا كخلية نحل.. أفاقت لجني رحيقها.. تفقد، ونائبه.. الخيم،
والتموين، والأسلحة والحرس مرّ على خزانات المياه.. تأكّد من نظافتها.. أعطى
تعليماته النهائية.. وعندما أكمل جولته.. عاد ونائبه.. إلى مكتبه راضياً.



حمل الملازم الأول جهاد دعوة عمّه –والد خطيبته-
إلى العشاء.. يتبعها سهرة تراثية.. مع عزف على الرباب، وقَبِلَها النقيب أمجد
شاكراً.



التأم الحشد في مضافة الداعي.. الضيوف الذين
قدموا من قرى عديدة تصدّروا المكان.. تكاثف الجمع حتى ملأ الشرفة الواسعة، المطلة
على حدائق تفاح أجمرت ثمارها.. مخضلّة فوق الغصون المتكئة، المتثاقلة بالعطاء.



تباينت أزياء الرجال.. ثياباً عصرية.. ولباساً
عربياً تقليدياً.. مميزاً بالشماخ والعقال.. ورجال دين بعماماتهم البيضاء، وثيابهم
الطويلة، السوداء.. فتباهى المكان بالرزانة، والهيبة الوقورة.. لذلك دار الحديث في
بداية السهرة خافتاً بين الحضور.



رُفِعَ العشاء.. أُديرت القهوة المرّة مرّة
ثانية.. نهض جادو عريف الحفل الذي كان يحفظ كمّاً ضخماً من القصائد النبطية،
التراثية.. الممتدة كالسماء من جبال اليمن.. إلى نجد، فالحجاز والخليج.. فالأردن..
وصولاً إلى سهل حوران إلى القمم الشامخة في جبل العرب.. طالباً من عازف الرباب
افتتاح السهرة بقصائد يختارها من ألحان الشروقي، والهجيني، والعتابا، والمخمّس
المردوف.



صدح صوت المنشد المتناغم مع اللحن الحنون للآلة
المتجذرة عبر مئات السنين في الصخور الجبلية الشماء، ورمل الصحارى المتوقدة
بالبسالة.. حيث حُداءُ الظعون السارية.. وصهيل الخيول المغيرة.. المنتشية بزغاريد
الصبايا المُخضَّبات بالحنّاء، والعشق، والخيلاء.. يستقبلن الفرسان العائدين.. من
الهول المتلاطم.. المضرّج بالدماء المنتصرة.. خافقة فوق رؤوسهم بيارق زهت بالوثبات
الأبية.. دفاعاً عن الوطن، والكرامة، والذود عن الدخيل والغزل المترفع بالعفة،
والوفاء، والرجولة.



ثملت جديلة شعر الخيل المتوترة.. فوق جلد
الرباب.. فامتزج لحنها الشادي مع القوافي الحارة، الصادقة، المتوهجة في رؤوس
الساهرين طرباً وفي الشفاه المردّدة للشعر إعجاباً.. فنهض التاريخ مستلاً حكاياته
المحرّضة للحاضر.. تغنيه تجربة، وحكمة، وتضيء المستقبل عزماً، وافتخاراً بماضي
أمة.. ذات تراث، وقيم، وحضارة.



تتابع إنشاد الشعراء.. قصائد تفتحت أزهاراً على
شفاههم.. متعددة الألوان والشذا.



كانت المرأة الناصعة بالعفة، المتوهجة بالتضحية،
والكفاح، المزغردة لاستقبال الشهداء.. الصابرة على الآلام.. حاضرة في هذه السهرة..
بأسمائها ومآثرها.. توهّج فعلها.. قصائداً خالدة.. مضمّخة بالعطر، والجمال..
تخلّدها.. أمّاً وأختاً، وزوجة، وحبيبة.. تناثرت أسماؤهن.. نجوماً متلألئة: ميثا،
سعدى فريدة.. ينخين، يحمّسن، يضمّدن، يزغردن.. للبواسل المنقضّة على جحافل الأتراك
المستعمرين في معركة الشقراوية الهائلة عام 1890م، ومعركة خراب عرمان عام 1897م:



عشانك سعدى ملاعب نفني كل الكتائب


ما بيرجع لقرابو السيف حتى يسوي العجائب


وأشرق وجه (بستان شلغين) في قصيدة هادرة..
خلّدها الشاعر.. عندما رفضت مصافحة الضابط الفرنسي، وعندما أجبرها الحضور على
ذلك.. لأنه دخل دارها ضيفاً.. مدت له إصبعها المغطى بفوطتها.. وقالت: -تكفي هذه كي
تصافح يدك الملوّثة بدماء الأحرار.‍‍‍‍‍!! على أية حال أن أقطع إصبعاً أفضل من أن
أقطع يداً.. واستَّلت سكّيناً، وقطعتها.. وعيناه تنظران مدهوشتين.‍‍‍‍‍!!!



من جبال الأوراس الشامخة بالبطولات، والمشرقة
بوجه جميلة، وزهرة إلى جبال الجليل، والجولان الصامدة.. إلى مآذن، وأجراس القدس
المقاومة تناثرت قصائد الشعراء فوق تراب الوطن الكبير... مشاعل تضيء الدروب







وتبعث الأمل.



وبلادنا
ما هي قفر







بالدم
نروي ترابِها





يا
بنت يا عين الصقر







ريح
النَفَل بعبابِها





القدس
حنَّت للفجر







للسيف
يحمي بوابِها








***


انفضَّ السامرُ.. وفي قلوب الرجال.. فسحة من
فرح.. وجذوة من انتشاء واعتزاز، وضياء ولابدّ أن يأتي رغم تشرذم الأمة..
وانكساراتها.. وقيود وسياط قمعها.



***


شعر بالاتحاد الذي افتقده طيلة غيابه عنهم.. أو
فلنقل بالانصهار.. بينه وبين عناصر دورته، الذين أخذوا بالترجل من العربات
العسكرية.. لقد أصبحوا يسبحون في دمه.. نبضاً، ومشاعر. إنهم الأرض التي يزرعها فكراً،
وجهداً لتنبت مقاتلين أشدّاء.. يستخدمون عقولهم، وأيديهم، وسلاحهم.. بفنيّة عالية
كي يسدّدوا للعدو ضربات موجعة.. بأعين تبصر الهدف.. تحدّد الضربة، وتنقّذها راقب
وجوههم.. فرداً، فرداً.. الابتهاج المصوّت ملأ المكان الهادئ.. منذ دقائق مضيت.!
قال في نفسه: ـ لقد نجح المعسكر.. أن يعود المرء إلى المكان الذي سيغرقه تعباً،
وعرقاً، والسرور الداخلي يسري في جسده.. هو الغاية الكبرى التي كان يطمح
لتحقيقها.. لقد حقق التلاحم الحميمي.. بين المُدرِّب والمتَدِّرب لقد عبرتهُ كلُّ
الوجوه.. إلا وجهها.. بقي حنيناً.. .. في قلبه، وعينيه ودفء انتظار حزين.. يتموَّج
بقع ألوان داكنة.. يرسمها فكره القلق.. لوحة تطلُّ منها عيناها مبتسمتين له.



عقد اجتماعاً للمدرِّبين.. شرح فيه أَهداف
المرحلة الثانية للمعسكر.. وفيها سوف تبدأُ المسيرات، وخاصة الليلية منها، وكذلك
اجتياز الموانع على الحبال والنزول بواسطتها من الأماكن المرتفعة.. ركَّز بشكل
خاص.. على دروس الطبوغرافيا، وقراءة الخريطة العسكرية، واستخدام البوصلة في تحديد
سموت التحرك.. للوصول إلى نقاط الازدلاف، وكذلك الترجّل من العربات، وهي في حالة
المسير. وزّعت الخطط، والبرامج على القادة.. أصبح كل شيء جاهزاً للبدء في العمل
صبيحة اليوم التالي.



وصلت الإذاعة إلى المعسكر.. صدحت الأناشيد،
والأغاني الوطنية وأُعطيت من خلالها الأَوامر، وحُدِّدَ الاستماع إِلى نشرة أخبار
الظهيرة فقط.



***


الشمس لها رائحة أزاهير الربيع المتضوِّعة.. في
السهل، والوعر حولها والهواء مشرَّباً برائحة زهر الليمون، واللوز.. المتناثرة
أشجاره حول القرية في ذلك المساء من منتصف نيسان.. كانا يسيران متريِّضين على غير
هدى فوق المصاطب الصخرية.. المتناثرة، والمرتفعة قليلاً فوق سطح الأرض كنبتات فطر
عملاقة بألوانها البيضاء والبنيّة.



سأله الملازم أول جهاد عن أخبار ليلى النجدي..
قال.. إنه لا يعرف شيئاً، تحدثا عنها.. وعن ظروف حياتها.. وأكد له.. أَنَّ لديه
إحساساً قويّاً ببراءتها مع التحفُّظ.. فيما لو هنالك أسرار لا يعرفها.. وشاركه
جهاد رأيه بحماسة.



تابعا سيرهما شرقاً.. وهما يملآن صدرهما بالنسيم
الربيعي المنعش. وصلا إلى فسحة ترابية. توسطتها مجموعة من الحجارة.. نبتت بينهما
جمّة خضراء من نبات الدردار. قال جهاد، وهو يمدّ يده خلالها ليقطع بعضاً منه:



ـ هل تعلم مدى فائدة هذا النبات؟ ولكنه لم يكمل
فعله.. إذا اصطدمت يده بجسم صلب، بارد.. حاول رفعه.. كان عالقاً تحت الحجارة.. أخذ
بإزاحته.. قال أمجد مستغرباً : ـ ما تفعل.؟!



ـ يوجد شيء ما تحتها.!


أَبْعَدَ عدداً من الحجارة.. دسَّ يده ثانية..
سحب هذا الشيء بصعوبة، ومن بين النبات النديّ.. برز سيف ثقيل، محدَّب.. عاجي
القبضة.



تأملاه مدهوشين.. مسحا عن نصله الفضيّ..
المُشرَّب بالسُمرة.. قدرما استطاعا من الطين والتراب.



ـ (شوية ميّ .. بيرجع جديد) قال النقيب أمجد.
لاحظا أَنَّ كُتلاً صغيرة ليست بالطين عالقة به.. لقيا صعوبة في إزالتها: لعله
دم.! همس جهاد.. قرأ على مؤخِّرة النصل كتابة محفورة: الله. الحقّ. الناصر. وعلى
الوجه الآخر: حمد الحلبي 1120 هجري. بحساب صغير.. قال جهاد: ـ عمر هذا السيف 272
عام قال أمجد: ـ احتمالان للاسم.. إما صانع السيف.. أَو مالكه.



ردّ الملازم أو جهاد: ـ المختار أو شبلي.. يمكن
أن يفيدنا في هذا الموضوع عندما عاد إلى المعسكر... والغسق لما يترجل بعد. انطلقت
التعليقات الجادة، والمداعبة، واجتمع العديد ممن كانوا في ساحة المعسكر.. للتفرج
على هذا الحسام.. الذي نهض مشرعاً من جديد.. من رحم تراب الوطن.



هكذا تمخَّض هذا النهار.. عن حدث اعتبره الملازم
جهاد.. يوماً غير عادي وكان فيما بعد، وعبر السنوات التي عاشها. تاريخاً، ومفصلاً
خاصاً من حياته لن يمحوه النسيان. لقد برق في روحه.. شعور غامض، ضبابي، يجوس عقله
يقول: أنّه.. في يوم ما.. في بعد زمنيِّ ما.. مُحلِّقاً بروحه إلى مكان ما يوحي
له.. أنه هو.. وهو وحده.. كان صاحب هذا السيف.!! إلا أنه لم يستطع البوح بهذا
الخاطر.. لأي أحد.. حتى ولا لخطيبته غادة.



الساعة تشير إلى السابعة مساء.. انتهت دروس
تعليم العبرية.. ودخل النقيب أمجد مكتبه.. فتح الخريطة العسكرية للمنطقة، واستدعى
كافة المُدَرِبين بدا كلامه بالقول: ـ حسب البرنامج.. ستنفذ الدورة.. مسيراً
نهارياً عبر اللجاة، وحدد بقلم بنيّ.. محور التحرك.. تابع كلامه: ـ نقطة الانطلاق
قرّاصة. نقاط العبور: قرى.. حرّان، لبّين، جرين، داما، الشومرة. نقطة الانتهاء
الصورة الكبيرة المسافة 40 كم. الطعام، والماء إفرادي. الاستراحات ثلاثة.
الانطلاق.. الساعة الرابعة من فجر بعد غد. كانت الاستفسارات قليلة. انصرف بعدها
المدربون إلى قاعة الطعام.



تحرّر من ثيابه الرسمية.. وتحرّر من مسؤولياته..
تمدد فوق سريره، وعاد إلى مذكرات فارس النجدي.. يقرؤها بشغف، ويعيش مع أسطرها بكل
حواسه.



***


ما إن انبلج الفجر.. حتى ضجت المدينة بهدير
محركات عربات الجنود الإنجليز، وهم يدبّون في كل مكان.. يفتشون المنازل، ويرطنون
بالأوامر. زعيقهم يعكِّر كلَّ شبر في طبريا.. مروّ عين النساء، والأطفال.



اقتيد العديد من الرجال، والشباب إلى الساحات.
خبط الجنود على باب فارس النجدي.. خرج مسرعاً.. دفعوه إلى العربة التي انطلقت به
إلى مدرسته مكان التجمع، انهمك آخرون في تفتيش منزله.. في سمعه ما يزال يدوّي صراخ
طفليه، واحتجاجات خديجة الخائفة، الغاضبة.



بزغت شمس الصباح المكهرب.. المدرسة مكان أوليٌّ
للتحقيق.. الموقوفون يدخلون إلى الاستجواب بالتتالي. أزعجه كثيراً نسيابه علبة
تبغه.. وخاصة أن الحرس منع أي حديث بين المعتقلين.! نظر باتجاه أحدهم الذي أَشعل
سيجارة جاءَه الفرج.. إلا أنَّ جندياً ضربه بعقب بندقيته.. مشيراً إليه برميها.



قال المحقق بعد تسجيل هويّته: ـ هل تمتلك
سلاحاً.؟



ـ أجل.. بندقية صيد صغيرة لصيد العصافير.


مدَّ المحقِّق يده إلى مجموعة من الأسلحة
القديمة قائلاً، وهو يمسك ببارودة دك.. هذه لك؟ فأشار أبو الوفا موافقاً بهزة من
رأسه، ورغم ذلك.. نظر المحقّق في سبطانتها.. كانت لامعة.. لا أثر للإطلاق فيها.



بعصبية قال المحقّق: ـ أين كنتَ البارحة بين
العاشرة، والثانية عشرة ليلاً.



ـ في بيت سلطان الخضرا نلعبُ الورق.. وقد عدتُ
إلى منزلي بحدود الثانية عشرة والنصف. قال ذلك، وهو ينظر في عيني المحقق.



ـ ألم يكن القتيل سعيد صديقك الحميم؟!


وبدون أن يطرف له جفن أجاب: ـ أَجل.. وله أصدقاء
كثر.. لقد كان محبوباً من الجميع.



قال المحقّق باستغراب مصطنع: ـ صديقك، وقريبك..
أليس من واجبك التفتيش عن قتلته.؟!!



ـ قُتِلَ في صفدِ.. وما أَعلمه أَنَّ الحكومة
تتولى التحقيق في الجريمة.. إِنها المسؤولة عن أَمن المواطنين.



ـ ألم تخمِّن أبداً هوية القتلة؟


ـ كل ما أعرفه.. أَنهم قتلوه قرب مستعمرة
يهودية.



تابع المحقق: ـ ما هو برأيك السبب الذي هوجمت
لأجله سيارة تموين المستعمرة.؟!



ـ أية سيارة تعني.. إنني لا أَعلم عما تتحدث..
ومستغربٌ وجودي هنا.!!



ـ ضرب المحقق الطاولة بقبضة يده، وقال هائجاً: ـ
ألم تسمع صوت انفجار وإطلاق نار.؟!!



ـ لم أسمع شيئاً.!!


ـ إنك تكذب.! لديك سبب هام.. ودافع كبير..
للثاْر لصديقك.!!



ـ إنني موظف.. ولي سمعتي، وسلوكي المحترمين،
وأحترم القانون.! ولا أُؤمن بالثأر للوصول إلى حقي.



ـ سوف نرى.. خذوه إلى الباحة.


أدرك أبو الوفا أن التحقيق هذه المرة.. سيكون
مختلفاً.. إنهم يقفون إلى جانب الصهاينة.. هذا الأمر يدركه حتى البلهاء.. إن
القتلة من عصابات الأرغون وشتيرن.. يسرحون، ويمرحون.. يعيثون قتلاً.. وإجراماً في
كل فلسطين تحت سمع وبصر الإنكليز سبب البلاوي.!!



سافر فكره بعيداً.. مجتازاً كل جبال، وسهول
فلسطين.. إلى هناك.. حيث أُمتّه الغفيرة.. زفر بحسرة.. تذكَّر.. أنه قال مرة
لخديجة: ـ العرب لا حيلة لهم.. إنهم يرزحون مثلنا تحت الاستعمار، وحكوماتهم
قميئة.. خانعة. ويومها ردّت أم الوفا بغضب: ـ بل خونة، وعملاء. لا همّ لهم سوى
كراسي الحكم وجمع المال.!!



أحاط بنظره كلّ المتواجدين في ساحة المدرسة..
وهم يستندون جدرانها وقوفاً. بدت وجوه الجنود بلهاء.. وظهر عليها التعب، والإرهاق.



في ركن بعيد عنه.. يقف سلطان الخضرا.. مبتسماً
كعادته. إشراقة من مرح طفولي.. ترتسم على وجهه الأسمر.. لوّح له بيده.. وردّ عليه
بتحية واثقة، وهو يبادله الابتسام.



***


وقفت شاحنة عسكرية.. نوديَ على أَسماء عددٍ من
الموقوفين.. كان أَبو الوفا أحدهم.. صعدوا إليها.. وهم يتلقون ضربات الجنود. جمهرة
من النساء والأطفال.. اندفعوا باتجاهها.. صائحين، باكين. تابعت العربة صعودها على
طريق المعسكر البريطاني.



أخذ الرجال يتبادلون أحاديث اللحظات المتوتِّرة.
قال أحد المعتقلين الغريب الوجه على فارس النجدي.. عندما بدؤوا بالترجل.. بعد
وصولهم باحة الثكنة:



ـ اصمدوا يا شباب.. ولا تجبنوا أمام أي نوع من
التهديد، أو التعذيب.



حُشروا في برَّاكة لا تتسع في حقيقتها.. لنصف
عددهم.! استغلّ البعض منهم هذا الوضع لإلقاء الطُرَف، وخاصة الخضرا.. (اللي ما
بخلي على القلب همّ) وكان يشاركه مرحه.. فتى في العشرين.. عيناه براقتان.. مدورتان
كعينيّ قطّ.. وبشارب ثخين تحت أنف أشمّ.. كان الخضرا لا ينفكّ يداعبه.



ـ محمد يا صيداوي.. هات ما عندك.


إلا أن علائم الجد.. لم تكن تفارق وجه رجل.. ربع
القامة.. انحشر جالساً القرفصاء.. أَنيق الملبس.. هادئ النظرات.. ذو قذال أشيب،
وشاربين كثين أَطّرت وجهه لحية قصيرة، مدبَّبة، سوداء، أوغلت فيها شعيرات شائبة،
زادته رصانة، واحتراماً، مثل كلماته المشجّعة التي قالها للرجال عند الوصول إلى
الثكنة العسكرية.



همس أبو الوفا في أُذن الخضرا: ـ من هذا الرجل.؟


ـ إنه مدير مدرسة إعدادية صفد.. عكّاوي الأصل..
يدعى أبو خالد حيّان الغزي.



تمتم أبو الوفا: ـ الغزّي. الغزّي.؟! أجل ذلك
جيداً.. كان لي رفيق بهذه الكنية.. نلعب سوياً.. أهله جيران لنا في عكا.. لعله
هو.؟؟



تقدم فارس نحوه.. وبصعوبة خلال الزحام..
تعارفا.. تعانقا.. قفز الماضي إلى ذاكرتيهما.. ضاحكاً، عابثاً، سعيداً، على أرجوحة
الطفولة.. تتابع الحديث متقدماً باتجاه الحاضر، وهو يبرز الأيام الصعبة التي يعيش
الناس أوقاتها.!!



ـ ولكن لماذا رحلت إلى صفد.. أتصوّر الحياة في
عكا أفضل.؟ قال الغزّي زافراً:



ـ بل أسوأ ألف مرّة.. لقد حوّل الصهاينة المدينة
جحيماً لا يطاق.. بالرغم من إدعاء الإنكليز تحديد هجرتهم، وحظر إدخال السلاح، أو
حمله.. إن شيئاً من هذا لم يُنْفَّذ.! إن الهاجناه جيش حقيقي.. وهم هناك يتصرّفون
كحكام حقيقيين.!!



ـ لم تعلمني عن سبب رحيلك إلى صفد.؟


ـ حالة نفي.. أُتهمتُ بانضوائي للمقاومة..
صادروا أرضي بحجة أنها أملاك دولة.. رغم الوثائق الدامغة.!



قطع عليها الحديث.. اقتحام رقيب بريطاني،
وبرفقته جنديان، نادى بعربية ثقيلة: ـ محمد الصيداوي، سلطان الخضرا.



أُقتيد الشابان.. سرت همهمة بين الموقوفين..
سرعان ما هدأت ترقَّبا.



لمحهما أبو الوفا من النافذة المشبّكة بالحديد،
وهما يدخلان برفقة الحرس بناء إسمنتياً كبيراً.









تابع أبو الوفا كلامه مع رفيق طفولته: ـ ولكن..
كيف أعتقلت هنا في طبريا.؟!



ـ كنت في زيارة لبيت صديق لي.. عندما داهموا
المنزل.



بانفجار بركاني، عصبي، مرتعش، تعالى صوت أحد
الموقوفين وهو يضرب بقبضته الجدار: ـ أنا بريء.. والله العظيم بريء.. بحياتي لم
أعتدِ على قِطّة.!!



قاطعه الغزي بحدة: ـ عيب يا رجل.. تمالك نفسك.!!
وبهيجان شديد هاجمه الرجل صارخاً: ـ إن كنت أنت القاتل اعترف.. وأَرحنا من
العذاب.. كن رجلاً واعترف.. نحنا.. مش قد الإنجليز.!!



مثل إعصار.. اندفع فارس النجدي إليه.. أطبق على
عنقه بأصابع حديدية تشنج الرجل.. ارتجف، وبصعوبة تمكنوا من تخليصه من غضب قاتل.



هدأ الهيجان.. توقفت سيارة عسكرية في الساحة..
ترّجل منها خمسة معتقلين.. كان من بينهم أبو ثائر اللحام.. سيقوا إلى براكة
مقابلة.



شمس الظهيرة.. ترسل شواظاً لاهباً.. جعلت من
المحشر الذي صنع من ألواح التوتياء أتونا مستعراً.. انداح عرق المعتقلين دبقاً،
لزجاً.. التصقت ثيابهم بجلودهم، وأصبح تنفسهم ثقيلاً، متعباً.. اشرأبت أعناقهم،
وهم يتطلعون دورياً من النافذة الوحيدة.. إلى ما يجري أمامهم.



أُحضِرَ الشابان مكبّلي الأيدي.. ممزقي الثياب..
يسيران مترنحين.. حفاة وآثار تعذيب مبرّح يبدو عليهم.. أُلقيا على الأرض.. وضعت
أرجلهما في أنشوطة.. وانهال عليهما جنديان ضخمان بضرب متوحش لا يرحم.! صرير أسنان
المعذبين، وأنينهما الخافت المتواتر. يسمع في براكتهم.! إلا أن الأمر الواضح..
صمودهما ببسالة، ورجولة صابرة.


لقد بدا جليّاً.. أن حفلة التعذيب المشاهدة من
الجميع.. ذات هدف محدد..

110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
????
زائر
avatar



الرقصة الاخيرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: الرقصة الاخيرة   الرقصة الاخيرة Icon_minitimeالأحد مارس 07, 2010 3:13 am

مشكوره ودمتي في المنتدى
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الرقصة الاخيرة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشواجرة :: الفئة الأولى :: اقسام المنتدى :: منتدى القصة والرواية-
انتقل الى: